مقالاتمقالات مختارة

الاقتراب من منتصف القرن الهجري الحالي.. ومؤشرات النصر والتحولات العميقة في العالم

الاقتراب من منتصف القرن الهجري الحالي.. ومؤشرات النصر والتحولات العميقة في العالم

بقلم د. محمد الغمقي

اليوم هو الثلاثاء 25 مايو 2021م، وسيوافق يوم الخميس 25 مايو 2028 بإذن الله تعالى أول محرم سنة 1450 هجري وهو حدث هام يرمز إلى منتصف القرن الخامس عشر هجري الحالي، بحيث يفصلنا عن هذا الموعد 7 سنوات بالتمام، وهي فرصة للوقوف عند حصاد النصف الأول من هذا القرن واستشراف المستقبل.

من القطبية الثنائية إلى القطبية الأحادية

ولعل ما يلفت الانتباه هو التطور الهائل في المسار التاريخي للبشرية منذ الفاتح من محرم 1400هـ الموافق لـ 20 نوفمبر 1979م إلى اليوم، وعلى رأس هذه التطورات ما شهده العالم من تحولات في النظام الدولي من القطبية الثنائية بين العالم الرأسمالي الغربي وزعيمته الولايات المتحدة، والعالم الاشتراكي الشيوعي وزعيمه الاتحاد السوفيتي، وما صحبها من حرب باردة بين القطبين، إلى ظاهرة الأحادية القطبية الأمريكية وما صحبها من اختلال توازن في ميزان القوى العالمي، وذلك بعد تصدع ” الإمبراطورية ” السوفيتية في بداية التسعينات تاريخ سقوط جدار برلين رمز الانشقاق والصراع بين اشتراكية الشرق ورأسمالية الغرب، وفشل المنظومة الاشتراكية والشيوعية في فرض نفسها كإيديولوجية ونمط عيش صالحين للبشرية.

بيد أن ” انتهاء الحرب الباردة لا يعني مطلقاً انتهاء الصراعات السياسية، لكنّه يعني تحولاً كمّيا في مفهوم الصراع الدولي، ولقد انتهى الصراع الإيديولوجي بين الغرب الرأسمالي والشيوعية ليحل محلّه الصراع الاقتصادي أو الديني أو القومي بين الشعوب المختلفة.

العولمة وتنميط الفكر والسياسة

وإزاء التراجع الشيوعي الأيديولوجي والسياسي، سعت الرأسمالية على النمط الأمريكي إلى فرض نظام ما يسمى بالعولمة الثقافية والسياسية مصحوبة بنزعة استعلائية وسياسة هجومية فكرية وعسكرية استفزازية، والنتيجة تنميط الفكر والثقافة وإحداث خلل كبير وتوترات عميقة بسبب محاولة اقصاء التعددية الثقافية وفرض نظام عالمي أحادي بقوة السلاح والمال والإعلام، الأمر الذي أثار معارضة شديدة من الرأي العام العالمي السياسي والمدني، عبرت عنها التحركات المتصاعدة للمنظمات غير الحكومية ضد العولمة على النمط الأمريكي، والتحفظات الأوروبية الرسمية ضد القرارات الأمريكية أحادية الطرف (مثلاً استهداف  العراق في عهد بوش والقرارات الخاصة بحماية الأرض والمناخ، حيث وجهت انتقادات شديدة للسياسة الأمريكية منذ قمة الأرض المنعقدة  بجوهانسبرج في جنوب إفريقيا إلى اتفاقية المناخ بفرنسا التي انسحب منها ترمب..) وهي مؤشرات على حركة وعي عالمية بضرورة وضع حد لاختلال التوازن الدولي والخروج من وضع الأحادية السائدة والمهيمنة إلى حالة من التعددية القطبية، ذلك أن العالم لا يمكنه أن يستقر بقطب واحد، وستبقى الأوضاع العالمية قلقة، والحرب الباردة التي زعموا انتهاءها ستشتد إلى أن تظهر أقطاب دولية أخرى جديدة أو قديمة تتوازن مع بعضها توازن رعب أو توازن مصالح، وفي هذه الفترة الانتقالية هناك فرصة لكل القوى الفكرية أو الحضارية أو الاقتصادية أن تظهر وتصبح جزءا من توازنات العالم.

مخاض سياسي وصحوة دينية

وتزامن هذا المنزع إلى التعددية مع ما شهده العالم الإسلامي في العقود الخمسة الأخيرة من مخاض سياسي وصحوة دينية وضعت الإسلام فكراً ومنهجاً في صدارة الأحداث ومركز الاهتمام، وحصلتْ سلسلة من الهزات والأزمات في المنطقة الإسلامية لم تكن الدوائر الغربية بعيدة عنها.

ومن بين هذه الأزمات، تصاعد التوتر والصراع في فلسطين منذ نكسة 1967م، وأزمة النفط سنة 1974م، والثورة الإيرانية بزعامة الخميني سنة 1979م، والحرب في أفغانستان سنة 1980م، والحرب الأهلية في الجزائر بعد عرقلة نتائج الانتخابات التي فازت فيها الجبهة الإسلامية للإنقاذ، وحربَا الخليج الأولى والثانية، وحرب “التطهير العرقي” ضد مسلمي البلقان في الفترة 1991-1995م، والانتفاضة الفلسطينية الثانية في أيلول/ سبتمبر سنة 2000م، والحرب على العراق سنة 2003م.

وقد جذب انتباه الرأي العام في أوروبا بما في ذلك المسلمون، الدور المتصاعد للدين في الوقت الذي كان الرأي السائد أن العلمانية بجناحيها اليساري والليبرالي قد أزاحت الدين في العالم الإسلامي، وأن الهيمنة ستبقى للنفوذ الغربي.

ولهذا كانت الصدمة كبيرة في أوروبا عندما شعرت بأن “الخصم التاريخي” بدأ يستعيد قوته وقدرته على الحركة، وكانت الصدمة أكبر عندما تأكدت أن الإسلام هو وقود هذه الحركة، والحال أن المعركة كانت قد حسمت في ظن الضمير الأوروبي لفائدة الإنسان الذي تأله في الأرض، ولهذا كان رد الفعل الأوروبي الغربي قوياً ضد الصحوة الدينية في العالم الإسلامي التي كان لها صدى في صفوف الأقليات المسلمة في البلاد الغربية، وتم وصف حركة الانبعاث الإسلامي بنعوت كثيرة مثل “الإسلام السياسي” / “الإسلام الأصولي” / “الإسلام المتطرف”، هدفها التخويف من هذه الظاهرة فيما يعرف بـ “الاسلاموفوبيا”.

لكن كل المؤشرات تؤكد بأن العقود القادمة ستشهد تطوراً في اتجاه التعامل مع المد الإسلامي الذي بات الهاجس الأول لصانعي القرار السياسي والاقتصادي والنخب الفكرية والإعلامية في الشمال والجنوب، حيث اتضح ـ خاصة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م ـ مدى انشغال هؤلاء بالمعطى الإسلامي بكل تجلياته وأبعاده: صحوة دينية، وحضور متنامي في الغرب، مقاومة لسياسة الاستيطان في فلسطين، وحركات احتجاجية ضد كل أشكال الظلم، ويصبّ هذا الاهتمام في البحث عن أسلوب التعامل مع هذه الظاهرة المتنامية، بين محاولة المحاصرة والاحتواء من ناحية، والقبول بالأمر الواقع والتفاعل معها إيجابياً من ناحية أخرى.

ولعلّ الحالة التركية الحالية تمثّل نموذجاً حياً لارتباك الموقف الدولي إزاء صعود التيار الإسلامي إلى السلطة عن طريق صناديق الاقتراع واحترام قوانين اللعبة الديمقراطية بالمفهوم والنمط الغربيين، والذي تأكد بعد ما يسمى بالربيع العربي، حيث كان اختيار الشعوب العربية في أغلب الحالات يميل إلى الطرف الإسلامي.

والنتيجة أن العالم الغربي كله وجد نفسه يلتقي مصلحياً حول الحاجة إلى خصم سياسي وحضاري ينافسه بعد انتهاء الحرب الباردة، وكان الطرف المرشح لهذه الخصومة بل لهذه “العداوة” عند البعض هم المسلمون بما يمتلكونه من مقومات حضارية كامنة.

في هذا الصدد، تتنزل تصريحات ومواقف بعض رجال السياسة والفكر الغربيين في  إطار ما يطلق عليه بظاهرة ” الاسلاموفوبيا “، حيث صرّح نيكسون ( رئيس أمريكي سابق ) في كتابه “لعبة الأمم ” بأن الإسلام هو الخطر الداهم”، وتبعته محاولات تنظيرية لصراع الحضارات أشهرها ما جاء في كتابات فوكوياما وهنتجتن.

        وعلى مستوى العلاقات الدولية، شهدنا تقارباً بين أعداء الأمس، بعد أن تبيّن التقاء مصالحهم المشتركة خاصة بعد أحداث 11 سبتمبر، وتجلى هذا التقارب في وقت معين في المصادقة على حلف ناتو- روسيا، وعقد اتفاق روسي-أمريكي للحد من الأسلحة.

وحتى إن ظهرت خلافات حادة اليوم بين الطرفين الأمريكي والروسي لأسباب مرتبطة بمصالح استراتيجية في التوسع والتأثير، فإن القاسم المشترك بينهما هو اعتبار الإسلام وتحديداً الصحوة الإسلامية “خصماً حضارياً”، وتشترك في هذه النظرة قوى كبرى تشعر بتراجع مصالحها بسبب التصدي بخلفية عقدية ودينية لكل أشكال الهيمنة.

في هذا السياق يندرج التحذير عن طريق الخطاب الإعلامي والفكري أو الممارسة السياسية من “العفريت” الإسلامي الذي بدأ ينهض ويمتد من أقصى شرق آسيا إلى أدغال إفريقيا وقلب أوروبا وأمريكا مروراً بجمهوريات آسيا الوسطى وتركيا ومنطقة الخليج وما يسمى بالشرق الأوسط.

الضغط في اتجاه التعامل النّدّي

ولكن يتبين لدى مؤسسات صناعة الفكر والقرار الغربية يوماً بعد يوم بأن مسار الصحوة في صفوف المسلمين ليس في تراجع بل تصاعد مستمر بالرغم من كل محولات التضييق والحصار والتشويه.

ثم إن المخاض الذي يشهده العالم الإسلامي له صدى في أوروبا والغرب عموماً عبر الوافدين من العالم الإسلامي والحضور الإسلامي في هذه الديار الذي انتقل من مرحلة الهجرة إلى مرحلة التوطين.

بل إن الواقع يثبت بأن الإسلام بشهادة معارضيه أصبح الدين الثاني المطبق في الغرب، كما أصبح يستقطب أعداداً غير المسلمين، بحيث تحول الاقبال على الإسلام إلى ظاهرة بارزة وشد اهتمام الملاحظين الذين لم يفهموا سر هذا الاقبال في الوقت الذي ترتفع فيه وتيرة التخويف من الإسلام بما يطلق عليه “الاسلاموفوبيا”.

وفي الوقت الذي تسعى أطراف وأحزاب إلى التصعيد في موجة الشعبوية الرافضة للتعددية الثقافية ولمسار الصحوة الإسلامية التي تنظر إليها بمثابة التهديد للهوية المسيحية للشعوب الغربية.

وجاءت الأحداث الأخيرة في فلسطين لتؤكد أن مسارات التطبيع من أجل القبول بالأمر الواقع ومحاولات التمييع والتغريب في صفوف الشباب خاصة، لم تنجح في الالهاء عن قضايا الأمة وهمومها، بل زادت الشعوب تمسكاً بهويتها الإسلامية، بل إن المظاهرات التي شهدتها عواصم غربية مساندة للشعب الفلسطيني وتنديداً بالعدوان “الإسرائيلي” في غزة والقدس أربكت حسابات الكثير الذين راهنوا على مسار التطبيع وتهميش القضية الفلسطينية.

إن الحديث اليوم عن تفكير أطراف غربية فاعلة بمراجعات في سياستها إزاء القضية الفلسطينية، واحتمال رضوخها للتفاوض مع حركة حماس التي كانت رقما صعبا في الأحداث الأخيرة سيفتح  أبواباً لتحولات كبرى في المستقبل  بدأت مؤشراتها  في فلسطين أرض الإسراء والمعراج، وربما تمتد لقضايا أخرى في مناطق ساخنة من العالم الإسلامي، بما يؤشر لبداية تغير في موازين القوى في العلاقات الدولية نحو ضرورة مراجعة صيغة التعامل مع كيان إسلامي أظهرت العديد من المؤشرات أنه بدأ يتأهل لاستئناف دورة حضارية جديدة يكون هو أحد أقطابها الرئيسة مع الاقتراب من منتصف القرن الهجري الحالي، وهو ما يعني  الضغط في اتجاه  التعامل النِدّي بين مختلف المكونات الحضارية، وخاصة بين العالم الإسلامي والعالم الغربي.

ومما يزيد عملية التفاعل الحضاري بين هذين الكيانين الحضور الإسلامي المتنامي عدداً ونوعية داخل المجتمعات الغربية التي تشهد بنفسها تحولات داخلية عميقة.

(المصدر: مجلة المجتمع)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى