مقالاتمقالات مختارة

أسطورة البيع: كيف قبض الفلسطينيون ثمن الأرض؟

أسطورة البيع: كيف قبض الفلسطينيون ثمن الأرض؟

بقلم أحمد محرم

تلقى أسطورة بيع الفلسطينيين أراضيهم لليهود من الحماسة في الأوساط العربية أكثر مما تلقاه في الأوساط اليهودية والصهيونية ذاتها، والسبب أن الضحايا دائمًا يستسهلون التناحر وتبادل الاتهام عن مقاومة المعتدي، ثم إن العرب ضحايا الاستبداد والاستعمار الذين طبع العجز آليات عمل أدمغتهم، أتقنوا منذ زمن حرفة لوم الضحية، وكان الأسهل والأكثر راحة لضمائرهم تصديق أكذوبة مفتراة وترويجها بحماس مريب.

لكن الآليات النفسية الدفاعية شيء وحقائق التاريخ شيء آخر، وحقائق التاريخ تخبرنا أن مجمل مساحة ما حصل عليه اليهود كأفراد أو المؤسسات اليهودية عن طريق الشراء من المُلاك الإقطاعين الفلسطينيين أو الفلاحين أصحاب الملكيات الصغيرة، لا يتعدى بأي حال 2% من مساحة فلسطين، منها مساحة كبيرة من الأراضي التي باعها أو رهنها صغار الفلاحين اضطرارًا، أو انتُزعت منهم ملكيتها لتسديد ديون.

العثمانيون والإقطاعيون

أصدرت الدولة العثمانية قانونًا لتنظيم ملكية الأراضي في عام 1858، وبموجبه قُسمت أراضي الدولة إلى أقسام خمسة، هي الأراضي المملوكة ملكية خاصة، والأراضي الأميرية، والأراضي الموقوفة، والأراضي المتروكة، والأراضي الموات.

وبعدها بسنوات ثلاث، عام 1861، أصدرت الدولة قانون تسجيل الأراضي والحقوق والواجبات المترتبة عليه (قانون الطابو)، فرضت بموجبه على كل صاحب أرض تسجيل أرضه باسمه في دائرة تسجيل الأراضي، كما قررت نقل ملكية كل قطعة أرض أميرية يمتنع صاحبها عن فلاحتها لمدة ثلاث سنوات متتالية إلى الدولة.

بلغ مجموع مساحة الأراضي التي آلت ملكيتها لليهود من كبار الملاك الإقطاعيين العرب غير الفلسطينيين 625 ألف دونم.

بجانب ذلك، فرضت السلطات العثمانية ضرائب مبالغًا فيها على المحاصيل، عجز الكثير من الفلاحين الفلسطينيين عن سدادها، فتنازلوا عن زراعة مساحات كبيرة من أراضيهم صادرتها الدولة وباعتها في مزادات بأثمان زهيدة لمن استطاع الشراء من سكان المدن (الأفندية)، كما اتفق بعض الفلاحين ممن قرروا عدم تسجيل الأراضي بأسمائهم مع وجهاء المدن والأفندية على تسجيلها بأسماء هؤلاء، الأمر الذي ركّز ملكية مساحات شاسعة من الأراضي في أيدي قلة من العائلات المدينية.

من بين هذه العائلات كانت هناك عائلات عربية غير فلسطينية أصلًا، مثل عائلة «سرسق» اللبنانية البيروتية، التي لجأ إليها الكثير من فلاحي أراضي مرج ابن عامر جنوب مدينة الناصرة لتسجيل أراضيهم بأسماء أبنائها، وهي أراض بيعت لليهود فيما بعد وبلغت مساحتها 240 ألف دونم (60 قرية)، كما بيعت مساحات كبيرة من الأراضي لعائلات «تويني» و«مدور» و«الطيان» اللبنانية، باعتها لليهود لاحقًا.

وإجمالًا، بلغ مجموع مساحة الأراضي التي آلت ملكيتها لليهود من كبار الملاك الإقطاعيين العرب غير الفلسطينيين 625 ألف دونم، منها 400 ألف دونم في مرج ابن عامر، و165 ألف دونم في سهل الحولة، و32 ألف دونم في وادي الحوارث، وما مجموعه 28 ألف دونم في الناصرة وعكا وجنين وصفد وبيسان وطولكرم.

وبجانب الـ 625 ألف دونم، بلغت مساحة الأراضي التي باعها الفلسطينيون (قسرًا في بعض الأحيان بسبب قانون نزع الملكية) 261 ألفا و400 دونم، من مساحة فلسطين البالغة 27 مليون دونم، أي أقل من 1% من مجموعة مساحة البلاد، مقابل 2,5% من مساحة البلاد باعها الإقطاعيون وكبار الملاك لليهود.

البريطانيون

منذ الاحتلال البريطاني لفلسطين بين عامي 1917 و1918، لعبت حكومة الانتداب البريطاني على فلسطين دورًا بالغ الضخامة في تسهيل نقل ملكية مساحات شاسعة من الأراضي الفلسطينية – خاصة الأراضي الأميرية والموات والمملوكة للدولة العثمانية، التي آلت ملكيتها لحكومة الانتداب بموجب معاهدة الصلح البريطانية التركية عام 1925 – لليهود كأفراد، وللمؤسسات اليهودية التي تأسست خصيصًا لهذا الغرض، مثل الصندوق القومي اليهودي، وصندوق الائتمان اليهودي للاستعمار والبنك البريطاني الفلسطيني.

وبمجرد انتقال ملكية أراضي الدولة العثمانية لحكومة الانتداب، سارع «هربرت صمويل» المندوب السامي البريطاني الأول – اليهودي الصهيوني بامتياز – بتقديم 175 ألف دونم لليهود على الساحل بين حيفا ويافا، ثم 75 ألف دونم على البحر الميت، ومساحات كبيرة أخرى لم يُعلن عنها في النقب، ونتيجة ذلك بلغ مجمل مساحة أراضي الدولة التي سهلت حكومة الانتداب نقل ملكيتها لليهود نحو مليون وربع المليون دونم، ما يساوي 58% من إجمالي مساحة الأراضي التي كان يملكها اليهود قبل عام 1948، والبالغة 2,1 مليون دونم، أي نحو 7,5% من مجموع مساحة فلسطين.

وفي سبيل ذلك، اتخذت حكومة الانتداب البريطاني ما وسعها من إجراءات تعسفية لإجبار الفلاحين الفلسطينيين على بيع أراضيهم، مثل إدخال الأراضي المتاخمة للمدن والمستعمرات اليهودية في نطاق المدن، ومضاعفة الضرائب السنوية عليها بالتالي لتتجاوز إيرادها السنوي بأضعاف، الأمر الذي يضطر أصحابها إلى بيعها أو تنتزعها منهم حكومة الانتداب إذا عجزوا عن تسديد ضرائبها، مستعينة على ذلك بقوة السلاح.

وبالمجمل، فإن مجموع ما كان يملكه اليهود من مساحة الأراضي الفلسطينية في فترة الحكم العثماني وبداية فترة الاحتلال البريطاني بلغ 420 ألفا و600 دونم تمثل 1,55% من مساحة فلسطين، وأجّرت حكومة الانتداب البريطاني لليهود كأفراد 175 ألف دونم تمثل 0,64% من مساحة فلسطين، كما منحت حكومة الانتداب للوكالة اليهودية 325 ألف دونم تمثل 1,2% من مساحة فلسطين.

أما ما باعه لليهود ملاك عرب غير فلسطينيين فيبلغ 625 ألف دونم تمثل 2,3% من مساحة فلسطين، كما باع كبار الملاك الفلسطينيين 261 ألفًا و400 دونم تمثل 0,96% من مساحة فلسطين، بينما بلغ مجموع ما باعه صغار الفلاحين الفلسطينيين اضطرارًا لليهود نحو 300 ألف دونم تمثل 1% من مساحة فلسطين.

الحركة الوطنية

سهلت حكومة الانتداب البريطاني نقل ملكية 58% من مساحة الأراضي التي امتلكها اليهود قبل عام 1948.

قبيل الحرب العالمية الأولى، ومع تزايد موجات الهجرة اليهودية من أوروبا إلى فلسطين، تنبهت الحركة الوطنية الفلسطينية إلى المخطط الصهيوني، والذي كانت الأرض عنصرًا أساسيًا فيه من أجل تأسيس المستوطنات، وتشكلت في عام 1914 مؤسسات وطنية فلسطينية لمقاومة المد الصهيوني، مثل «الجمعية الخيرية الإسلامية»، و«شركة الاقتصاد الفلسطيني العربي»، و«شركة التجارة الوطنية الاقتصادية»، وراحت هذه المؤسسات مستعينة بالقليل مما تيسر في أيديها تحاول استباق الوكالة اليهودية في شراء الأراضي، للحيلولة دون انتقال ملكيتها لليهود.

مؤتمر علماء فلسطين 1935 أفتى بتكفير كل من باع أو توسط أو مارس السمسرة في بيع أراض فلسطينية لليهود.

ونشط المثقفون الفلسطينيون في الكتابة في الصحف وإصدار البيانات للضغط على الحكومة (التي أصبحت في ذلك الوقت حكومة حركة الاتحاد والترقي التركية المتصالحة مع اليهود) من أجل منع تملك الأجانب واليهود للأراضي في فلسطين، والتشهير بالعائلات التي تبيع أراضيها لليهود، والوسطاء والسماسرة الذين يعملون بتسهيل بيوع الأراضي للشركات اليهودية والأفراد، وكان من نتيجة ذلك أن العديد من سماسرة الأراضي تعرضوا للضرب والقتل، وفر البعض منهم خارج فلسطين كلها.

ركزت الحركة الوطنية بالذات على مقاومة سماسرة الأراضي والتحريض ضدهم، وطاف الشيوخ وخطباء المساجد القرى والبلدات لتوعية الأهالي حيال التعامل مع الطرق الملتوية للسماسرة والمؤسسات اليهودية، واهتم الشيخ «أمين الحسيني» مفتي القدس بهذا الموضوع بشكل خاص، وشارك بنفسه في رحلات التوعية في الأرياف الفلسطينية، وكان من نتيجة ذلك أن أُلغيت بالفعل عمليات بيع أراض ليهود في مراحلها الأخيرة.

نشط المجلس الإسلامي الأعلى نشاطًا ملحوظًا في هذا الصدد، وعقد العديد من المؤتمرات للعلماء والوجهاء من أنحاء فلسطين للتداول في أمر منع تسرب ملكية الأراضي لليهود، وكان أكبر هذه المؤتمرات مؤتمر علماء فلسطين في 26 يناير/كانون الثاني 1935 بالقدس، بحضور نحو 400 من الخطباء والقضاة والمدرسين، والذي صدرت عنه فتوى شاملة تحرم بيع الأراضي الفلسطينية لليهود، وتكفّر كل من باع أو توسط أو مارس السمسرة في عمليات بيع أراض لليهود.

هل باع (فلسطينيون) أراضيهم لليهود؟ نعم، فلا يخلو أي مجتمع محتل ممن يؤثر مصلحته الشخصية ورغبته في الإثراء على المصلحة الوطنية، كما لا يخلو أي مجتمع محتل من جماعة أجبرتها سلطات الاحتلال بالعسف والقهر على التنازل عما لم يكن ليتنازل عنه بالإغراء.

وعلى كل ذلك، فإن كل ما انتقل ملكيته إلى أيدي اليهود أفرادًا ومؤسسات من أراضي فلسطين قبل قيام الدولة الصهيونية عام 1948 لا يتعدى نسبة 7,5% من مساحة البلاد، شاملة الأراضي التي اشتراها يهود في عهد الدولة العثمانية قبل افتضاح أمر المخططات الصهيونية، والأراضي التي أجرتها أو نقلت ملكيتها لليهود حكومة الاحتلال البريطاني، والأراضي التي باعها مُلاك عرب غير فلسطينيين وإقطاعيون فلسطينيون وفلاحون عاديون.

هل تبرر نسبة 2% من مساحة فلسطين التي باعها الإقطاعيون الفلسطينيون غير الوطنيين والفلاحون الفلسطينيون الذين أُجبروا على البيع أو انتُزعت ملكية الأرض منهم لسداد ديون، هل تبرر فرية «الفلسطينيون باعوا أراضيهم»، في الوقت الذي منح قرار التقسيم 54% من مساحة البلاد للدولة الصهيونية؟

المراجع
  1. عيسى صوفان القدومي، فلسطين وأكذوبة بيع الأرض، الطبعة الثانية، مركز بيت المقدس للدراسات التوثيقية، غزة، 2013.
  2. روز ماري، الفلاحون الفلسطينيون من الاقتلاع إلى الثورة، ترجمة خالد عايد، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، 1980.
  3. مواقف الحركة الوطنية الفلسطينية من انتقال الأراضي للحركة الصهيونية 1930- 1935، مركز المعلومات الوطني الفلسطيني.

(المصدر: إضاءات)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى