الحجاب فرض دينيّ وليس ظاهرة اجتماعية
في لقاء تلفزيونيّ بُثّ قبل أيام، أجاب أحد السياسيين الجزائريين عن سؤال يتعلّق بنظرته إلى الحجاب، بأنّ هذا الأخير ظاهرة اجتماعية عند المسلمين! وذهب في سياق حديثه إلى القول إنّ المتبرّجة أقلّ إثما من المغتاب والنمّام.. وهي العبارات التي يحلو للعلمانيين ترديدها، ضمن عبارات أخرى كثيرة يراد من خلالها التوصّل إلى التقليل من أهمية الحجاب وحشر المحجّبات في الزّاوية واضطرارهنّ إلى الدّفاع عن أنفسهنّ ضدّ تهم التخلّف والرّجعية والاهتمام بالمظهر على حساب الجوهر وباللّباس على حساب الأخلاق!
كان حريا بالسياسيّ المشار إليه، وهو الذي يعيش في بلد تتجاوز نسبة المسلمين 98 % من سكّانه، وينصّ دستوره على أنّ الإسلام دين الدّولة، أن يرفع رأسه بدينه، ويجيب بكلّ عزّة عن السّؤال الذي كان يفترض في صاحبه أن يستحي من طرحه في بلد مسلم، لكنّ السياسي إياه أبى إلا أن يعطي الدنية ويحني رأسه ويتراجع خطوات إلى الوراء طلبا لمرضاة أقلية علمانية لن ترضى عن أمثاله حتّى يقرّوا بأنّ الدّين -بشرائعه وشعائره- مكانه المسجد والبيت، وأمّا موافقتهم في بعض دعاواهم وترديد بعض كلماتهم المسمومة التي ينفثونها في الجسد الإسلاميّ، فإنّه لا يشبع نهمهم في مخاصمة الدّين ولمز أهله.
ماذا وراء مقولة “الحجاب ظاهرة اجتماعية”؟
زعمُ العلمانيين أنّ الحجاب ظاهرة اجتماعيّة، يراد من خلاله التوصّل إلى إخضاع الحجاب -كغيره من الظّواهر الاجتماعية!- للآراء والأذواق وتبدل البيئات والعادات؛ ليكون منقبة وفضيلة في وقت معيّن أو بيئة معينة، ومنقصة ورذيلة في وقت آخر أو بيئة مختلفة، وهذا الزّعم لا يغني من الحقّ شيئا في ميزان من مَلك حدا أدنى من الإيمان بأنّ لهذا الكون خالقا عليما خبيرا حكيما، بعث نبيا اسمه محمّد -صلّى الله عليه وسلّم- بكتاب خاتم اسمه القرآن هو هذا الذي في أيدي المسلمين، أمّا من يكابر في جزئية من جزئيات هذه الحقيقة، فالنّقاش معه ليس حول ماهية الحجاب وحكمه، إنّما قبل ذلك في حقائق أهمّ تنبني عليها قضية الحجاب.
الحجاب فرض دينيّ اتّفقت عليه الشّرائع السّماوية
من كان مؤمنا بالله وكتبه ورسله، فإنّه يعلم يقينا أنّ الحجاب أمر ربّانيّ وفرض إلهيّ، صادر عن خالق البشر العليم بما يصلح خلقه، لا يخضع في جوهره وفرائضه الأساسية إلى تنوّع أذواق النّاس وتبدّل أهوائهم، وقد اتّفقت كلّ الشّرائع السماوية -رغم اختلافها في كثير من المسائل- على الأمر به وتحديد شروطه العامّة، وليس يخفى أنّ ما تتفق عليه الأديان السّماوية لا يكون إلا أمرا مهمّا ذا بال؛ ففي شريعة الإسلام الخاتمة، جاء الأمر بالحجاب في آيات صريحة محكمة واضحة، وفي أحاديث نبويّة صحيحة صريحة، لا تقبل عباراتها وسياقاتها غير تأويل واحد، هو أنّ المرأة متى بلغت سنّ التكليف، وجب عليها أن تغطّي بدنها إلا ما ستثني في مفهوم النصّ القرآني وصريح النصّ النبويّ، قال تعالى: ((يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ الله غَفُورًا رَّحِيمًا)) (الأحزاب: 59)، وقال سبحانه: ((وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ)) (النّور: 31)، وقال النبيّ -عليه الصّلاة والسّلام: “يَا أَسْمَاءُ إِنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا بَلَغَتْ الْمَحِيضَ لَمْ تَصْلُحْ أَنْ يُرَى مِنْهَا إِلا هَذَا وَهَذَا” وأشار إلى وجهه وكفّيه” (رواه أبو داود).
استنادا إلى هذه النّصوص، وغيرُها كثير، أجمع علماء الأمّة الإسلاميّة من مختلف المذاهب، على أنّ الحجاب فرض من فرائض الإسلام، مثل الصّلاة والصّيام والزّكاة، وصار هذا الأمر معلوما من الدّين بالضّرورة، من أنكره كان على خطر عظيم.
في النّصرانية، كذلك، ورد الأمر بالحجاب صريحا في مصادر تشريعية عدّة، لها مكانتها عند معظم الطّوائف النصرانية، ففي كتاب “ديدسكاليا” أو “الدسقولية” الذي يضم تعاليم وأقوال وقوانين الرسل، ويعدّ ثاني مصادر التشريع المسيحي بعد الكتاب المقدّس، لدى الكنائس التقليدية، ورد هذا النصّ: “لا تتشبّهن بهؤلاء النّساء أيتها المسيحيات إذا أردتن أن تكنّ مؤمنات.. اهتمّي بزوجك لترضيه وحده، وإذا مشيت في الطريق فغطّي رأسك بردائك فإنك إذا تغطيت بعفة تُصانين عن نظر الأشرار”، وفي كتاب “المراسيم الرسولية” الذي يعدّ أحد المراجع التشريعية للكنيسة الأرثودكسية المصرية، ورد هذا الأمر الذي يخاطب المرأة المسيحيّة: “وعندما تكونين في الشارع، غطِّي رأسكِ؛ لأنّك بهذه التغطية ستتحاشين أن يراك المتسكّعون”، وغير بعيد عن هذا المعنى تضمّن كتاب “المجموع الصفوي” الذي يعدّ بدوره أحد أهم المراجع التشريعيّة للكنيسة الأرثودكسيّة المصريّة، هذا النصّ: “إذا مشيت في الطريق فغطّي رأسك بردائك وتغطي بعفة؛ فإنك تصونين نفسك من الناس الأشرار، ولا تزوّقي وجهك فليس فيك شيء ينقص زينة، وليكن وجهك ينظر إلى أسفل مطرقة وأنت مغطاة من كلّ ناحية”.. وعلى الرغم من أنّ قساوسة النّصارى يحالون الالتفاف حول النّصوص التي تأمر بالحجاب في مصادرهم، إلاّ أنّهم لا يستطيعون التنصّل من الحقيقة النّاصعة التي تحملها تماثيل العذراء مريم -عليها السّلام- التي لا تخلو منها دور العبادة عندهم، وتظهر فيها مريم امرأة محجّبة مسبلة حجابها من أعلى رأسها على بدنها، وقد حدث أن احتجّ وزير الداخلية الإيطاليّ الأسبق “جوليانو أماتو” بهذه الحقيقة عندما تداعى العلمانيون في بلده للمطالبة بمنع الحجاب الإسلامي في إيطاليا، حيث استنكر على العلمانيين دعوتهم قائلا: “إذا كانت العذراء محجبة، فكيف تطلبون مني رفض أي امرأة تتحجب؟!”، وأضاف: “إنّ المرأة التي حظيت بأكبر نصيب من المحبّة على مرّ التاريخ، وهي السيدة العذراء، تصوَّر دائما وهي محجبة”.. هذه الحجة المفحمة، شنّ بسببها العلمانيون حملة على جوليانو، وذهبوا بعيدا إلى المطالبة بإلغاء اللوحات التي تُظهر السيدة العذراء وهي ترتدي الحجاب، واستبدالها بلوحات جديدة لها وهي سافرة! على الرّغم من أنّ الحجاب لم يكن عند النّصارى الأوائل حكرا على مريم -عليها السّلام- ولا على الراهبات وحدهنّ، بل كان لباسا عامّا للنّساء خارج البيوت، وقد شهد بهذه الحقيقة “قاموس الآثار المسيحية: Dictionnaire des antiquités chrétiennes” الذي تضمّن فقرة تقول: “عامَّةً، كان الرجال يظهرون في الأماكن العامّة برأس مكشوف، وكان النّساء يرتدين الحجاب”.
الحجاب خضوع لله.. وراية وشعار
الحجاب بالنسبة للمرأة المسلمة فرض من فرائض الله، لذلك فهي قبل أن تعرف الحكمة منه، تسارع إلى امتثال الأمر به، قائلة: سمعنا وأطعنا، ثمّ تبحث بعد ذلك عن الحكمة من فرضه والأمر به، فإن عرفت الحكمة ازدادت إيمانا ويقينا، وإن لم تعرف التزمت وآمنت بأنّ كلّ ما جاء من عند الله فيه خيرها وصلاح أمرها في الدنيا والآخرة.
هذه هي الحقيقة التي ينبغي أن تترسّخ في ذهن كلّ مسلمة، وينبغي أن ينبني عليها الفكر المجتمعيّ ويبدأ بها أيّ حديث حول الحجاب، ليأتي بعده الحديث والنّقاش حول الحِكم الكامنة وراء الأمر به، والتي ورد في القرآن بعضها، ومن ذلك الإشارة التي تضمّنها قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا)) (الأحزاب: 59)، وتحمل معنى مهما حول الحجاب، باعتباره شعارا ترفعه المرأة المسلمة، تعلن من خلاله أنّها ملتزمة بأمر ربّها وأنّها لا ترتضي شيئا ممّا حرّمه الله من خنا وريبة، وأنّ من أرادها لما أحلّ الله، فأمامه العنوان: ((وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)).
نعم، قد تحمل غير المحجّبة هذه النية، وتكون عفيفة أبية، والأصل في كلّ امرأة مسلمة أنّها كذلك، لكنّها تظلّ ككتاب جيّد المضمون، من دون عنوان، وهي مهما بدا لها أنّها أفضل من بعض المحجّبات اللاتي لا يلتزمن آداب الحجاب، فإنّها في كلّ الأحوال لن تكون أفضل ولا أكثر وضوحا من المحجّبات اللاتي ينظرن إلى الحجاب على أنّه مشروع حياة متكامل، ينطوي على أخلاق الحياء والوقار والعفّة والإباء، وترك الخضوع في القول والمشية، ورفض مواقف الريبة والفتنة، ما يعني أنّ اللّباس السّابغ السّاتر جزء أساسيّ من الحجاب الشّرعيّ وليس الحجاب كلّه، وكون بعض المحجّبات يفرّطن في تطبيق بعض أركان الحجاب المتعلّقة بالأخلاق لا يسوّغ إلغاء ركن أساسيّ هو السّتر، كما أنّ تهاون بعض المصلّين في بعض فرائض الصّلاة لا يسوّغ القول إنّ ترك الصّلاة بالكلية أفضل من إضاعة بعض فرائضها! أو القول: ما دام بعض المصلّين لا يخشعون في صلاتهم، ويحملون قلوبا سوداء! وأخلاقهم سيّئة، فإنّ طيبة القلب وحسن الأخلاق يغنيان عن إقامة الصّلاة!
التبرّج ومخالفة الأمر بالحجاب، ذنب عظيم عند الله، بل هو من كبائر الذّنوب، لذلك ورد اللّعن في حقّ من تخالف أمر الله وتخرج من بيتها متبرّجة، وهذا الذنب لا ينبغي أن يُقارن بذنوب وآثام أخرى، كالغيبة والنّميمة، ليُتوصّل بذلك إلى التقليل من خطورته وجرمه؛ فعِظم الذّنب والإثم المترتّب عليه، لا يقدّران بالمقارنة بذنوب وآثام أخرى، إنّما بحسب حال من يقترف الذّنب وبتعدّي أثره؛ فالمرأة التي تخالف أمر الله بالحجاب وهي تعترف بتقصيرها وتتمنّى في نفسها أن لو كانت محجّبة، وتدافع عن المحجّبات، مهما كانت آثمة، فإنّها ليست كتلك المرأة التي تبرّر لنفسها تبرّجها وتنتقد الحجاب وتبدي امتعاضها منه ولا تكفّ عن انتقاد المحجّبات والتفتيش عن أخطائهنّ! فهذه مثلا لا يصحّ أن تقارن بها مسلمة تغتاب أختا من أخواتها المسلمات وهي كارهة للغيبة مقرّة بحرمتها.
(المصدر: صحيفة الشروق الالكترونية)