مقالاتمقالات مختارة

علماء الأمّة بين القضايا المصيرية ومسائل الفقه الجزئيّة

علماء الأمّة بين القضايا المصيرية ومسائل الفقه الجزئيّة

بقلم سلطان بركاني

يُنسب إلى سلطان العلماء العزِّ بن عبد السلام –ت رحمه الله سنة 660هـ- أنّه قال: “من نزل بأرضٍ تفشّى فيها الزّنى فحدّث الناس عن حرمة الرّبا، فقد خان”.. وهذه المقولة وإن كان لا وجود لها في شيء ممّا دوّنه العزّ أو خطّه ونقله معاصروه، إلاّ أنّها تتّفق تماما مع ما اشتهر عنه من جهره بكلمة الحقّ وشدّته في الإنكار على من يخالف الحقّ وعلى من يكتمه في وقت الحاجة إلى بيانه، وتنسجم مع نصوص الشّرع الكثيرة التي تتوعّد من يكتمون الحقّ طمعا في عرض من الدّنيا قليل أو كثير.

كتمان العالِم لكلمة الحقّ، ليس صغيرة من الصّغائر، إنّما هو كبيرة من كبائر الذّنوب المهلكة، لأنّه يؤدّي إلى خفاء الحقّ على العامّة والتباسه بالباطل، ويؤدّي إلى اعتزاز الظّالمين والمبطلين بباطلهم حين لا يجدون من ينكر عليهم.. ولهذا قرّر أعلام الأمّة أنّ العامي يجوز له أن يلوذ بالتقية متى ما خشي على نفسه الهلاك أو الأذى الذي لا طاقة له بتحمّله، أمّا العالم فإنّه لا يسعه أن يلوذ بالتقية، بل الواجب عليه أن يجهر بالحقّ ويتحمّل في سبيله الأذى، حتّى يبقى الحقّ ظاهرا أمام النّاس ولا يلتبس بالباطل، يقول الله تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)).

“من نزل بأرض تفشّى فيها الزّنى فحدّث النّاس عن حرمة الرّبا، فقد خان”: هذه الكلمة التي تؤكّد على حرمة انشغال العالم بمسائل الفروع وانقطاعه إلى الخوض في تفاصيل الجدل المتعلّق بها، عن الاهتمام بالقضايا الكبرى التي تشغل النّاس وتنتظر بيان العلماء وموقفهم؛ تصلح موعظة لبعض علماء الأمّة ودعاتها المعاصرين الذين ينشغلون في أوقات الفتن والمحن ببسط الكلام في مسائل الخلاف التي تلوي أعناق المسلمين عن الاهتمام بالقضايا التي تؤثّر في وجودهم وبقاء كيانهم إلى المسائل الفرعية المتعلّقة بالعقيدة أو الأحكام، مما لا ينبني عليه عمل، أو ينبني عليه عمل لكنّه لا يستحقّ أن يبسط فيه الكلام كما لو كانت الأمّة في أوج عزّها وسؤددها.

إنّه لأمر مؤسف حقا في خضمّ ما يتعرّض له المسلمون المرابطون في فلسطين خاصّة وأرض الشّام عامّة، هذه الأرض التي جاءت الأحاديث تترى في بيان فضلها وفضل أهلها في آخر الزّمان، أن تَبحث في مواقع بعض العلماء الذين يعدّ أتباعهم بمئات الآلاف وبالملايين، فلا تجد لأحدهم كلمة حقّ فيما تشهده أرض الإسراء، حتّى يضطرّ تلامذتهم ومقلّدوهم إلى إعادة بعث كلمات قديمة ليغطّوا بها عن سكوت أولئك العلماء والدّعاة (!) الذين يطفو على واجهات مواقعهم الحديث في مسائل الخلاف التي تتعلّق بإجزاء إخراج زكاة الفطر نقدا، وحكم الجهر بالتكبير أيام العيد، وحكم التكبير الجماعي، ومكان قيام الخطيب في خطبة العيد: على الأرض أم على المنبر؟ في وقت يُخرِج فيه أهلنا في فلسطين زكاة أموالهم دماءً ليطهّروا جبين الأمّة من الخيانات التي استمرأها بعض الحكّام وتبعهم عليها بعض العلماء!

وفي وقت يقف فيه الشباب المرابطون في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس على منبر الأمّة لينادوا: المسجد الأقصى ينادي ويستغيث، وفي وقت تستغيث فيه حرائر القدس -فرديا وجماعيا- وهنّ يُركلن بأقدام الصهاينة الأنجاس!.. العالِم من واجبه أن يفتي النّاس في كلّ ما يسألون عنه، ويجيبهم عن كلّ مسألة يحتاجون فيها إلى حكم الشّرع، في كلّ وقت وتحت أيّ ظرف؛ فيجيبهم عن مسائل الطّهارة والوضوء والنّكاح والطّلاق والبيع والشّراء، لكن ليس على حساب القضايا الأهمّ التي ترتبط بدماء المسلمين ومقدّساتهم.

يخطئ كثير من المتحمّسين الذين يستغلّون الأحداث الجسام التي تمرّ بأمّة الإسلام ليستهزئوا بمسائل الدين البسيطة وينكروا بشدّة الخوض فيها، ويطلقوا العنان لأقلامهم وألسنتهم بالطّعن في العلماء والدّعاة من دون تثبّت، لمجرّد أنّ أحد العلماء تكلّم في موضوع آخر غير الذي يشغل الأمّة، وهو الذي ربّما يكون قد تكلّم قبل ذلك وكرّر الكلام في القضية الأهمّ، لكنّ فورة الحماس تأخذ بعض المتعجّلين إلى مربّعات الغلوّ والمحاكمات الجائرة؛ فهؤلاء المتحمّسون عندما يرون عالما أو داعية ضرب صفحا عن قضية الأمّة ولم ينبس فيها ببنت شفة حرصا على حظوته لدى الحاكم أو حذرا من إحراج ولي الأمر، وراح يتكلّم في مسائل الفقه الجزئية؛ عندما يرون عالما هذا صنيعه، فإنّهم يسحبون حكمه على كلّ عالم يخوض في قضية أخرى غير القضية الأساسية، مهما كان هذا العالم قد تكلّم قبلها وجهر بالحقّ، وناصر إخوانه في أرض الرّباط ضدّ المحتلّين والمعتدين! ويزداد الأمر غرابة حينما ترى هؤلاء المتحمّسين لا تتحرّك ألسنتهم ولا قلوبهم أمام المنكرات التي تمتلئ بها ساحات الأمّة في أوج محنتها، ولا يستنكرون انشغال بعض أفراد الأمّة بالفنّ والرياضة في وقت يكابد فيه أهل الشّام التّشريد والتّنكيل!

الأمّة لا تستغني عن مسائل الدّين الجزئية، في كلّ وقت، ولا يُعاب من يتكلّم في هذه المسائل، إلا إن عُهد منه أنّه يتقصّد لفت الأنظار عن القضايا المصيرية، أو عُرف عنه السّكوت عن القضايا الأساسية والإصرار على خوض الجدل وإطالته في المسائل الجزئية في أوقات المحن والنّكبات وما أكثرها.. تماما كما لا يعاب من تكلّم عن غلاء الأسعار وتأخّر الرواتب وندرة السيولة في وقت يكابد فيه إخواننا في الشام ألم الجوع وحصار القريب وشماتة البعيد.

(المصدر: صحيفة الشروق الالكترونية)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى