مقالاتمقالات مختارة

الذين خسروا أنفسهم

(بقلم أحمد سالم – مدونات الجزيرة)

“والتواصي بالحق يدخل فيه الحق الذي يجب، والحق الذي يستحب، والصبر يدخل فيه الصبر الذي يجب، والصبر الذي يستحب، فهؤلاء إذا تواصوا بالحق وتواصوا بالصبر= لم يكونوا من الذين خسروا أنفسهم وأهليهم”.

ابن القيم.

(1)

الحمد لله وحده.. وبعد..
فإن من حقائق الوحي والإيمان التي ينبغي أن يملأ بها عباد الله قلوبهم وتطمئن إليها نفوسهم= أن يعلموا أن وعد الله لعباده بالنصر المحتم الذي لا يتخلف له صور لا بد من فهما؛ لأن اشتباهها واختلاطها يٌفسد على الإنسان إيمانه وعمله.

الصورة الأولى من صور النصر: هي الفوز العظيم يوم يقوم الأشهاد حين ينصر الله المؤمنين على الكافرين فيودعهم الجنة دار الكرامة بينما يحل الكفار على النار دار الذل والمهانة.

الصورة الثانية من صور النصر: ما يكتبه الله عز وجل للمؤمنين في الدنيا من الهداية للحق والقيام بأمر الله عز وجل، والظهور بالحجة والبيان، والدعوة للإيمان والتنعم بالتعبد والعلم وإن لم يكن مع ذلك الغلبة الدنيوية والتمكين في الأرض والسلطان على الكافرين، بحيث يكون من قتل شهيداً أو ضيق عليه غير المؤمنين دنياه= هو المنصور حقاً وإن كان السلطان والغلبة لمن قتله أو ضيق عليه.

الصورة الثالثة من صور النصر: نصر الله المؤمنين على الكافرين ولو في العاقبة البعيدة التي تنتصر فيها أمة لأمة سبقتها بأجيال وقرون من ورثة أمة سبقتها بأجيال وقرون، ولو بالعذاب والبلاء والخزي من غير فعل من المؤمنين، ولو على يد قوم آخرين، ولو بالنصر الخاتم على يد المسيح آخر الزمان.
وفي حديث هرقل: كيف الحرب بينكم وبينه؟ قالوا: الحرب بيننا وبينه سجال يدال علينا المرة، وندال عليه الأخرى، فقال “كذلك الرسل تبتلى، وتكون لها العاقبة”.

والعاقبة للرسل قد تكون على يدهم أو يد أتباعهم من بعدهم. فهذه صور ثلاث لتحقق وعد النصر الذي لا يتخلف أبداً عن عباد الله المؤمنين. تبقى صورة من النصر هي موضع الفتنة والشبهة وهي التي يضل الناس حين يحملون كل نصر في الوحي عليها:
وهي النصر الدنيوي والغلبة والتمكين في الأرض لفئة معينة من المؤمنين أو لجيل معين من المؤمنين، فيعلو من ظلمه ويغلب غلبة الشوكة على قوم لا يتقون.

وهذا اللون من النصر والغلبة من الأسباب المعينة عليه تحري تحصيل الرتب العالية من الإيمان والاتباع والطاعة. ونقصان كل واحدة من هذه يكون من أسباب الهزيمة إلا أنه لا حتمية هاهنا كالصور السابقة؛ فقد يتخلف فلا يحدث النصر للفئة المؤمنة رغم كونهم من أهل المقامات الإيمانية العالية، لذنب ونقص فيها يعاقبهم الله عليه وإن كان لا يعاقب غيرهم ممن أتوا هذا الذنب وأعظم منه وليسوا أحسن من أولئك إيماناً؛ لأن هذا هو الخير الذي يريد الله أن يرفع درجتهم به، ففوات النصر حينها هو النصر حقاً، واختيار الله لتأخير النصر عنهم يكون لأسباب تزاحم ما عندهم من الإيمان في طرف المعادلة الأيمن؛ فترجح عليه.

قال تعالى{ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلوا بعضكم ببعض}.
وقال {وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا مرجعهم ثم الله شهيد على ما يفعلون}.

فإن العلاقة بين النصر الذي هو الغلبة الدنيوية والتمكين في الأرض، وبين الإيمان ليست علاقة ضرورة رياضية: فقد يعد الله فئة معينة من المؤمنين بالتمكين في الأرض، والله لا يخلف الميعاد= فتراه يوفيه لهم كما حدث مع بني إسرائيل ومع نبينا وأصحابه.

قال تعالى: {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون}.

فهذا وعده سبحانه لنبينا وأصحابه، لكن الله سبحانه لم يعد كل فئة من المؤمنين بهذا اللون من المعين من النصر، وإنما النصر الذي يعد الله به كل فئات المؤمنين وعداً لا يخلفه هو ما كان من الصور الثلاث الأولى.

أما نصر التمكين في الأرض والغلبة الدنيوية فقد يرزق الله به الأنقص إيماناً ويمنعه الله عن الأكمل إيماناً، بل قد يجعل نصر الأقل كفراً على الأعظم كفراً= من نصر الله رغم كونه لقوم كفار، كما في نصر الروم {ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم}، لما في هذا النصر من آثار ولو معنوية على المؤمنين.

فالإيمان وتحقيقه والمجاهدة للسلامة من النقص من أسباب تحصيل الغلبة الدنيوية ، ونقص الإيمان والذنوب من أسباب تخلفها، هذا ليس محلا للنزاع، لكن تحصيل ذلك ليس شرطا كافيًا لحصول الغلبة الدنيوية يغني عن غيره ، بل ثم عوامل وشروط وظروف أخرى ينظر بها للغلبة الدنيوية الآنية لفئة معينة، فلا بد مع الإيمان من أخذ أسباب القوة، فإن قلت فما فضل الإيمان ما دامت القوة ضرورية= قلنا وكم من قوي شديد قد خُذل وهزم، إنما نقول: لا ينجو من البحر من لا يحسن السباحة، لكن قد يُحسنها رجلان فأما أحدهما فينفعه إيمانه فتعينه الريح، وأما الآخر وقد تكون سباحته أمهر= فربما يخذله الله فلا تنفعه قوته.

ومع ذلك أيضًا: فحتى مع توفر العوامل والشروط المادية الظاهرة ومع رتبة إيمانية ربما تكون أعلى من خصمك= فقد يتخلف النصر؛ لأن الله يرى هذا أصلح لعباده ولا بد أن يكون ذلك من عند أنفسهم أيضا لكنه قد يكون بذنب يسير اختار الله أن يعاقبهم به بينما لا يؤاخذ غيرهم بذنب كبير وإنما يكتب لهم النصر، بحيث قد تتحقق الفئة المؤمنة بمقام إيماني عال وقوة مادية ومع ذلك يتخلف النصر عنها، وقد تكون الفئة المؤمنة أنقص إيمانا وأبعد عن الوحي ممن هزمت ومع ذلك يتحقق لها النصر.

والغلبة الدنيوية حين تفوت أهل المقامات العالية من المؤمنين وبغير ذنب عظيم ظاهر أتوه = فهذا من القرح الذي يُبتلى به الناس على قدر دينهم، فمن عظم دينه اشتد بلاءه لكنهم رغم هزيمتهم= هم الأعلون المنصورون حقا وإن لم يغلبوا تلك الغلبة؛ فإن الله مظهر دينه ولابد، معذب أعداءهم ولابد.

قال تعالى “ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين، إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين.”

والغلبة الدنيوية حين يدركها من المؤمنين الأنقص إيمانا وتفوت الأكمل= فهي من تقدير الله لدفع الناس بعضهم ببعض وقد تكون من البلاء والفتنة والاستدراج، وإنما أوتيها هؤلاء لحق قوم مؤمنين سبقوهم لا لفضلهم في أنفسهم.

والحقيقة: أن فوات الغلبة الدنيوية وعدم تحصيل أهل المقامات العالية من المؤمنين لها= كثير جدا في تاريخ الإسلام، وليس نادراً أو قليلاً، بل أكثر الغلبة الدنيوية في تاريخ الإسلام لم تكن للأكمل إيماناً ولا للأجيال الأحسن والأفضل.

فالمحكم هاهنا: أن عوامل الغلبة الدنيوية كثيرة متعددة، وتتداخل فيها موازنات شتى، وحكم لله متعددة؛ فإنه سبحانه لو جعل النصر بالسيف للمؤمنين كثيرًا غالبًا= لما كانت الدنيا دار امتحان، وبالتالي: فما يطلقه الناس من معادلات رياضية هنا فإن فعل الله لا يجري على أهوائهم فيها؛ فإن الله لا يعجل لعجلة أحد، وحكمته البالغة تجمع بين الحال والمآل وبين موضع الامتحان في الدنيا وموضع الجزاء الأعظم في الآخرة، ولكن الناس إذا هُزموا فتنوا أنفسهم؛ لأنهم يعبدون السيف ويسبحون بحمد الغالب.

ومن دقائق فقه الوحي: أن النصر مستمر لا ينقطع عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم؛ فلابد من طائفة منصورة لا تزال من أمته قائمة على الحق، وقيامها على الحق وإظهار الدين هو ذلك النصر الذي لا يتخلف أبدا وليس النصر الذي لا يتخلف هو الغلبة الدنيوية والتمكين فإن هذا يقع ويزول.

وإن الغلبة المعجلة لفئة معينة في الدنيا تحصل للمؤمن وللكافر وتحصل للأكمل إيمانا والأنقص إيماناً وهي ضرب من النصر شديد القابلية للمتغيرات عصي على المعادلات الرياضية، أما النصر حقاً وصدقا لا يتخلف عن القوم المؤمنين قط فهو ما يكتبه الله للمؤمنين من الفوز في الآخرة والهداية للحق والإيمان في الدنيا والعاقبة لهم على الكافرين ولو بعد حين وقرون وسنين.

ومن أبصر هذه الحقائق التي هنا= نجاه الله من فتنة الذين خسروا أنفسهم فقالوا: أين الله من هذا، والله ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً.

(2)

إن المصيبة حق المصيبة مصيبة الدين، ومهما بلغت مصائب النفوس والأعراض والأموال؛ فإنها لا تساوي أن تكون مصيبة العبد في دينه.

وإننا اليوم وفي أيام قادمة ستشبه اليوم وأرجو ألا تفوقه= نحتاج إلى أن نذكر أنفسنا بما يربط على قلوبنا؛ فإننا قوم ضعاف ليس لنا إيمان السابقين الأولين، ولا يقين أولياء الله المتقين، وإن القلب ربما تُذهله نكبة فيمسي كافرًا بعد أن قد أصبح مؤمنًا، وإن رجلًا كان يُجاهد فأذهله البلاء وألمه عن ذراع يفصله عن الجنة، فاتكأ على حديدة فقتل نفسه، فهو في النار، فانظر رحمك الله أين أصبح وكيف بات، ثم سل الله أن يربط على قلبك ويثبتك.

وإن من أعظم مداخل الشيطان على قلوب المؤمنين أن يُسخطهم أقدار ربهم، وإن أكثر العجز والشر يكون من شكوى الأقدار، وسؤال الله عما يفعل.

وإن حديث الصبر غير ممجوج فإن نصف القرآن صبر وبلاء لأن خالق الناس علم قبل خلقهم أنهم لا يمكنون إلا الفينة بعد الفينة؛ فليس الصبر حديثًا يُقعد عن خير تطيقه، وإنما هو حديث يعصمك من فتنة لا تطيقها.

إن المسلمين والناس كلهم في هذه الدنيا؛ لأنها دار بلاء، المصاب منهم مبتلى بالضراء، والمعافى منهم مبتلى بالرخاء ممتحن بالسراء، كلاهما في اختبار، والعدل الرباني لا يُنظر إليه من جهة كفة الدنيا فحسب بل ميزانه الدنيا والآخرة، فإذا أتيت على ربك يوم القيامة فلم تجده أعطى المحسن أجر إحسانه وزيادة، وعاقب الظالم المسيء بإساءته عذابًا مهينًا جزاءًا وفاقًا= ساعتها اسأل عن العدل الإلهي أين هو.

وقد كان فيما قدره الله وقضاه في هذه الدنيا أن رأينا أراذل الخلق يقتلون الأنبياء.
وجُعل قتل نبي كريم قربانًا يتقرب به ملك كافر لبغي فاجرة.

وقد أخبرنا الله في قرآنه عن ملك لا يساوي فلسين، وهو يحفر الأخدود ليلقي فيه المؤمنين، ولم يتصارخ خيرة المؤمنين هؤلاء يتسخطون أقدار ربهم أن قد آمنا فكيف يتسلط علينا من يعذبنا فيحرقنا؟!

ما يحدث ليس جديدًا أصلا، وإن الله لم يخدع الناس شيئًا، بل هو من حكى لنا أخبار الابتلاءات العظيمة التي وقعت بأوليائه، أفحسبتم أن تؤمنوا وأنتم لا تفتنون؟

على أي جوانبها تدور الرحى فإنها لا تدور إلا لتُلقي برأسك على عتبة مولاك، صابرًا على البلاء، شاكرًا على النعماء، مستغفرًا من الذنوب، مطيعًا مفتقرًا ترجو ‍رضاه والجنة.

وإن أعظم غيب آمنت به= غيبٌ تكون في شهادته راحةُ نفسك؛ فإنك إن صبرت على ألمِ الغيب وآمنت به، ورضيت أن تَبقى مؤمنًا به وهو غيب لم ترى شهادته بالنصر وعقوبة الظالم في الدنيا، رغم أن راحتك في شهادته وأن تنال العافية وتشتفي من ظالمك= كان لك من أجر المؤمنين بقدر صبرك وألمك، ما لا يكون لمن شهد هذا الغيب فأراه الله ما يشفي صدره في الدنيا.

ولو كان كل ظالم تأخذه ‍صيحة ‍تهلكه=لما كان ليوم الحساب معنى، ولا كان يبقى للصبر موضع، ولا كانت التوبة فضيلة يُجزى صاحبها الجنة.

والله يقول: {ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون}.
فإذا كان من سنة الله أن يؤاخذ الظالم= فإنه ليس قضاء عليه سبحانه أن يؤاخذه حيث يشتهي الناس.

والمؤمن يجعل بين عينيه قول السحرة لفرعون لما آمنوا فعذبهم: “اقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا.” وقولهم “لا ضير إنا إلى ربنا لمنقلبون”

السحرة مع فرعون من أظهر نصوص الوحي في فهم طبيعة الابتلاء وميزان الخير والشر، فهذه الدنيا وما يكون فيها ليست معيارًا للخير والشر وليست ميدانًا لتحقيق العدل الإلهي أصلا.

إن الله عز وجل يبتلي عباده ليرفع درجات الصابرين، ويزيد في عذاب الظالمين، ويمحص صف المؤمنين، ولتقام بهم الحجة على عذاب المجرم يوم القيامة فلا يشفق عليه أحد، ولا يعتذر عنه أحد، وليمتحن الله بهم أمثالنا من المؤمنين أيثبتون أم يستزلهم الشيطان فيكفروا.

أما المبتلون= فغمسة في الجنة تنسي كل شقاء كأن لم يكن، يخلقهم الله خلقًا آخر هو ربهم وملكهم لولاه ما كانوا.

وهو سبحانه ذكر لنا في محكم التنزيل خبر المؤمنين يلقون في أخدود النار، ثم بين النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك موقفًا عظيمًا فيقول صلى الله عليه وسلم: “جاءت امرأة ومعها صبي لها فتقاعست أن تقع فيها فقال لها الغلام يا أم اصبري فإنك على الحق”.

إن طائفة المؤمنين الذين أعد الله لهم جنات النعيم= يعلمون أن الدنيا وشرها كله يسير في مقابل جنة الخلد ونعيم لا يفنى، ونظرة إلى وجهه الكريم لا يبقى في النفس بعدها شيء غير النعيم تذكره.

إن إلى ربك الرجعى، من وعى هذه الحقيقة= نجاه الله من مصير الذين خسروا أنفسهم فصاروا يُحاسبون الله على فعله، ويقضون عليه في خلقه.

(3)

عملك في حدود استطاعتك، وفيما شرعه الله، وفيما تطيقه، وليس فيه دخول فيما تعجز عنه أو تفقد أدواته= هو المسار الإصلاحي الصحيح، لا يجب عليك غيره، وإن كنت تعمل عليه فلومُك نفسك إنما يكون على تقصيرك فيه فحسب، لا على تقصيرك في غيره من ثغور الدين في مشارق الأرض ومغاربها، فإنما حظك من مُصاب المسلمين الدعاء والإغاثة بما يتيسر لك، ثم ثغورك المشرعة بين يديك تنتظرك؛ هي موضع سؤال الله لك يوم القيامة.

وحقيقة عملك فيما بين يديك أنك تضع لبنة في معادلة أعمق من تصوراتك وأكبر من قدراتك، والله عز وجل هو وحده يخلق ما يشاء ويختار، ويبسط الرزق لمن يشاء ويقدر.

وإنك ترى بعض الناس اليوم يوزعون الهِجاء على ترك الجهاد بغير حساب، وأكثرهم قَعَدة لا في العير ولا في النفير، والحق: أن أكثر ما يمكن أن يكون مشروعًا من الجهاد اليوم لا بينة على إيجابه على أعيان المسلمين، وإنما هو فرض أهل الشوكة المحصلين لها، فإن قاموا به واستنفروا من في طاعتهم= وجب على أتباعهم إجابتهم.

وإن لم يقوموا به عجزًا أو تخاذلًا أو خيانة= لم يكن فرض عين على آحاد المسلمين ممن لا طاقة له ولا سعة، بل ولا هو يأمن على نفسه إن حدثته بهذا أن تتخطفه شياطين الظلمة، فدعك من غثاء بارد يكرره بطّالون لا عمل لهم إلا النواح والاستصراخ، ثم النوم الطويل يحسبون أن أحبالهم الصوتية سيوفًا تُسقط عنهم ما افترضوه على الناس وأخرجوا منه أنفسهم.

إن أهل الشوكة والسلاح المحيطين بموضع هذا البلاء العظيم= لا يرون إلا أنهم بذلوا وسعهم، ويدفعون عن أنفسهم تهم التقصير والتشرذم= فعلام تسمح لجماعة من البطالين أن يحملوك ما لا تُطيق وأن يجعلوا على عاتقك ما أفسده ولاة الطغيان وعلماء السوء ومقاتِلة الأغراض؟!

إنما يسعى الناس في القيام بأمر الله في هذه الدنيا بما أوجبه الله عليهم وهو في سعتهم، يؤدون الذي عليهم من فعل الواجب وترك المحرم، ثم يتسابقون في الخيرات وشعب الإيمان يطلب كل امرئ منهم ما يحسنه ويتقنه، ثم يطلب بعضهم ما يُسقط الفرض عن باقي المسلمين من الوعي بما يتطلبه واقع المسلمين من معرفة وإصلاح، وما تجابهه الأمة من صراعات وتحديات.

وما من رجل مات ولم يشهد عاقبة سعيه نصراً وغلبة في الدنيا= إلا وهو أتم وأعظم أجراً ممن شهد الظهور والغلبة.

وأصل هذا الباب كله واحد: أن المنزلة عند الله بالسعي المحقق لأرفع مقامات العبودية، لا بالظهور والغلبة، وإن ثمرة غرس الفسيلة والقيامة تقوم= أنها تثقل موازين أعمالك، وتلك بينة ظاهرة على ما ينبغي أن يكون بوصلة اهتماماتك وأفعالك، وإن الذي أزاح عن الطريق شوكة فدخل بها الجنة، لم يَشعرْ به أحد، وهو نفسه لم يشعر أنه سيدخل الجنة بهذا العمل؛ فلا تدري أي عمل يؤتيك الله به الفوز العظيم، فأحسن ما استطعت؛ فإن الله عفو جواد كريم، ولا تكن من الذين خسروا أنفسهم فحجزتهم البطالة عن الطاعة، واستغنوا بالشكوى عن التقوى، وشغلهم الجدل عن العمل.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى