(بقلم الأستاذ مسعود صبري – رابطة العلماء السوريين)
أضحى النفاق السياسي ظاهرة بارزة في الحياة السياسية في حياة المسلمين، وأضحت المجتمعات الإسلامية التي كانت معروفة بالصدق معروف بعضها في الشأن السياسي بالنفاق أكثر من السياسيين غير المسلمين، بل ظهر في مجتمع المسلمين مسوخ أشبه ما يكونون بأعداء الإسلام، متناسين أنهم ينتمون لهذه العقيدة وذلك الدين، وأن وجودهم في ديار المسلمين يوجب عليهم أن يكون منطلقهم ومنهجهم هو هذا الدين وتلك العقيدة، لكن السياسة – في كثير من بلاد المسلمين- أضحت قائمة على المصالح الحزبية، والمطامع الشخصية، فلا الدين نصروا، ولا الدنيا أقاموا، ولا انتصروا لأوطانهم، وسعوا لرفعتها، بل عند البعض استعداد أن يبيعوا الوطن بمن فيه مقابل مكاسب واهمة، ومطامع زائفة؛ ذلك أن الدين قل في نفوسهم، وطمس على قلوبهم فهم لا يفقهون. إن خطر النفاق بشكل عام والنفاق السياسي بشكل خاص مدمر للمجتمعات، آكل للخيرات، موقع في البلايا والمصيبات، يكاد يهلك الحرث والنسل، والله لا يحب الفساد. وقد ساعد على ذلك – كما وصف الشيخ محمد الغزالي رحمه الله- عجز الداخل، وكيد الخارج، فأصحاب المشاريع الإسلامية عجزة عن تحقيق مقاصد الشريعة، قليلو الخبرة، ليس عندهم حنكة، فلا هم قادرون على وضع رؤية استراتيجية، ولا عندهم قدرة على مواجهة التحديات، فهم أصحاب نوايا حسنة، لكنهم على التغيير والإصلاح عجزة، أما غير أصحاب المشاريع الإسلامية، فهو إما معاد للتوجه الإسلامي من الناحية الفكرية، فهو يريد أن ينصر مذهبه، وينشر في الناس دعوته، سواء كانت دعوته ليبرالية أو شيوعية أو غيرها، فهم ينتمون إلى الإسلام انتماء ظاهرا، ويحاربونه جوهرا، وهذا من أظهر أصناف المنافقين سياسيا في مجتمعات المسلمين. أما كيد الخارج، فهو غير خاف على أحد، فأصحاب القرارات في بلاد المسلمين لا يقدرون على اتخاذ قرارات تخالف القوى العالمية، سواء كان ذلك بشكل مباشر أو غير مباشر، وذلك أننا نعيش في حالة من الضعف الحضاري، وقد صدق فينا قول نبينا صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه أبو داود «يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، فقال قائل: من قلة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن، قيل: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: حب الدنيا، وكراهية الموت». ولقد أبان السلف الصالح من الصحابة والتابعين وتابعيهم عن صفات بعض المنافقين، وتلك الأوصاف نجدها في النفاق السياسي، فقد سئل حذيفة بن اليمان صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما المنافق؟ قال: الذي يصف الإسلام ولا يعمل به”، وهذا صنف نراه في الناس الآن، يحاول أن يتكلم باسم الإسلام، وهو أبعد الناس عنه. بل وجدنا من المنافقين في المجال السياسي من يقدر على التأثير على الجمهور، حتى إنه ليبكي كذبا، ويتجرع زورا، فيصدقه الناس، كما نقل وكيع في كتابه الزهد، ص:788 عن شعيب الجبائي – وكان يقرأ الكتب قال: ” في بعض الكتب: إذا كمل فجور العبد ملك عينيه، فإذا شاء أن يبكي بكى “. ومن معالم النفاق السياسي اليوم والذي تحدث عنه السلف – رضوان الله عليهم- المجاهرة بالنفاق، فلا يستحي الناس من أن يجاهروا أنهم ضد تعاليم الإسلام، وأن تلك التعاليم بالية صحراوية كانت لمن عاش القرون الماضية، أما الآن، فلابد أن يكون لنا دين جديد، أو أن نطوع الدين لحياتنا، بل يصفون كل من تمسك بالدين بالرجعية والتخلف، فعن حذيفة قال: «المنافقون الذين فيكم اليوم، شر من المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم» . قلنا: لم ذاك يا أبا عبد الله؟ قال: «لأن أولئك كانوا يسرون نفاقهم، وأن هؤلاء أعلنوه» . وما أحسن ما قاله الشيخ مصطفى السباعي في كتابه: هكذا علمتني الحياة (ص: 309): أكثر الناس ضحكاً على الطاغية في قرارة أنفسهم هم المنتفعون منه، ويوم يزول يكونون أكثر الناس لعناً له؛ إلا أن يكون فيهم ذمّاء من الوفاء والحياء، وقلَّ أن يكون عند أعوان الطغاة أثر منهما. وقد أبان القرآن الكريم عن صفات المنافقين، وتلك الصفات منها ما ينسحب على النفاق السياسي وغيره، من ذلك: 1- سعي المنافقين للفساد: وهذه أولى سمات المنافق السياسي، فأخلاقه وصفات وسلوكياته كلها تؤدي إلى إفساد الحياة، وهم يحاولون أن يوهموا الناس أن كل ما يفعلونه هو من باب الإصلاح، كما قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ} [البقرة: 11، 12]. 2- الخداع: ومن صفات المنافق السياسي أنه شخص مخادع، لا يتورع عن استعمال الحيل والأكاذيب، وأكثر من يخادعهم هم المسلمون، ولكنهم مع غيرهم صادقا؛ خشية وخوفا منهم، وفي وصفهم قال الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [البقرة: 8 – 10] 3- الاستهزاء بالمشاعر الدينية: وتتجلى صفات المنافق السياسي بمجاراة الناس في دينهم وهو كاره له، فإذا بوجهه عبوسا حين يشارك المسلمين في شعائرهم، إذ قلبه لا يسكنه الإيمان الصادق، بل قد تشرب النفاق، وحين يكون مع أعداء الله يعتذر إليهم عن المشاركة في تلك الشعائر، ويخرج ما في داخله من أنه إنما يفعل ذلك استهزاء، ولهذا، فإن الله تعالى يحرمه التوفيق، فتراه متخبطا لا يستقر على شيء، ولا يوفق لشيء، وفي ذلك يقول الله تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ . اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ . أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (} [البقرة: 14 – 16] 4- كراهة تحكيم الشريعة: والمنافق السياسي بينه وبين تحكيم الشريعة كراهة بالغة، فهو يكره تحكيم الشريعة أكثر من بعض الكافرين، بل نجد عداء سافرا بينه وبين أحكام الله تعالى، فحين يسمع عبارة ” تطبيق الشريعة” تراه منزعجا مرعوبا، وكأن الشريعة هي التي تؤرق مضجعه، فلا يدافع عنها، بل يدافع عن عدم تطبيقها، وقد جرى لبعض المنافقين السياسيين، وكان في منصب مرموق، وكان يزور معرض كتاب، فرأى كتابا عن تطبيق الشريعة، فقال لصاحب الدار: أما زلتم تنشرون مثل هذا الكلام الفارغ!! وذلك في بلد مسلم كبير!! وفي أمثال هؤلاء قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا } [النساء: 60، 61]. 5- الاستغلال: ومن معالم شخصية المنافق السياسي في القرآن أنه شخصية استغلالية وصولية، فكل همه كيف يحصل إلى مبتغاه بكل وسيلة، وإن تلون بألف لون في المعاملة، فهو إن أعطي من المناصب والجاه والأموال رضي، وإلا كان لسانا سليطا يقلب الحق باطلا والباطل حقا، وفي وصف هؤلاء قال الله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ } [التوبة: 58] 6- الأمر بالمنكر: ومن أهم ما يشين المنافق السياسي هو سعيه الدائم للأمر بالمنكر، فهو لا يعتبر ميزان الحلال والحرام، أو المصالح والمفاسد، بل هو غالبا في جانب الحرام والمنكر، ليس من باب الرضا بهما فحسب، بل من باب الدعوة إليهما، فدائما ما يأمر الناس بالمنكر وحث عليه ويهون من شأنه، ويزينه للناس، فهو في ذلك شيطان رجيم، ولهذا يعم الفساد في البلاد في مجال الصحة والاقتصاد والفن والعلاقات الاجتماعية والأطعمة والأدوية وغيرها، وقد قال الله تعالى في مثل هؤلاء: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } [التوبة: 67]. 7- الخصام: ومن صفات المنافق السياسي كثرة الخصام وكثرة الأعداء، وذلك أنه لما كان كل همه المصالح، وهي متنافس عليها بينه وبين أقرانه، فإنه لأجل أن يكسب ما لا يكسبه غيره لابد من المنافسة غير الشريفة معهم؛ فيخاصمهم، وإن كسبوا هم مالم يكسبه هو فهو يسعى إلى إزالة النعم عنهم، فهو خصام دائم مع كثير من الناس، وعلاقته مع غيره قائمة على المصالح، فهو يصاحب للمصلحة، فإن حصل على مصلحته؛ انتهت صداقته، وتغير حاله، ولهذا، فالمنافق السياسي دائم الخصام مع غيره، وقد وصف الله تعالى هؤلاء بقوله سبحانه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} [البقرة: 204]. 8- السعي للفتنة: والمنافق السياسي دائم السعي للفتنة، لأن وجود الفتنة عامل من عوامل نجاحه، فهو يسعى للفتنة بين الناس وبين الجماعات وبين الهيئات، فالفتنة من أهم مقاصدهم التي يسعون إليها؛ لأنهم يعيشون عليها، ويأكلون من موائدها، ولهذا حذر الله تعالى منهم، فقال: {لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ } [التوبة: 48، 49] 9- الظلم: والمنافق السياسي إنسان ظالم، لا يعرف العدل إلى قلبه طريقا، لأن العدل لا يتولد إلا عن المخلص الذي يبتغي بعمله وجه الله والدار الآخرة، أما المنافق الذي لا هم له إلا مصلحته، فكثيرا ما يقع في ظلم الناس وهو غير مبال، ودعوات الأبرياء صاعدة إلى السماء تشكو إلى الله تعالى ما وقع عليهم من ظلمه، والله تعالى ربما أملى له حتى إذا أخذه لم يفلته، ويصف لنا القرآن الكريم أوصاف هؤلاء بقوله تعالى: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ . وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ . وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ . أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [النور: 47 – 50] 10- موالاة الكافرين: ولما كان المنافق السياسي لا يريد بعمله السياسي وجه الله تعالى، ولا نصرة دينه، بل عبد مصلحته وهواه، فكان لزاما عليه أن يولي قلبه شطر الكافرين، يستنجد بهم، ويعبدهم من دون الله، فهم أولياؤه من دون الله والمؤمنين، فبهم يحتمي، وعليهم يتوكل، ولهم يعمل، فيبتغون عندهم العزة والسند والحماية، وقد وصفهم الله بقوله: {الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا . وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا } [النساء: 139، 140].