تطور سلوك الجماعات المتطرفة بالقدس
بقلم عبدالله معروف
شكل صعود تيار اليمين المتطرف في السنوات الأخيرة ظاهرةً لافتةً في المجتمع الإسرائيلي مع جنوح هذا المجتمع باستمرار نحو اليمين.
وبدا ذلك واضحاً في ازدياد قوة وأثر هذا التيار في السياسة الإسرائيلية المحلية، بخاصة في ملفات حساسة كالقدس والأماكن المقدسة. وضمن هذه المنظومة وجدت تيارات اليمين المتطرف طريقها ممهداً للإمساك بزمام الأمور في دولة الاحتلال وتسيير السياسة الإسرائيلية بما يتوافق مع مصالحها ومفاهيمها الدينية المتطرفة.
نظرةٌ عابرةٌ إلى تاريخ الحركات اليمينية المتطرفة في إسرائيل تكشف أن هذه الجماعات يغذيها تيار ديني متشدد يعتبر أن تطهير هذه الأرض عرقياً هو واجب ديني مقدس، ويرى في الرؤى الدينية المستقبلية كالمسيح المنتظر والمعبد الثالث وحرب هرمجدون موجهاً لكيفية التحرك، وبوصلة ينبغي اتباعها للوصول إلى تحقيق رؤيتها الدينية.
وهذا الأمر حكم سلوك المتطرفين التاريخي في القدس بالذات، باعتبار أن مدينة القدس تعتبر عند هذه الجماعات نقطة الارتكاز في مشروعها الديني والقومي، ولذلك بدأت هذه الجماعات تتحرك منذ اللحظة الأولى لظهور دولة الاحتلال باتجاه تغيير أوضاع القدس وأماكنها المقدسة بالقوة، إذ شاركت بفاعلية بعمليات التطهير العرقي في فلسطين والمجازر التي حدثت عشية النكبة.
وبعد حرب عام 1967 واحتلال شرقي القدس وضمنها المسجد الأقصى برزت أدبيات التيار الديني المتطرف منذ اللحظة الأولى لدخول قوات الاحتلال المسجد الأقصى، من خلال النداء الذي أطلقته قوات الاحتلال في ذلك اليوم “هار هبيت بيدينو” أي (جبل المعبد بأيدينا) إضافةً إلى نفخ الشوفار (البوق) في منطقة المسجد الأقصى وحائط البراق.
لكن الاعتبارات السياسية التي كانت لدى صانع القرار الإسرائيلي العلماني بعد هذا الحدث جعلته ينأى بنفسه عن رؤية هذه الجماعات التي كانت تطالب منذ اللحظة الأولى بسرعة هدم المسجد الأقصى بالكامل وإقامة المعبد الثالث على أنقاضه، فتحركت الآلة السياسية الإسرائيلية في ذلك الوقت ضد هذا التوجه المتشدد للتيار اليميني خوفاً من أن يتحول الانتصار الذي تحقق في ذلك العام إلى هزيمة، وكانت في ذلك مدعومةً بمعارضةِ المرجعية الدينية الرسمية لتلك التوجهات.
أدى ذلك إلى ضعفٍ عامٍّ في قوة تأثير هذا التيار داخل المؤسسة السياسية الإسرائيلية، وأدى بالتالي إلى تحول أفرادها إلى اتباع أسلوب السلوك الفردي في محاولة تطبيق رؤيتهم على الأرض. بخاصة مع إيمانهم بالمبادئ التي وضعها الحاخام المتشدد مائير كاهانا زعيم حركة “كاخ” الذي اغتيل في نيويورك عام 1990. وتجلى ذلك في اعتماد هذه الجماعات على أسلوب عمليات الهجوم الفردية على الفلسطينيين ومقدساتهم، وهذا الأمر تسبب بتعرض المسجد الأقصى لاعتداءات متكررة، لم يكن أولها محاولة تنظيم “جال” (الخلاص) بزعامة المتطرف يوئيل ليرنر تفجير قبة الصخرة المشرفة قبل اكتشاف العملية ووقفها عام 1977. ولحقتها محاولة أخرى بنفس الأسلوب على يد المتطرف يهودا عتسيون الذي كان منخرطاً بتنظيم إرهابي سري خطط لتفجير قبة الصخرة ضمن خطةٍ واسعة اكتشفت عام 1984 وتضمنت زرع عبوات ناسفة بالحافلات الفلسطينية في القدس لقتل أكبر عدد من المدنيين واغتيال شخصيات فلسطينية. وقبل ذلك كان اعتداء الجندي الإسرائيلي-الأمريكي ألان جودمان على قبة الصخرة المشرفة عام 1982.
يمكن فهم تلك المبادرات الفردية من هذه الجماعات في سياق الرغبة في التحرك باعتبار الدولة لا تقف معهم، ما جعلهم يتحركون بأسلوب العدوان المباشر وأخذ الأمور بأيديهم. ولكن مع صعود اليمين في إسرائيل وتمكنه من السيطرة على الحكم مع صعود أرئيل شارون إلى سدة الحكم بدأت هذه الجماعات كما يبدو تقتنع بالتجمع وعمل ما يشبه اللوبي، بتعزيز نفوذهم داخل الأحزاب اليمينية وعلى رأسها الليكود. وهذا ما أكسبها قوة كبيرة على مدى السنوات الماضية. وصلت بمرحلة معينة إلى أن يكون لها مؤيدون بلا قيد ولا شرط في قلب حزب الليكود، بل وانضمام بعض أفراد هذه الجماعات إلى حزب الليكود والأحزاب الدينية الأخرى مثل الحاخام يهودا غليك، أحد زعماء الجماعات المتطرفة التي تنضوي تحت ما يسمى اتحاد منظمات المعبد، التي تعمل ليل نهار لتأسيس وجود يهودي دائم في المسجد الأقصى.
بل وصل الأمر بهذه الجماعات وبتلاميذ الحاخام كاهانا إلى تأسيس حزبهم الخاص وهو حزب “القوة اليهودية” بزعامة إيتامار بن غفير، الصديق المقرب للمتطرف باروخ غولدشتاين الذي ارتكب مذبحة المسجد الإبراهيمي في الخليل عام 1994م، وتحالف مع حزب “الاتحاد الوطني” الذي يتزعمه بتسلئيل سموتريتش لتشكيل قائمة “الصهيونية الدينية” التي خاضوا بها الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة وحصلوا بها على 7 مقاعد بالكنيست الإسرائيلي. ليتحول إيتامار بن غفير من مشاغب متطرف يؤمن بالإرهاب إلى عضو كنيست محمي بالقانون بل ومرشح ليصبح وزيراً.
وهذا ما شجع الجماعات المتطرفة أيضاً على المطالبة بالتحرك العملي لتنفيذ رؤاهم. وكان لهم بذلك فاعليات كان ذروتها التخطيط للاقتحام الكبير للمسجد الأقصى يوم 28 رمضان الذي كان ينوي اليمين المتطرف من خلاله التحرك عملياً لتغيير الوضع القائم بالأقصى، مما أدى إلى الانفجار الكبير الذي تشهده فلسطين حالياً.
ولكن هذه الجماعات فشلت بهذا المسعى، ما جعلها الآن تراجع خططها وأفكارها واتجاهاتها إلى العمل المؤسسي والسياسي في إسرائيل. فما دام العمل السياسي لا يشكل قدرة على فرض الأمر الواقع بالأقصى، فما يُخشى منه الآن هو عودة هذه الجماعات إلى أسلوب الاعتداءات كما كانت تفعل قبل العمل السياسي، مع استغلال قوتها الحالية وتغلغلها داخل أجهزة الدولة العبرية، فهي تمتلك الآن مؤيدين من كبار قادة الأجهزة الأمنية بخاصة في القدس، حسب ما تدعي هذه الجماعات المتطرفة.
وهذا ما يضع أمامنا عدداً من السيناريوهات والاحتمالات لتوقُّع تحركات هذه الجماعات كمحاولة الاعتداء على أماكن مقدسة أو ارتكاب أعمال مسلحة واعتداءات على المصلين الآمنين، أو إطلاق النار قرب المسجد الأقصى أو عند أبوابه في أي وقت من الأوقات، وهذا الأمر ينبغي الانتباه إلى خطورته في الفترة الحالية، بخاصة أننا أمام جماعاتٍ سبق لها ارتكاب مثل هذه الأفعال.
إن المطلوب منا توقُّع هذا السلوك ومراقبته والاستعداد للتصدي له، بل والتصدي لوجودهم جوار المسجد الأقصى ابتداءً، فوجودهم نفسه قربه وقرب بواباته أصبح يشكل خطراً كبيراً بعد الإحباطات المتتالية التي منيت بها هذه الجماعات في الفترة الأخيرة. ولا أدل على ذلك من إقدام المتطرف أساف فريد المتحدث باسم ما يسمى اتحاد منظمات المعبد الذي يفترض أن يمثل الوجه المدني لهذه الجماعات المتطرفة، على نشر صورة لنفسه مع سلاحه الأوتوماتيكي بقلب مدينة اللد على صفحته بفيسبوك، مع نشر دعوته لاقتحام المسجد الأقصى أيام 16-18 مايو/أيار الجاري، وعبارة تقول: “لا بد أن نفعل شيئاً”.
هذا الأمر يجعلنا نتساءل: ما الذي يمكن أن يمنع مثل هذا المتطرف غداً أن يحمل سلاحه وينزل به إلى المسجد الأقصى؟
إن مجرد وجود هذه الجماعات قرب المسجد الأقصى أو بواباته أصبح يشكل خطراً كبيراً، والواجب أن يُمنع أفرادها حتى الاقتراب من المسجد الأقصى، وفتح العيون على أي احتمال لعمل مجنون قد تفعله هذه الجماعات. وإننا إذ نحذر من هذا الأمر فإننا نؤكد أنه يبقى في دائرة الاحتمالات، لكن درهم وقاية خير من قنطار علاج، وقد رأينا سابقاً كيف أدى تجاهل هذه الجماعات وتحركاتها وتطور أساليب عملها إلى أن وصلت إلى ما وصلت إليه، فهل نسكت عنها الآن؟
(المصدر: تي آر تي TRT العربية)