نور أبوغوش – مدونات الجزيرة
انتشرَ قديماً “في التسعينياتِ تقريباً” تسجيلٌ صوتيّ بعنوان “لماذَا لا تُصَلِّي”، وقد لاقى انتشاراً واسعاً وكان لَهُ أثرٌ كبير بين النَّاس. إِلَّا أنَنَّا اليوم قد نحتاج السؤال بصورة مختلفة ليكون: “لماذا نُصَلِّي؟”. في خضمِّ كثرةِ الانشغالات، وتعدُدِّ الذنوب، وتبدُّلِ الأمزجةِ المستمرّ؛ ما الذي يدفعُنَا للصلاة؟، أو: ما الذي يدفعنا للثباتِ على هذي الصلاة في كُلِّ أوقاتِنا، في جَمِيعِ ظروفِنَا، في شَتَّى بِقاعِنا؟
عِنْدَمَا خَلَقَ اللهُ الإنسان أرادَ لَهُ أن يَكُوُنَ خَلِيفَةً يعمِّرُ الأرض ويترُكُ فيها أثَراً، وَكَي يُحَقِقَ الإنسانُ هذا المَطلَب فقد أنعمَ اللهُ عَلَيْهِ بما يعينُه ويُقويِّه؛ فكَانَت الصلاة مِمَّا جعَلَهُ اللهُ ركناً وعاموداً أساسياً في بناء الدين ومِن ثَمَّ بناءِ شخصيةِ هذا الخليفَة. إنَّ مِن أوائلِ صفات الإنسانِ النَّاجح في الحياة قدرتُهُ على المثابرةِ والثبات، وقوةُ إرادَتِه في إنجاز ما يَجِبُ عَلَيْهِ إنجازُه رغم كل الظروف والمُشتَتَاتِ التي قد تُعيقُه؛ وذلِكَ تماماً ما تعلِّمُكَ إياهُ الصلاة عندما تصبحُ جزءاً ثابتاً مِن حياتِك.
تُصَلِّي لأنَّ هذه الصلاة ستعلِّمُكَ ما قد تعجزُ كُلُّ دورات التنمية عن تعليمكَ إياه من قوةِ الإرادةِ، وذلكَ لأنّ الصلاة تدخلُكَ في دورةٍ تطبيقيةٍ لا تنظيريةٍ، تتعلَّمُ فيها الاصطبار “لا الصبر فحسب”؛ فأنتَ إن استطعتَ أن تقوم مِن فراشك لتصلي، وأن تقومَ رغمَ تعكِّر مزاجك لتصلّي، وأن تقومَ بعدَ اقترافِكَ ذنوباً شتّى لتصلِّي؛ فإنَّ ذَلِكَ سيبني في روحِكَ إرادة من نوع مختلف تجعلُكَ قادراً على إنجازِ ما تريدُ في حياتك حتى وإن كَانَ صعباً أو مُتعِبَاً.
تُصَلِّي؛ لأنَّ الإنسانَ بحاجة لأن يختلي بنفسهِ أوقاتاً مِن النهار كُلَّ ساعتينِ أو أكثر ليكونَ بعيداً عن كُلِّ ما يتعبه مِن مشاكل وضغوطات وأفكار، ليقفَ بَيْنَ يدي ربِّه وليبدأ وقفته بالحمد حتى وإن كَانَ في أشدِّ أنواعِ الحزن، فصلاتك لن تُقْبَل حتى تبدأها بـ “الحمدُ للهِ ربِّ العَالَمِين” لتتعلّم كيفَ تَكُونُ ممتنَّاً لله في كلِّ أحوالِك وأوقاتِك. ومِن ثُمَّ يأتِ دعاؤك وكأنَّك في جلسة عصفٍ ذهنيٍّ سريعة تفرُّغُ فيها ما حدث خلالَ الساعاتِ الماضية وتعاوِدَ شحنَ روحِك مِن جديد لما هو آتٍ.
لم تكُنِ الصَّلاةُ يوماً لِكَي نتعَبَ أو نَشقَى، بل أساساً ننطلُقُ مِنْهُ لما بَعدَه؛ ولذا كَانَ أولُ ما يُسألُ عَنْهُ يَوْمَ القيامَةِ الصلاة، فإن صلحت صَلُحَ سائرُ العمل، وإن فسدَت فسَدَ سائرُ العمل، وذلك لأنَّ مَن استطاعَ أن يحافِظَ على هذا الأساس، كَانَ قادراً على ما بَعْدِهِ.
أقبِل على الصلاة وأنتَ ترى فيها مَفازاً لروحِكَ وارتقاءً لإرادَتِك.. أقبِل على الصلاةِ وأنتَ ترى فيها محطةً لكَ مع ربِّكَ ومالكِ أمرِك. بُحْ فيها بوجعِك، بضعفِك، بطموحِك، بحلمِك.. بُح فِيهَا بأشواقِكَ وبمشاعركَ الخفيةِ التي لا تُعلِنها.. بُح فيها للهِ بِمَا يَعْلَم ليأتيكَ بعدها مِنَ الخيرِ والفضل ما لا تَعْلَم.