مقالات مختارة

(قصة السواك) نموذجاً لإشكالية التعامل مع التراث (1-2)

بقلم د. محمد عيّاش الكبيسي – العرب القطرية.

قبل أيام جمعتنا ندوة علمية تحدَّث فيها أحد الأساتذة الفضلاء، وكانت عبارة عن تطواف في تاريخنا الإسلامي بمسحة إيمانية ووعظية ظاهرة، وكانت الفكرة المحورية التي يدور حولها المتحدث أن أجدادنا أنجزوا ما أنجزوا من فتوحات وانتصارات بسبب تمسكهم بالدين، وبالمقابل فكل الهزائم والمحن التي تحيط بنا اليوم سببُها البعد عن الدين، ثم راح يسرد من أوراقه ومن ذاكرته الثرية عددا ليس قليلا من الحوادث والقصص، كان منها ما نسبه إلى الصحابة -رضي الله عنهم – أنهم في إحدى المعارك قد أبطأ عليهم النصر، فحثهم قائدهم على التدقيق في سلوكهم وعباداتهم إذ ربما أغفلوا سُنة من السنن، وحينما نظروا في أنفسهم وجدوا أنهم قد نسوا سُنة السواك فبادروا إليها، فلما رآهم العدو هربوا جميعا من دون قتال، ظنا أن المسلمين يحدُّون أسنانهم لأكلهم! ثم راح يؤكد أننا – نحن المسلمين – لا ننتصر بالعدة ولا بالعدد، إنما ننتصر بالله.

حينما نعرض هذا الكلام على بساط النقد، فإننا في الحقيقة لا ننقد هذا الكلام بنفسه، وإنما ننقد هذه الظاهرة الطاغية في خطابنا الديني، فأستاذنا الفاضل – جزاه الله خيرا – إنما هو ابن هذه البيئة التي ألِفت مثل هذا الخطاب حتى أصبح جزءا من ثقافتها السائدة، فأنت تسمع مثل هذه القصة على منابر الجمعة وفي مجالس الوعظ وبرامج التواصل وغيرها.

بدايةً، يمكننا الجزم بأن هذه القصة لا أصل لها، فهي باطلة من حيث السند والمصدر، أما مضمونها فهو متهافت دينيا وعلميا وواقعيا، ومجرد التصديق بها يعني أن هناك مشكلة كبيرة في عقل المسلم المعاصر من حيث قدرته على التعاطي مع الأخبار والروايات التاريخية.

من الناحية الدينية، لا أدري إلى أين سنصل بتفكيرنا حينما نعتقد أن الله يحجب نصره عن المسلمين إذا هم قصروا في مستحَب من المستحبَّات؟ مع أن تعريف المستحب أو المندوب أو السُّنة أو النافلة – وكلها بمعنى متقارب -: ما يُثَاب المسلم على فعله ولا يُعاقَب على تركه، فكيف يعاقب الله المسلمين هذا العقاب ويؤخر عنهم النصر لتركهم نافلة من هذه النوافل؟ مع أن السواك خاصةً قد توسع فيه علماؤنا، فهو يحصل عندهم بكل ما ينظف الفم ولو بالإصبع الخشنة، كذا نص الإمام النووي وغيره، لكن الأهم من هذا: هل فعلاً كانت كل الانتصارات الإسلامية خالية من الذنوب والمظالم مما هو معهود في السلوك البشري؟ وهل العصمة مطلوبة من المسلمين لتحقيق النصر؟ ثم ألا يرسخ مثل هذا الخطاب حالة اليأس والإحباط؟ إذ إن أكثر الدعاة تفاؤلا لا يستطيع أن يتخيل مجرد خيال أن حال الأمة سيتحسن بالمستوى الذي تنشده هذه القصة حتى بالنسبة لمجتمع الدعاة والمشايخ أنفسهم فضلا عن غيرهم.

أما ذلك الجيش الذي يفر من السواك ولا يفر من الرماح، ويخاف من العض أكثر من السيف! فلا أدري أي جيش هذا؟ وأما قصة أن أسنان البشر تُحَد كما تُحَد السكاكين لتكون أقدر على العض، فهذه لا تحتاج إلى تعليق، لكنها مؤشر واضح على غياب الحس النقدي لدى القارئ، ولدى السامع أيضا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى