مقالاتمقالات مختارة

الدور الحضاري للدين في فكر مالك بن نبي رحمه الله

الدور الحضاري للدين في فكر مالك بن نبي رحمه الله

بقلم د. حسام الدين فياض

«إن أردت أن تفهم تصوُّر أحد المفكرين للعالم، ينبغي أن تفكك تطوره المعرفي عبر الأيام لاستكشاف تلك المعالم الثابتة في أفكاره التي هي نابعة من أصالة نظرته الذاتيَّة للأمور، لا نتيجة استجابته للظروف المرحلية وتأثيرات الآخرين العابرة»[1]. هذه المقولة لأنطونيو غرامشي تنطبق على أعمال المفكر والفيلسوف الإسلامي مالك بن نبي.

في حقيقة الأمر دون مبالغة أدبية أو أدنى اعتبارات شخصية؛ يعتبر مالك بن نبي من أهم المفكرين العرب والمسلمين، وأحد أهم رواد النهضة الفكرية الإسلامية في القرن العشرين المنصرم، وقد اعتبره الكثيرون امتداداً للعلَّامة العربي (ابن خلدون)[2]، وهو من أكثر المفكرين المعاصرين الذين نبَّهوا إلى ضرورة العناية بمشكلات الحضارة. كما وقف بن نبي دائماً في كتبه وأطروحاته قارئاً وناقداً لإخفاقات الأمة وعلل تخلُّفها بالاستناد للرؤية القرآنية.

رحل بن نبي عن الدنيا بعد أن ترك مدرسة فكرية عريقة عميقة الجذور، تخرَّج منها مجموعة من المفكرين الذين حاولوا نشر فكره وآرائه واستنباط الحلول من مقولاته النظرية، التي تكاد تكون متفردة في طرحها ومعالجتها للقضايا، التي يصف فيها أسباب تراجع المجتمعات الإسلامية وتخلفها عن السياق الحضاري الإنساني.

كان مالك بن نبي مؤمناً بالشباب الواعي وطاقاته، الذي التف حوله، بغض النظر عن أوطانهم وميولهم، ليغذي فيهم روح الإيمان بالنهضة، ويدفعهم لبناءٍ حضاريٍّ يضع وسائله بين أيديهم. لأنه يسعى إلى بناء الفرد المسلَّح بالفكر الصحيح الواعي لما يجري في المجتمع، وبالفهم الواضح لخط سير التاريخ، من أجل أن يكون على يديه تغيير الواقع المتردي.

إن التجربة الفكرية والميدانية العميقة والعنيفة بأبعادها الروحية والفكرية والاجتماعية شكلت فكر مالك بن نبي حول مفاهيم مرتبطة بالإنسان، والثقافة، والحضارة التي «ترتكز على انسجام الجهود الإنسانية وتكاملها مع قوانين النهوض المادي والمعنوي وجملة الشروط الخاصة بالنمو والازدهار في شتى المجالات الفكرية والروحية والاقتصادية والمادية في الواقع المعاش»[3]. واستطاع من خلال عقيدة (الإسلام الموحدة وفكره المنفتح على العقل وروحه الاجتماعية) أن يُحدِث نقلة نوعية في الفكر الإسلامي الحديث، كما أن فهمه الدقيق لروحَي الحضارتين الإسلامية والغربية والاستيعاب العميق لأسسهما الفكرية مكَّنه من مواجهة الحضارة الغربية، غير أن بن نبي يعتبر المشكلة في المسلمين.

ويرجع السبب – حسب مالك – إلى انحراف فكري أخرجنا عن الطريق، ومهما تكن إرادتنا الاجتماعية غير قادرة على بناء مستقبلنا الاقتصادي والاجتماعي، فإن بن نبي قدَّم وصفاً للخروج من الأزمة من خلال دراساته لجهود التنمية الاجتماعية والاقتصادية من زاوية الفعالية التي تتناول بناء الإنسان في إطار ثقافة تستجيب لمعطياته وأصالته.

إذن، سعى مالك بن نبي إلى طرح الإسلام في كل تصوراته الفكرية كملهِم لقيمنا قادر على استعادة دور الإنسان مبرأً من ثقل الحضارة الإمبراطورية، ويرى بن نبي أن الإسلام لا يقدَّم إلى العالم ككتاب؛ وإنما كواقع اجتماعي يساهم بشخصيته في بناء مصير الإنسانية.

وهو الأمر الذي كان من الممكن أن يكون له أثر إيجابي كبير على مشروعه الفكري برمَّته. وهو الأمر الذي يبدو واضحاً في كثير من المواضع في كتابات مالك بن نبي، وبشكل خاص في تحليله للاستشراق وللعوامل التي بنت عليها أوروبا حضارتها الحديثة. إذ يرى أن الحضارة الأوروبية ذات بعد ديني مسيحي حتى ببعدها العلمي والتقني.

وذلك لتبرير ربطه بين مفهوم الحضارة والعقيدة الدينية أثناء بحثه في شروط النهضة المرتقبة للأمة الإسلامية، هذا الربط الذي دفعه إلى تحديد حدٍّ فاصل لبداية انحدار المسلمين وهي المرحلة التي بدأت بها عوامل الشقاق بالظهور في الأمة الإسلامية في نهاية العصر الراشدي. لكن هذه الأطروحة تتجاهل التطور التاريخي الكبير الذي حققته الحضارة العربية الإسلامية رغم استمرار حالة الشقاق والانفصال بين الفرق الإسلامية.

في حقيقة الأمر، هذه النقطة مهمة جداً لفهم المرجعية الفكرية لمالك بن نبي، وهي مرجعية إسلامية يركز فيها على إحياء الإسلام الصحيح كشرط لبناء الحضارة. حاول من خلالها التأكيد على أن الدين هو مقوِّم أساسي من مقومات أي حضارة، وهو الفاعل في بنائها وتطويرها وازدهارها ولهذا نجده يربط بين تخلُّف المسلمين وبين فقدان العقيدة الدينية لفاعليتها في المجتمع.

وهذا ما دفعه إلى تحليل ظاهرة الاستشراق[4]؛ إذ يلقي مالك باللائمة على الاستشراق كسبب لتخلف المسلمين بشكل أو بآخر، فالإحساس بالنقص الذي سببه تقدم الآخر يدفع – بحسب مالك – إلى السلبية وإلى الشعور بالنقص وهو ما أطلق عليه اسم القابلية للاستعمار. بمعنى آخر حاول بن نبي إبراز الوجه السلبي للإنتاج الفكري الاستشراقي الذي كتب عن المسلمين والعرب ولهم، وأحياناً بالعربية ليمارس دور التخدير، أو اختراع المعارك الوهمية التي تضيع وقت المسلم للدفاع الجدلي عن أمور لا طائل منها، بحيث يبقى الواقع العربي الإسلامي خالياً من أي توجيه أصيل، مفتوح الأبواب لتلقـي ما يصدره المستشرقون من أفكار تخدم سيطرتهم السياسية الاستعمارية. وفي المقابل لم تحصل حركة استغراب لدراسة مدققة للأفكار السائدة في عالم الاستعمار، تحصن الواقع الثقافي، وتجعل العالم العربي والإسلامي فاعلاً في حمل الرسالة الحضارية المنوطة به[5].

والنتيجة التي وصل إليها بن نبي أن الأزمة الحضارية عند المسلمين من خلال دراسة دقيقة للواقع ليست أزمة عقيدة أو فكر سياسي فحسب، وليست مشكلة أصالة مفقودة؛ وإنما مشكلة انتكاسة وسقوط في محطة تاريخية ويستوجب ذلك إعادة الأمر الطبيعي بالانسجام مع صفحات التاريخ المشرقة، وليس بأخذ السند والحجة من واقع الانتكاسات.

المكَوَّنُ الديني في فكر مالك بن نبي: يرى بن نبي أنه حينما نتأمل القرآن الكريم يبدو الدين ظاهرة كونية تحكم فكر الإنسان وحضارته، كما تحكم الجاذبيةُ المادةَ، وتتحكم في تطورها. والدين على هذا يبدو وكأنه مطبوع في النظام الكوني، قانوناً خاصاً بالفكر، الذي يطوف في مدارات مختلفة، من الإسلام الموحِّد إلى أحط الوثنيات البدائية. فهو قانون من قوانين الله عز وجـل التي فُطرت عليها النفس الإنسانية. وهو فضلاً عن أنه يغذي الجذور النفسية العامة، فإنه يتدخل مباشرة في العناصر الشخصية التي تكوِّن الأنا الواعية في الفرد، وفي تنظيم الطاقة الحيوية التي تصنعها الغرائز في خدمة هذا الأنا.

ثم يرجع بن نبي إلى التاريخ باعتباره السجل الأمين للتحولات التي شهدتها البشرية، فيجد التاريخ يشهد أن الدين ثابت من ثوابت الشخصية الإنسانية، ليس هذا فحسب؛ بل إن الدين كان من وراء كل المنجزات البشرية، ولهذا فإن بن نبي ينتقد نظرية (توينبي) في التحدي والاستجابة، لأنها وإن كانت تفسر قيام بعض الحضارات فإنها لا تفسر لنا قيام بعضها الآخر، كما ينتقد ما ذهب إليه (ماركس) ومدرسة المادية التاريخية، إذ إن من الحضارات ما لا يمكن أن نفسر قيامها بالعامل المادي، مثل الحضارة الإسلامية، وحتى الحضارة الغربية نفسها، كما يتنقد ما ذهب إليه دعاة التفوق العرقي، وقيام الحضارات على أساس العرق، ويقدم الدين بديلاً تفسيرياً لقيام الحضارات ومنجزاتها عبر التاريخ. يقول بن نبي: «كلما أوغل المرء في الماضي التاريخي، في الأحقاب الزاهرة لحضارته، أو المراحل البدائية، وجد سطوراً من الفكرة الدينية»[6]. ولقد أظهر علم الآثار دائماً – من بين الأطلال التي كشف عنها – بقايا آثارٍ خصصها الإنسان القديم لشعائره الدينية، أيّاً كانت تلك الشعائر. ولهذا يقرر أن الدين الذي هو التعبير التاريخي والاجتماعي عن هذه التجارب المتكررة خلال القرون، يعد في منطق الطبيعة أساس جميع التغيرات الإنسانية الكبرى، ولذلك فلن نستطيع أن نتناول الواقع الإنساني من زاوية المادة فحسب.

كما يرى بن نبي أن الفكرة الدينية ليست نسقاً من الأفكار الغيبية فقط، ولا يقصرها على الدين السماوي فقط؛ بل هي قانون يحكم فكر الإنسان، ويوجه بصره نحو أفق أوسع، ويروض الطاقة الحيـوية للإنسان، ويجعلها مخصصة للحضارة، وهي في نظره كل فكرة تقدم معبوداً غيبياً ووعداً أعلى، ابتداء من الإسلام الموحِّد إلى أحط الوثنيات. ولهذا فهو خصص فصولاً، في كتابه (شروط النهضة)[7]، لتحليل دورتين من دورات الحضارة، هما الحضارة الإسلامية،والحضارة المسيحية لاستخراج السر الذي دفع بكلتا الحضارتين إلى مسرح التاريخ، وتحديد الموقع الذي يمثله الدين في حركة الحضارة. وهو بتحليله لهذين الدورين ينتهي إلى تأكيد أن السر الكوني الذي يركِّب العناصر الثلاثة الأساسية للحضارة، الإنسان والتراب والوقت، ويبعثها قوة فاعلة في التاريخ هو الدين. ومعنى ذلك أن (الفكرة الدينية) هي التي تقف خلف النهوض الحضاري لا تقتصر على مجتمع دون آخر؛ فسواء كنا بصدد المجتمع الإسلامي أو المجتمع المسيحي أو المجتمعات التي اختفت من الوجود فإننا نستطيع أن نقرِّر أن الفكرة التي غرست أثرها في حقل التاريخ ناتجة عن فكرة دينية[8].

فكلتا الحضارتين تنطلقان من الفكرة الدينية التي تطبع الفرد بطابعها الخاص، وتوجهه نحو غايات سامية. بل إن بن نبي يرى أن هذا القانون الدافع للحضارة لا نجده في الحضارتين: الإسلامية والغربية فحسب، بل يتعداه إلى بقية الحضارات التي سجلها تاريخ الإنسانية، كالديانة البوذية في الحضارة البوذية، والبرهمية في الحضارة البرهمية؛ أي أن كل حضارة في أساسها ذات مبعث ديني. ولا يمكن للحضارة أن تظهر في نظر بن نبي إلا في صورة وحي يهبط من السماء يكون للناس شريعة ومنهاجاً، أو هي – على الأقل – تقوم أسسها في توجيه الناس نحو معبود غيبي بالمعنى العام. ومن هنا فالحضارة تبدأ عندما يمتد نظر الإنسان إلى أفق أعلى من يومه ومن حقبته التي يعيشها، ومن هنا ينبغي علينا أن نتتبع تأثير الدين من خلال تركيبه بين العبقرية الإنسانية والشروط الأولية للحضارة؛ أي تتبع ذلك الاطراد بين الفرد والفكرة الدينية التي تبعث الحركة والنشاط.

وهكذا يرى بن نبي أن الدين في ضوء القرآن الكريم له غايتان، فإن قـوله تعــالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ، مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} {فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ} [الذاريات: ٦٥ – ٠٦]، يبين أن الدين غايته أن يربط الأرض بالسماء، وهو حين ينشئ الشبكة الروحية التي تربط الفرد والمجتمع بالله، فإنه في الوقت نفسه يبني شبكة العلاقات الاجتماعية التي تتيح لهذا المجتمع أن يضطلع بمهمته الأرضية، وأن يؤدي نشاطه المشترك، وهو بذلك يربط أهداف السماء بضرورات الأرض. فهذا القانون الذي بينته الآيات المحكمات، لم يرد أن يفصل الناس عن الأرض، ولكن أراد أن يفتح لهم طريقاً أعظم خيراً ليضطلعوا بعملهم الأرضي.

ينظر بن نبي إلى الدين باعتبار أن له وظيفة الربط بالله عن طريق هذا الوضع الإلهي، كما أن له أن يفتح آفاقاً أوسع للإنسان حينما يربطه بأبعاد السماء، ويرفع بصره إلى ما بعد حياته الأرضية. فهناك غايتان للدين: ربط الصلة بالله، وبناء شبكة العلاقات الاجتماعية التي تدخل بالمجتمع دائرة الحضارة.

وباعتبار أن بن نبي يبحث عن القوانين التي تحكم التغيير الاجتماعي، وينظر في شروط البناء الحضاري، فإنه يركز على الوظيفة الاجتماعية للدين، معتمداً في ذلك على الاعتبارات النفسية الاجتماعية بالإضافة إلى الاعتبارات التاريخية، فهو يختبر هذه الوظيفة من ناحيتين: من ناحية تسجيل الفكرة الدينية في النفوس، ومن ناحية تسجيل الفكرة الدينية في التاريخ، وهو ما بيَّنه في كتابه (شروط النهضة)، وهذا الاختبار لعمل الفكرة الدينية، جعله يختار دراستها في إطار دورتين حضاريتين مختلفتين، هما، دورة الحضارة الإسلامية، ودورة الحضارة الغربية.

وفي النهاية يمكننا القول عن المكون الديني: إن بن نبي يستعمل مفهوم الدين – ونحن نوافقه الرأي – باعتباره تلك السُّنة التي فطر الله عليها الإنسان، وأن الدين وحده هو المركب الحقيقي للقيم الحضارية، وهو يعطي شرارة الانطلاق لتدخل الحضارة في التاريخ، وتتحقق في عالم الإنجاز.

بدليل أن القرآن الكريم يعرض الدين ليس على أنه تشريع فقط؛ بل على أنه سُنة موضوعية من سنن الوجود. وقانون داخل في صميم تركيب الإنسان وفطرته. بل هو فطرة الله التي فطر الناس عليها، لا يمكن تبديلها ولا يمكن أن تنتزع من الإنسان لأنها جزء من أجزائه التي تقومه. فالدين ليس مقولة حضارية مكتسبة يمكن إعطاؤها ويمكن الاستغناء عنها. فهو لا يمكن أن ينفك عن خلق الله ما دام الإنسان إنساناً. فالدين يعتبر سُنة لهذا الإنسان.

ومن خلال تدخُّل الدين في تنظيم فكر الإنسان وتوجيه طاقاته إلى غايات وراء أرضية (أخروية) تتجاوز به ضيق الزخم اليومي وذلك بتجسيد العلاقة الروحية بين الله تعالى والإنسان في صورة علاقة اجتماعية وكذلك من خلال توفير القانون الأخلاقي الذي يمنح قيمة لما يقوم به الإنسان وما يحياه. بهذا فإن للدين دوراً حضارياً فعالاً لا ينبغي إهماله إذا أردنا أن نصنع دورتنا الحضارية الإسلامية الجديدة والله أعلم.

وفي الختام يمكننا أن نستنتج ما يلي:

أولاً: الفكرة الدينية عند مالك بن نبي لا تقوم بدورها الاجتماعي إلا بقدر ما تكون متمسكة بقيمها الغيبية؛ أي بقدر ما تكون معبِّرة عن نظرتنا إلى ما بعد الأشياء الأرضية، فالعلاقة بين الله تعالى والإنسان هي التي توجد العلاقة الأرضية[9].

ثانياً: تعني الحضارة عند مالك بن نبي، توفُّر مجموعة من الشروط المادية والمعنوية، ويُعدُّ الدين منشأ كل حضارة.

ثالثاً: يعد الإنسان في فكر مالك بن نبي محور عملية التغيير وهو الفاعل فيه، ومنطلق التغيير هي النفس باعتبار الآية الكريمة: {إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد: ١١]، وهو شرط ضروري من شروط الارتقاء في سلم الحضارة.

رابعاً: يصوغ مالك بن نبي مجموعة محاور للتأكيد على دور الإنسان في الزمان والمكان، تتعلق هذه المحاور بالبعد الأخلاقي والنفسي، والاقتصادي، والاجتماعي، يصوغها مالك بن نبي في سياقات مختلفة للحث على البناء والتعمير.

خامساً: يلحُّ مالك بن نبي على طرح فكرة الفعالية، باعتبارها الرابط الذي يجمع بين منطق الفكرة ومنطق العمل من أجل القضاء على السلبية التي تشيع في المجتمعات المتخلفة عبر خلاياه الدقيقة، ومنها تحويل مبادئ القرآن إلى سلوكيات فعليه بدل الإكثار من الكلام عنه، وكأن مالك بن نبي يرفع شعار: «نريد قرآناً يمشي لا نسخاً تتكدس وخطباً تتبجح».

سادساً: عادة ما يعقد بن نبي مقارنة بين إنسان الغرب، والإنسان المسلم، منبهاً إلى تفوق الأول في كل المجالات، لأنه مؤمن بما يعتنق، والواجب عنده أكثر من الوقت.

سابعاً: يحمل مفهوم التراب عند مالك بن نبي معاني ودلالات واسعة؛ فهو من وجهة سياسية قانونية تلك الرقعة الجغرافية التي تحدُّها الحدود، وهو من الناحية الاقتصادية المصدر الرئيسي للإنتاج الزراعي والصناعي على حدٍّ سواء، وهو من الناحية المعنوية، الانتماء والولاء للفكرة والدين.

ثامناً: يأخذ الزمن عند مالك بن نبي أهمية كبيرة لأنه عامل مهمٌّ من عوامل بناء الحضارة، ويدعو مالك بن نبي ضمن أطر كبرى لاستثماره وتوظيفه في الصالح العام، بدل المصلحة الخاصة والبحث عن تحقيق الذات.

تاسعاً: لا يمكن للعناصر الثلاثة أن تمتزج إلا بوجود العامل الروحي، الذي يتلخص في الفكرة الدينية، أو الإيمان وهو التسليم المطلق لإرادة الله عز وجل والعمل ضمن هذه الإرادة في حدود ما شرع وأمر وحدود الحلال والحرام، ثم العمل ضمن دائرة اتباع هدي الرسول.

عاشراً: يستند بن نبي في البرهنة على صحة أفكاره إلى علوم مختلفة، بحكم تخصصه، من رياضيات وكيمياء، وبيولوجيا، كما يستند لعدة مرجعيات عربية وغربية، وعلى رأسهم ابن خلدون، واستفاد بن نبي كثيراً من فن الملاحظة التي أصبحت أداة علمية للوصف.

وفي النهاية وبعد هذا العرض المتواضع لفكر مالك بن نبي حول الحضارة وعناصرها والرؤية التكاملية بين المعارف في عرضها، يمكن القول: إن المفكر الإسلامي لم يقتصر في الكتابة على زمن أو مكان معينين، فهو يحمل همّاً وهاجساً للعودة بالحضارة الإسلامية إلى أوج قوَّتها عبر إحيائها مادياً وروحياً، ولا يتم ذلك إلا بوضع تصور واضح يصاغ وَفْقَها، هذه التصور يستند إلى الفكرة الإسلامية التي مرجعها الكتاب والسنة، كما يستند إلى التجربة والخبرة الإنسانيتين اللتين أضافتا الشيء الكثير إلى هذا المجال.

كما يؤكد مالك بن نبي على أن الحضارة لا ترتكز على عناصر بعينها؛ وإنما هي كلٌّ يجب أن يشارك فيه جميع الأفراد، فهي مفهوم شمولي يجب أن يتجسد في كل جوانب الحياة: الذوق، الجمال، البيئة، العمران، السلوك، العلاقات الاجتماعية، الإدارة، الاقتصاد، التمثيل السياسي، والتخطيط…إلخ.

ويكتب مالك بن نبي عن الكثير من المحاور التي توجه الفرد والمجتمع إلى البناء الحضاري، وعمارة الأرض وَفق سنن التاريخ الصحيحة، وسنن الكون والنفس، ويرجع مالك بن نبي للقرآن والسنة للاستدلال على صحة ما يذهب إليه من طرح حول الحضارة ودلاتها، فيستشهد بآيات القرآن حول التغيير وأهميته، كما يستشهد بأقوال الرسول الكريم عن الإصلاح، فينشد بذلك اكتمال فكرته ومثاليتها.

ويهدف مالك بن نبي في صياغة رؤيته إلى ضرورة الاهتمام بالإنسان وتفعيله فهو الذي يعوَّل عليه في الانتقال من أجواء التخلف والتبعية، إلى أجواء التطور والقيادة الحضارية، ويعتمد في ذلك على جملة معارف تاريخية، وفكرية، وأخلاقية، ومادية، ترجع إلى أشهر المفكرين والكتاب، أمثال ابن خلدون، وتوينبي، والأكويني، وماركس، ولا يعني أنه يتمثلها ويتبناها؛ إنما يقوِّم السالب منها ويستفيد من الموجب فيها.

وأخيراً، يؤكد مالك بن نبي على أن عامل الدين أهم عامل لتأليف عناصر الحضارة، ويشير إلى وجوب الاقتداء بإنسان ما قبل الموحدين، فهو نموذج الإنسان الفاعل الذي انطلق بحضارته إلى الحضارات الأخرى، بثقة ووعي.

_______________________________________________________________

[1] محمد سعيد: جان بودريار: صاحب مجتمع الاستهلاك تركنا إلى ما بعد الحقيقة!، جريدة الأخبار، بيروت، العدد: 3169، يوم السبت 6/5/2017م، ص26.

[2] يعتبر العلامة العربي ابن خلدون 1332- 1406م، فيلسوف ومؤرخ وعالم في عالم في العمران البشري. كما يعتبر مؤسس علم العمران البشري وأول من وضعه على أسسه الحديثة، وقد توصل إلى نظريات حول قوانين العمران ونظرية العصبية، وبناء الدولة وأطوار عمارها وسقوطها. وقد سبقت آراؤه ونظرياته ما توصل إليه لاحقاً بعدة قرون عدد من مشاهير العلماء كالعالم الفرنسي أوغست كونت 1798- 1857م.

[3] جيلالي بو بكر: مالك بن نبي البناء الحضاري، دار المعرفة، الجزائر، دون تاريخ، ص38.

[4] الاستشراق (بالإنجليزية: Orientalism)‏ هو علم الشرق أو علم العالم الشرقي يعنى بدراسة كافة البنى الثقافية للشرق من وجهة نظر غربية. وكلمة الاستشراق تدل على المفهوم السلبي وتنطوي على التفاسير المضرة والقديمة للحضارات الشرقية والناس الشرقيين. بذلك يمثل أسلوباً للتفكير يرتكز على التمييز المعرفي والعرقي والأيديولوجي بين الشرق والغرب.

[5] لمزيد من القراءة والاطلاع انظر: مالك بن نبي: إنتاج المستشرقين وأثره في الفكر الإسلامي الحديث، دار الإرشاد، بيروت، ط، 1969م.

[6] مالك بن نبي: الظاهرة القرآنية، ترجمة عبد الصبور شاهين، تقديم: محمد عبد الله دراز ومحمود محمد شاكر، دار الفكر، دمشق، ط4، 2000م، ص69.

[7] انظر: مالك بن نبي: شروط النهضة، ترجمة: عبد الصبور شاهين وعمر كامل مسقاوي، دار الفكر، دمشق، ط1، 1986م.

[8] مالك بن نبي: ميلاد مجتمع شبكة العلاقات الاجتماعية، ترجمة: عبد الصبور شاهين، دار الفكر، دمشق، ط3، 1986م، ص52.

[9] عبد الله بن حمد العويسي: مالك بن نبي حياته فكره، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، ط1، 2012م، ص250.

المصدر: طريق الإسلام

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى