مقالات مختارة

ضوابط في التعاون على البر والتقوى

بقلم الشيخ أحمد الزومان

منذ سقوط الخلافة العثمانية والأمة الإسلامية في حال تشرذم واختلاف يصل أحياناً إلى حد الاقتتال بحسن نية تارة وبتدخل الأعداء تارة وقد نجح مخطط الأعداء بعزل بعض الأمة عن بعض فجعل الولاء للوطن وتأثر بذلك الخاصة فضلاً عن العامة ومظاهر ذلك ظاهرة للجميع.

وأمام التباين بين أفراد الأمة وجماعاتها فهي بحاجة إلى التوجيه والعمل على إزالة أسباب تفرقها لا سيما حينما يجعل هذا السبب ديناً يؤتى به قربة إلى الله فأحببت أن أُذَكر ببعض الضوابط التي تزيل أكثر الاختلاف وتكون سبباً لجمع الشمل والتعاون على البر والتقوى.

1- الاختلاف سنة قدرية فلا يزال الاختلاف بين البشر في أديانهم ومعتقداتهم وآرائهم ومواقفهم ومنهم المسلمون ولم يخل زمن من الاختلاف لكن لكل وقت خلافه فالخلاف يقع في ما يشغل المجتمع ويدور فيه من أحداث واهتمامات فلا يزال الخلاف بين المسلمين وما اتفقوا عليه قليل مقابل ما اختلفوا فيه.

2- الناس متفاوتون في إدراكهم ونظرتهم للأحداث وذلك سبب من أسباب الاختلاف فليس كل مخالف يتهم بأنَّه صاحب هوى أو له مطامع شخصية أو غير ذلك.

3- ما كان ثابتاً بنص صحيح صريح لا يحتمل التأويل أو إجماع فلا يسوغ الخلاف فيه وما عدا ذلك فلا يخلو من الخلاف ومن له أدنى اطلاع يعلم أن بعض الخلاف وقع في دلالة نصوص مقطوع بصحتها. ويتأكد تسويغ الخلاف وعدم النزاع في ما لم يرد فيه نص مما يتنازعه المنع والإباحة ومن القواعد المتقررة عند أهل العلم: لا إنكار في مسائل الاجتهاد ويقصدون به المسائل التي ما لم يرد فيها نص خاص ككثير من الأشياء الحادثة في زماننا وحينما يثيب الله المجتهد المخطئ على اجتهاده فلا أقل أن نعذره ولا نثرب عليه.

4- الاعتدال في مواقفنا ومع المخالف فالاجتهادات تتغير وربما حدة أو كتابة ضد شخص أو جماعة تكون عائقاً عن الرجوع للحق.

5- العدل مع من نختلف معهم فلا نستر الحسن وما عندهم من أدلة بنوا عليها آراءهم ولا نحرف كلامهم أو نقتطع منه ما يغير معناه ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [المائدة: 8].

وعن طارق بن شهاب، قال: كنت عند علي – رضي الله عنه -، فسئل عن أهل النهر أمشركون هم؟ قال: من الشرك فروا، قيل: فمنافقون هم؟ قال: إنَّ المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا، قيل له: فما هم، قال: قوم بغوا علينا » [1] فلم تحمل المخالفة علياً رضي الله عنه إلى تكفير مخالفيه من الخوارج.

6- الترفق بالمخالف والتلطف في محاورته هو منهج نبوي فهو الأصل في تعامل الأنبياء عليهم السلام مع مخالفيهم ممن لا يدينون بدينهم فإخواننا أفراداً وجماعات أولى بذلك.

7- حينما نختلف مع إخواننا لا ننسى أنهم مسلمون لهم حقوق علينا فلا نغمطهم حقوقهم التي افترضها الله علينا من حسن المعاشرة ومحبة الخير لهم والخلاف معهم ليس بمسقط لحقوقهم.

8- يوازن بين المصالح والمفاسد في نقاش المسائل الخلافية فيحصر نقاش المسائل الاجتهادية التي تؤجج المشاعر وتكون سبباً في الفرقة على الخاصة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: الواجب أمر العامة بالجمل الثابتة بالنص والإجماع ومنعهم من الخوض في التفصيل الذي يوقع بينهم الفرقة والاختلاف فإنَّ الفرقة والاختلاف من أعظم ما نهى الله عنه ورسوله – صلى الله عليه وسلم – [2].

وقال الغزالي في ذكره لشروط المناظرة: أن تكون المناظرة في الخلوة أحب إليه وأهم من المحافل وبين أظهر الأكابر والسلاطين فإنَّ الخلوة أجمع للفهم وأحرى بصفاء الذهن والفكر ودرك الحق وفي حضور الجمع ما يحرك دواعي الرياء ويوجب الحرص على نصرة كل واحد نفسه محقاً كان أو مبطلاً [3].

وقد قال – صلى الله عليه وسلم – « من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليسكت» [4].

9- التعاون على البر والتقوى مع المخالف حتى ولو كان موغلاً في الخطأ فعن كثير بن نمر، قال: « بينا أنا في الجمعة، وعلي بن أبي طالب – رضي الله عنه – على المنبر إذ قام رجل، فقال: لا حكم إلا لله، ثم قام آخر، فقال: لا حكم إلا لله، ثم قاموا من نواحي المسجد يحكمون الله فأشار عليهم بيده: اجلسوا، نعم لا حكم إلا لله، كلمة حق يبتغى بها باطل، حكم الله ينتظر فيكم، الآن لكم عندي ثلاث خلال ما كنتم معنا، لن نمنعكم مساجد الله أن يذكر فيها اسمه، ولا نمنعكم فيئاً ما كانت أيديكم مع أيدينا، ولا نقاتلكم حتى تقاتلونا، ثم أخذ في خطبته » [5]. فلم يمنع علي – رضي الله عنه – الخوارج من العمل معه تحت إمرته.

وكذلك التعاون مع غير المسلمين فعن عبد الرحمن بن عوف – رضي الله عنه – قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « شَهِدْتُ غُلامًا مَعَ عُمُومَتِي حِلْفَ الْمُطَيَّبِينَ، فَمَا أُحِبُّ أَنَّ لِي حُمْرَ النَّعَمِ، وَأَنِّي أَنْكُثُهُ » [6].

10- عن نِيَار بن مُكْرَم الأسلمي – رضي الله عنه – قال لما نزلت: ﴿ الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ ﴾ [الروم: 1 – 4] فكانت فارس يوم نزلت هذه الآية قاهرين للروم، وكان المسلمون يحبون ظهور الروم عليهم لأنهم وإياهم أهل كتاب، وفي ذلك قول الله تعالى: ﴿ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ﴾ فكانت قريش تحب ظهور فارس لأنهم وإياهم ليسوا بأهل كتاب ولا إيمان ببعث… » [7].

فيفرح بتمكين من هو أقرب للخير من الحكومات الإسلامية وغيرها ويتعاون معهم على الخير ورفع الظلم. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها وأنها ترجح خير الخيرين وشر الشرين وتحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما وتدفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما [8].

11- لا عصمة لأحد من الجماعات والأفراد فيتجرد للحق ويرد ما يخالفه وإن كان من فاضل فعن سالم بن عبد الله، حدثه، أنه سمع رجلاً من أهل الشام، وهو يسأل عبد الله بن عمر – رضي الله عنه – عن التمتع بالعمرة إلى الحج؟ فقال عبد الله بن عمر – رضي الله عنه -: هي حلال، فقال الشامي: إنَّ أباك قد نهى عنها، فقال عبد الله بن عمر – رضي الله عنه -: أرأيت إن كان أبي نهى عنها وصنعها رسول الله صلى الله عليه وسلم، أأمر أبي نتبع؟ أم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟، فقال الرجل: بل أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: « لَقَدْ صَنَعَهَا رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم »[9].

12- ترك العمل بالظن والتثبت مما ينسب للمخالف لا سيما أنَّنا نعيش في عالم تسيطر فيه الكثير من الأجهزة الأمنية على أغلب مناحي الحياة مع فشو النفاق.

13- عدم إغفال التباين في قدرات الناس والظروف التي يعيشون فيها فلا نطلب من شخص ما ليس في مقدوره.

14- تحرير المراد والتفصيل في المسائل المحتملة فالاصطلاحات التي تحتمل حقاً وباطلاً يبين المراد منها كالديمقراطية فمن ينادي بها هل يريد الديمقراطية بمعناها الحرفي وهذا لا يتصور صدوره من مسلم أم الشورى وهنا يكون الخلاف في كيفية تطبيق آلية اختيار الحاكم لا في أصلها.

15- التأكد من مطابقة النص للمسألة سواء كان نصاً شرعياً أو لأهل العلم فمثلاً أغلب الأحكام التي يذكرها المتقدمون في كتب السياسة الشرعية وغيرها المتعلقة بالحاكم لا تنطبق على زماننا فبعد سقوط الخلافة الأمة في نازلة لم تمر بها قبل ذلك.

16- عدم المبادرة برد بعض الاجتهادات التي لا محذور فيها فتعطى فرصة للتجربة فإن ثبتت منفعتها وإلا تركت.

17- التباين في المواقف بين بعض نخب الأمة من سياسيين وإعلاميين ومفكرين وبعض القيادات العلمية الشرعية أحياناً يكون ناتجاً عن التفاوت في التحصيل العلمي الشرعي فلا بد من علاجه.

18- التسليم لرأي المختصين في كل مجال وما تتداخل فيه المجالات يرجع فيه للموازنة بين المصالح والمفاسد.

19- إذا كان الخلاف قدرنا وإذا كان – على الأقل – في هذه المرحلة العصيبة التي تمر بها أمتنا يتعسر إن لم يتعذر اجتماع الجميع فلا نجعل توحد الجميع شرطاً للتعاون فلنسعَ ليكون اختلافنا اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد فكل جماعة أو فرد يعتنون بالجانب الذي يتقنونه فمثلا من لهم عناية بالعلم الشرعي كالسلفية العلمية يعتنون بالعلم بثاً وتأصيلاً لما تحتاجه الأمة ودفعاً للشبه وحملة السلاح يذودون عن حياض الأمة ومن لهم عناية بالشأن السياسي يبصرون الأمة ويقودونها سياسياً ومن حصروا جهدهم بالدعوة كالتبليغيين يسعون في انتشال المقصرين وتزكية النفوس وأهل الإعلام يبصرون الأمة بالواقع ويساهمون في تطهيرها من رذائل الأقوال والأعمال وينافحون عنها وهكذا كل حسب تخصصه.

ختاماً الخلاف في هذه الأمة قديم فحصل نزاع بسبب التعصب المذهبي الفقهي أدى إلى إزهاق الأنفس وخراب الديار [10] وكذلك بسبب مسائل اعتقاد صاحبها في دائر السنة [11] بل أخرج بعض الأمة بعض المسلمين من دائرة الإسلام فحكموا بكفر كل من قال أنا مؤمن إن شاء الله ومنعوا تزويجه وتلطف بعضهم وجعلوا حكمهم حكم أهل الكتاب [12] ويكون الساسة أحيانا طرفاً في النزاع فإذا قوي طرف وخافوا منه وقفوا مع الطرف الآخر [13].

وقد زالت هذه الأمور ولله الحمد وأصبحت من التاريخ بل نتعجب حينما نقرأ الخلاف في صحة الصلاة خلف الحنفي أو الشافعي أو هل يصح أن يتزوج الشافعي حنفيه أو العكس. زال ذلك كله باجتهاد المصلحين الذين ضحوا وبذلوا لرد الأمة إلى المورد الصافي التي تحدد مواقفها على ضوئه فكذلك الخلافات التي تعاني منها الأمة اليوم يمكن التقليل منها وتجاوز كونها عائقاً أمام نهوض الأمة ودفعها للصائل الذي يريد أن يستبيحها كلها لكنه يسعى للتفرد ببعض الجماعات فإذا استأصلها التفت إلى غيرها.

إخوتي، هذه ضوابط عامة ليست خاصة بجماعة أو وقت اجتهدت فيها وأنا أعلم أن البعض سيخالفني في بعضها فاعمل أخي منها بما تعتقد أنه حق فوجود ما تعتبره أخطاء تخالف ما تعتقده لا يستلزم رد كل ما فيها.

————————————————

[1] رواه ابن أبي شيبة (37942) بإسناد صحيح.
[2] مجموع الفتاوى (12/ 237).
[3] إحياء علوم الدين (1/ 44).
[4] رواه البخاري (6018) ومسلم (74) من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه -.
[5] رواه ابن أبي شيبة (37930) ورواته ثقات عدا كَثِير بن نمر ذكره البخاري وابن أبي حاتم ولم يذكرا فيه جرحاً ولا تعديلاً وذكره ابن حبان في ثقاته.
[6] رواه الإمام أحمد (1679) ورواته ثقات.
[7] رواه الترمذي (3194) وقال حديث صحيح حسن غريب من حديث نيار بن مكرم لا نعرفه إلا من حديث عبد الرحمن بن أبي الزناد.
[8] مجموع الفتاوى (20/ 48).
[9] رواه الترمذي (823) بإسناد صحيح.
[10] قال ياقوت الحموي في معجم البلدان (1/ 209) فشا الخراب في هذا الوقت وقبله في نواحيها [أصفهان] لكثرة الفتن والتعصّب بين الشافعية والحنفية والحروب المتصلة بين الحزبين، فكلما ظهرت طائفة نهبت محلّة الأخرى وأحرقتها وخرّبتها، لا يأخذهم في ذلك إلّ ولا ذمة
وقال في معجم البلدان (3/ 117) وقعت العصبيّة بين السنّة والشيعة فتضافر عليهم الحنفية والشافعيّة وتطاولت بينهم الحروب حتى لم يتركوا من الشيعة من يعرف، فلمّا أفنوهم وقعت العصبيّة بين الحنفية والشافعيّة ووقعت بينهم حروب كان الظفر في جميعها للشافعيّة هذا مع قلّة عدد الشافعيّة إلّا أن الله نصرهم عليهم، وكان أهل الرستاق، وهم حنفية، يجيئون إلى البلد بالسلاح الشاك ويساعدون أهل نحلتهم فلم يغنهم ذلك شيئا حتى أفنوهم، فهذه المحالّ [في الرّيّ] الخراب التي ترى هي محالّ الشيعة والحنفية، وبقيت هذه المحلة المعروفة بالشافعية وهي أصغر محالّ الرّيّ ولم يبق من الشيعة والحنفية إلّا من يخفي مذهبه
[11] قال ابن كثير في البداية والنهاية (16/ 65) في شوال منها [سنة: 470] وقعت فتنة بين الحنابلة وبين فقهاء النظامية [أشاعرة]، وحمي لكل من الفريقين طائفة من العوام، وقتل بينهم نحو من عشرين قتيلا، ثم سكنت الفتنة.
[12] قال ابن مازة في المحيط البرهاني (3/ 171) ذكر الشيخ الإمام أبو حفص السفكردري رحمه الله في فوائده: أنه لا ينبغي للرجل الحنفي أن يزوج ابنته من شفعوي المذهب، وعن بعض مشايخنا أنه يجوز لنا أن نتزوج بناتهم، ولا يجوز لنا أن نزوج بناتنا منهم. وعن الشيخ الإمام الجليل أبي بكر محمد بن الفضل أن من قال: أنا مؤمن إن شاء الله إنه يكفر في الحال، فعلى هذا القياس لا يجوز المناكحة بيننا وبينهم أصلا.
[13] قال ابن الأثير في الكامل (7/ 40-41) ذكر فتنة الحنابلة ببغداذ: وفيها عظم أمر الحنابلة، وقويت شوكتهم، وصاروا يكسبون من دور القواد والعامة، وإن وجدوا نبيذا أراقوه، وإن وجدوا مغنية ضربوها وكسروا آلة الغناء، واعترضوا في البيع والشراء… فركب بدر الخرشني، وهو صاحب الشرطة، ونادى… ألا يجتمع منهم اثنان ولا يتناظروا في مذهبهم،… فلم يفد فيهم، وزاد شرهم وفتنتهم… أمير المؤمنين يقسم بالله قسما جهدا إليه يلزمه الوفاء به لئن لم تنتهوا عن مذموم مذهبكم ومعوج طريقتكم ليوسعنكم ضربا وتشريدا، وقتلا وتبديدا، وليستعملن السيف في رقابكم، والنار في منازلكم ومحالكم.
وقال المعصومي في هل المسلم ملزم باتباع مذهب ص:(45) الحاصل أن المذهب صارت من ملعبة الملوك وسياساتهم.

(شبكة الألوكة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى