تحت عنوان : “فقه الواقع والمآلات .. الأصول والضوابط”، ناقشت كلية دار العلوم، جامعة القاهرة رسالة الماجستير المقدمة من الباحث عبد الفتاح محمد همام، بإشراف الأستاذ الدكتور إبراهيم محمد عبدالرحيم أستاذ الشريعة الإسلامية فى كلية دار العلوم بالقاهرة…
بداية استهل الباحث رسالته بتعريف فقه الواقع الذي يرادف – بحسب بحثه – فقه المستقبل.. الفقه الافتراضي.. الفقه ألارتيادي.. الفقه ألاستئنافي.. الفقه ألاستباقي، وهو عبارة عن“ نظرة استشرافية استباقية للنوازل، وما يترتب عليها من مآلات مصلحية ومفاسدية، يستبق الأحداث قبل حلولها، ويعالجها قبل نزولها، ويعرف مدخلها ومخرجها، فهو فقه يعالج الواقع والمتوقع معا؛ بمعنى أنه لا ينكفئ على اللحظة الحاضرة فتستغرقه وتقيد نظره قدما، ولا يجنح إلى المتوقع فيستهويه ويهمل الواقع الحالَّ بثقله وحمولته، فهو بين بين”.
وأضاف الباحث أن التفكير المستقبلي جزء أصيل من شريعة الإسلام، له قواعده ومناهجه وامتداداته التي تصل إلى اليوم الآخر، وبالرغم من ذلك فإن حيز المستقبل في المنظومة المعرفية عند المسلمين لم يكن متناسبًا في عمقه وحجمه وتكييفه في الواقع مع دلالات الشرع ومستلزماته، ولا يدل ذلك بالطبع على الإهمال المطلق، بل يؤكد أن حجم التوظيف والتشغيل للتقعيد المستقبلي والنظر ألمآلي كان ضئيلًا.
وأراد الباحث من خلال رسالته هذه “رعاية فقه التوقع وتخليصه من بطون التراث الفقهي والأصولي حتى يقوم على سوقه، ومع ذلك، يبقى فقه المآلات هو روح التوقع وأساس قيامه وبه يتأصل؛ لذا تعددت الوقفات مع فقه المآلات، فهو مكون رئيس من مكونات هذا الفقه الوليد، وحاكم عليه بفروعه وقواعده، مع جدلية في العلاقة بينهما”..
لماذا هذا الموضوع؟
وهناك أسباب جعلت الباحث يلج هذا الموضوع الحيوى، منها: جدة الموضوع وطرافته جاذبة للاهتمام والرعاية، فالموضوع بحاجة ماسة إلى دراسات وأبحاث: تأصيلا وتفريعا، تنظيرا وتطبيقا؛ لإظهاره وبلورته حتى يرسو ويستقر في واقعنا؛ ومن ثم يستفاد منه على الوجه الأكمل فيا يستجد من وقائع، فجاء هذا البحث ليسلط الضوء عليه ببيان حقيقته ومشروعيته وأهميته ومقاصده، وأيضاً بيان صلاحية الشريعة الإسلامية لكل الأزمنة والبيئات من خلال التفعيل الاجتهادي للمتوقعات، وإبراز ما تحويه الشريعة من معان وأوصاف معقولة يجعلها قادرة على الاستيعاب لكل ما يقع ويتوقع، وما يجد ويستجد، وفي هذا البيان رد واضح وجلي على من يدعون تاريخية النص وانحباسه في زمان نزوله، والحاجة الضرورية والملحة لمعرفة أجوبة شرعية، أو صياغة رؤية إسلامية لما تصدره المراكز البحثية من دراسات توقعية في الاقتصاد، والطب، والسياسة، وغيرها…، فأصبحت هذه الدراسات -وإن كانت مسائل متوقعة لم تقع بعد- واقعا أو جزءا من الواقع يحتاج إلى بيان، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، و التعرف على جهود الفقهاء في الفقه الافتراضي وما توقعوه من نوازل؛ لنستهدي بها في التخريج الفقهي للقضايا المعاصرة التي نجد لها شبها فيما استشرفوه من قضايا في زمانهم، ثم تقديم رؤية واضحة عن المنهج الإسلامي في النظر المستقبلي يستفاد منها في المراكز الاستشرافية، يقدم لهم هذا المنهج رؤية مبنية على نظرة توحيدية وقراءة وجودية، فهو مرجعية ضابطة وحاكمة، وبذلك يتم التأثر والتأثير بين الرؤية والواقع.
أهمية البحث
أولاً: معرفة فقه التوقع تعين المجتهد على كيفية التعامل مع مجريات الأحداث المرتقبة أو المتوقعة، ووضع منهج في التعامل معها قبل وقوعها لبيانها والحكم عليها، وتلك كانت أهم مقاصد الإمام أبي حنفية في تبني الاتجاه ألاستشرافي في الفتيا، وتلك- لعمري- أهم ما يُتمسك به في بيان أهمية فقه التوقع ونجاعته؛ إذ تمكن المجتهد من امتلاك زمام المبادرة في حل المعضلات والمتوقعات قبل حلولها، قبل أن تصير واقعا مؤلما.
ثانيًا: إن إعمال فقه التوقع وتفعيله سبب من أسباب حركية الفقه الإسلامي المعاصر وشهوده الحضاري؛ إذ يقدم الفقه رأيه في الأحداث والتطورات العامة، فيفتي ويناقش القضايا الحالَّة ومآلاتها، ويتأمل في نوازل المستقبل ومشكلاته ويعالجها.
وفي هذا تفعيل لريادية الفقه في قيادته للواقع ووقائعه بدلا عن ملاحقته وجريه وراء النوازل، وبذلك يتبوأ الفقه مكانه الطبيعي في قيادة الأمة في نهضتها وإصلاحها.
ثالثًا: تحقيق مقاصدية الشريعة من خلال وظيفية الفقه العلاجية التي تعالج ما يحدث للناس من نوازل وما يترتب عليها من أضرار ومفاسد، فينهض بدور في إزاحة تلك الأضرار الواقعة، حتى لا تستمر في المستقبل وتتفاقم مآلاتها.
كما أن هذه المقاصدية تتحقق من خلال ما يقوم به الفقه من وظيفة وقائية احتياطية في درء المفاسد المتوقعة وسد منافذها بمجرد أن تلوح بوادرها، أو في فتح الذرائع للمصالح المتوقعة لجلبها.
رابعًا: الاهتمام بفقه التوقع ومآلاته يثير الوعي المستقبلي بأهميته ودوره، وينشط الحس الاستشرافي لدى الفقيه؛ ليقوم بإعداد دراسات مستقبلية فقهية لصنع المستقبل الإسلامي والتهيئة له، بدلا من تلقف ما تلقي به المراكز البحثية الغربية من توقعات مستقبلية. فالمستقبل هو مجال الفعل والتأثير والتغيير والإصلاح، والوعي بالمستقبل وتوجهاته وتوقعاته أولى خطوات صنع المستقبل وتفعيله.
خامسًا: فقه التوقع يعالج الآثار السلبية للفتاوى التي غيبت البعد الاستشرافي والنظر المآلي في التنزيل والتطبيق، وأوقعت ضررا بالناس ومشقة عليهم، خصوصا بعد ظهور الفضائيات وانتشار ظاهرة الفتوى بدون إحاطة بمعرفة أحوال السائل وأعرافه وعاداته.
سادسًا: فقه التوقع ينهض بتقديم بدائل حضارية، وطرح رؤى إسلامية لمجمل القضايا التي تعاني منها البشرية؛ لينتشلها من براثن المشكلات المعضلات، ومن أتون حضارتهم المادية، وهذا نابع من رسالة شريعة الإسلام وطبيعته العالمية، ومن صلاحيتها لكل زمان ومكان.
خطة البحث
وقسم الباحث رسالته إلى مقدمة، وتمهيد، وأربعة فصول، وخاتمة..
ففى الفصل الأول حقيقة فقه التوقع (مجالاته، وأقسامه، ومقاصده، وخصائصه) وجاء فى خمسة مباحث: الأول تناول فيه فقه المصطلحات والألفاظ ذات الصلة، والثانى مجالات فقه التوقع، والثالث أقسام فقه التوقع والرابع مقاصد فقه التوقع والخامس خصائص فقه التوقع .. أما الفصل الثاني وعنوانه “التأصيل الشرعي لفقه التوقع” ففيه أربعة مباحث: الأول فقه التوقع في القرآن الكريم، والثاني فقه التوقع في السنة النبوية، والثالث فقه التوقع في فقه الصحابة، والرابع فقه التوقع في التراث الفقهي.
أما الفصل الثالث وعنوانه “أصول فقه التوقع” فتضمن ثمانية مباحث: الأول النص (القرآن والسنة)، والثاني القياس، والثالث المصلحة المرسلة، والرابع اعتبار المآلات، والخامس الذرائع (سدا وفتحا)، والسادس الحيل (إبطالا وإعمالا)، والسابع الاستحسان والثامن الاستصحاب.
والفصل الرابع جاء تحت عنوان “تفعيل علم المستقبل في الاجتهاد الفقهي المعاصر، وضوابطه” وفيه ثلاثة مباحث: المبحث الأول: مسالك الإفادة من التوقعات المستقبلية، والمبحث الثاني: وسائل تفعيل الإفادة من الدراسات المستقبلية في الاجتهاد المعاصر، والمبحث الثالث: ضوابط فقه التوقع، ثم كانت الخاتمة: وفيها أهم ما توصلت الرسالة إليه من نتائج وتوصيات.