مقالاتمقالات مختارة

عبد الله بن بيه بين التطبيع والجرائم الإسرائيلية

عبد الله بن بيه بين التطبيع والجرائم الإسرائيلية

بقلم معتز الخطيب

إذا تتبعت نشاط الشيخ عبد الله بن بيه، رئيس منتدى تعزيز السلم الإماراتي، لن تجد له تعليقًا أو تصريحًا بشأن ما يجري في غزة وعموم فلسطين اليوم، وهو الحدث الذي يشغل العالم أجمع، وخلّف الكثير من الضحايا من الأطفال والنساء والرجال، فضلًا عن تدمير قسم مهم من المباني الحيوية والبنية التحتية، وقد بات هذا عدوانًا معتادًا من إسرائيل على قطاع غزة الذي هو تحت الحصار منذ عقد ونصف، ويحتوي على أعلى كثافة سكانية في العالم.

يمكن للشيخ أو بعض مريديه أن يستدلوا هنا بالمقولة الفقهية المعروفة: لا يُنسب لساكت قول، ولكن الصمت الذي ناقشه علماء أصول الفقه يتعلق بمباحث الاجتهاد الفقهي لا السياسي، وقد تردد من تردد من الفقهاء في نسبة قول إلى الساكت؛ لاحتمال توقف المجتهد في المسألة أو لاحتمال أن الساكت يرى تصويب كلّ مجتهد، أو لاحتمال أن يكون سكوته لخوف أو مهابة أو غير ذلك. ولهذا ميز بعض العلماء في السكوت الدال على الرضا بين السكوت عند الفتيا والسكوت عند الحكم، ولكن من المؤكد أن السكوت في معرض الحاجة إلى البيان بيانٌ، كما أن قرائن الأحوال إن دلت على أن السكوت هو لأجل الرضا جاز الأخذ بهذا السكوت.

الحفاظ على النفس الذي يزعم أنه محرّك نشاطه كله يفرض عليه العمل في 3 اتجاهات عيّنها هو نفسه؛ وما يجري في غزة وعموم فلسطين يشكل اختبارًا حقيقيًّا لدعوته تلك، فضروري الحياة مهدد الآن؛ بفضل العابثين من قوات الاحتلال.

ولكن ماذا عن صمت الشيخ بن بيه في المواقف السياسية وقضايا الأمة تحديدًا؟

ثمة 3 عوامل تؤكد أن هذا الصمت يعبّر عن رؤية الشيخ السياسية التي تتوافق مع المحور السياسي الذي انحاز له منذ بداية ما سمي بالربيع العربي، وهي: الحاجة إلى البيان، وقرائن الأحوال، والمعلومات المتوفرة عن نشاطه وتحركاته. ففي أكتوبر/تشرين الأول 2019 التقى الشيخُ بابا الكنيسة الكاثوليكية في القصر الرسولي بالفاتيكان ضمن أعمال توقيع وثيقة “موقف العائلة الإبراهيمية في القضايا المتعلقة بإنهاء الحياة”، وقال حينئذ إن “هذا اللقاء يأتي في سياق (التعاون على الخير). والحفاظُ على النفس البشرية يُعدّ من أبرز مقاصد الشريعة الإسلامية والقيم المشتركة بين الأديان، ولا بدّ من التذكير بضروريِّ الحياة الذي بدأت تمتدّ إليه يد العابثين من كلّ صوب (1) بالإجهاض قبل الإيجاد، (2) وبالإرهاب والاحتراب أثناء الحياة، (3) وبالإجهاز لدى الممات”.

فالحفاظ على النفس الذي يزعم أنه محرّك نشاطه كله يفرض عليه العمل في 3 اتجاهات عيّنها هو نفسه؛ وما يجري في غزة وعموم فلسطين يشكل اختبارًا حقيقيًّا لدعوته تلك، فضروري الحياة مهدد الآن؛ بفضل العابثين من قوات الاحتلال، كما كان -ولا يزال- مهددًا في سوريا من قبل النظام العابث الذي قتل مئات الآلاف من السوريين خلال عقد واحد فقط، بصنوف من الأسلحة وتحت التعذيب، ولكن بن بيه لا يحدد من يعني بـ”العابثين”، خصوصًا أننا لم نجد له تحركًا واحدًا باتجاه عنف الأنظمة والدول، بل لا يختص إلا بجماعات الإسلام السياسي وجماعات العنف التي يلتقي مع القوى الغربية في محاربتها.

وفي 8 مايو/أيار الحالي نشرت الصحف الإماراتية بيانًا مقتضبًا جاء فيه “تدعو الأمانة العامة لمجلس حكماء المسلمين المجتمع الدولي إلى التحرك -بجدية- لوقف التوتر في القدس الشريف عقب المواجهات العنيفة أخيرًا. وتحذر الأمانة العامة للمجلس من تنامي مشاعر الكراهية بين أصحاب الأديان؛ مما يتيح الفرصة أمام صناع الخطاب المتطرف لاستغلالها في الترويج للكراهية والتشدد”. يستعمل هذا البيان المقتضب المنسوب إلى الأمانة العامة لمجلس حكماء المسلمين (الذي يُعد بن بيه أحد مؤسسيه) “التوتر في القدس” و”المواجهات العنيفة”، وهي مصطلحات تتحاشى تسمية الاحتلال والقتل والقصف الإسرائيلي للمدنيين وتدمير البنية التحتية؛ فالمسألة مجرد توتر بين طرفين. بل إن البيان يزيد على ذلك الغمزَ بمن يسميهم “صناع الخطاب المتطرف” -كما سمى بن بيه من قبل “العابثين”- الذين يمكن أن يستغلوا تنامي مشاعر الكراهية التي يسببها هذا التوتر! وفي الواقع، يعبر هذا البيان وصمتُ بن بيه عن موقف دولة الإمارات من المقاومة والقضية الفلسطينية عامة.

تجد الإمارات اليوم نفسها في مأزق جديد؛ لاعتبارات عدة. أولها: أن العنصر الأكثر فاعلية اليوم في المقاومة الفلسطينية هو حركة حماس التي هي جزء مما يسمى “الإسلام السياسي” الذي تخوض معركتها معه مُسخّرةً أذرعها الدينية (كمجلس الحكماء ومنتدى تعزيز السلم وغيرهما). بل ربما خُيّل لبعض مُشايعيها أن فكرة المقاومة المسلحة -وربما القضية الفلسطينية برمتها- هي قضية “إسلام سياسي”! ثانيها: أن نجاح المقاومة اليوم في استعادة زمام المبادرة وإحياء القضية الفلسطينية وبث الروح في حركات الاحتجاج الشعبي على إسرائيل وعدوانها -عربيًّا وإسلاميًّا ودوليًّا- مصدر إرباك كبير للمشروع الإماراتي وأدواته، وبخاصة ما سمي “اتفاقية أبراهام” ومشروع التطبيع الذي رعته مع ترامب وصهره كوشنر. وثالثًا: أن هذه التطورات تحقق مكاسب جديدة لخصومها (بخاصة قطر وتركيا). ورابعها: أن هذه التطورات تسبب لها خسارة مالية في استثماراتها داخل دولة الاحتلال وفي القدس.

ولأجل ذلك، لا يقف الأمر عند حدود اللغة التي استعملها بيان مجلس حكماء الإمارات، بل يتعداه إلى شكل التغطية الإعلامية للقنوات التي تبث من داخل الإمارات (كقناتي العربية والشرق السعوديتين، وقناة سكاي نيوز عربية)، التي اكتفت بتغطية عادية ضمن النشرات، فضلًا عن سياستها التحريرية في تغطية الحدث، التي صارت محط تهكم وسخرية من قبل جمهور وسائل التواصل الاجتماعي. يأتي صمت بن بيه -إذًا- في سياق حافل بالقرائن والتحركات التي تجعل منه أداة من أدوات السياسة الإماراتية التي يتحدث باسمها ويتحرك وفق أجندتها، ويقود لها اتفاقية أبراهام.

ففي 19 أبريل/نيسان الماضي نشر الشيخ محمد بن زايد ولي عهد أبو ظبي فيديو ترويجيًّا قصيرًا عن اتفاقية أبراهام ودور الإمارات في تعزيز السلم، وكتب بالإنجليزية قائلًا إن “قيمنا الأساسية المتمثلة في التسامح والتعايش السلمي مكَّنتنا من بناء قوتنا ووحدتنا على مدار 50 سنة الماضية. سنستمر في إنارة الطريق نحو السلام والتنمية لدولة الإمارات والعالم على مدى 50 سنة القادمة”. ويظهر في الفيديو الشيخ عبد الله بن بيه -إلى جانب آخرين- قائلًا إن “فعل الخير والمعروف والتضامن هو السبيل لإنقاذ البشرية”؛ رغم أنه لم يصنع معروفًا لضحايا الثورات العربية، ولم يتضامن مع أهل فلسطين.

وقد أعاد دان فيفرمان (Dan Feferman) نشر تغريدة محمد بن زايد قائلًا إن “الإمارات تقود نحو شرق أوسط أكثر سلامًا”. ودان فيفرمان هو زميل في معهد سياسة الشعب اليهودي (JPPI)، وهو -حسب صفحته الشخصية على الإنترنت- عضو مؤسس في مجلس الأعمال الإماراتي-الإسرائيلي الذي يسعى إلى إقامة علاقات تجارية وثقافية وشخصية بين الإماراتيين والإسرائيليين، كذلك أسس ويرأس منتدى الخليج-إسرائيل للسياسات (the Gulf-Israel Policy Forum). وهو أيضًا رائد (احتياطي) في “جيش الدفاع الإسرائيلي” إذ شغل منصب محلل السياسة الخارجية والأمن القومي والإستراتيجي، والمستشار في هيئة الأركان العامة للجيش الإسرائيلي، وعمل مساعدًا خاصًّا لنائب رئيس هيئة الأركان العامة، وقائدًا في وحدة استخبارات النخبة في قسم البحوث والتحليل في (AMAN). وقد ظهر دان في 15 أبريل/نيسان الماضي على منصة “زوم” (zoom) متحدثًا عن أهمية اتفاقية أبراهام، وكان من ضمن الراعين لهذه الفعالية منظمة أيباك اليهودية التي يظهر شعارها إلى جانب شعارات مؤسسات أخرى.

وإذا دققنا في قوائم المدعوين والفاعلين في منتدى تعزيز السلم سنجد اسم الحاخام الإسرائيلي ديفيد روزن (David Shlomo Rosen) الذي يظهر في صورة تجمعه بالشيخ بن بيه وحمزة يوسف وآخرين. وروزن ينشط من خلال “اللجنة اليهودية الأميركية”، ويشغل منصب رئيس الحاخامات في اللجنة الإسرائيلية للعلاقات بين الأديان، وهو الممثل اليهودي الوحيد في مجلس إدارة مركز الحوار بين الأديان (KAICIID) الذي أنشأه الملك عبد الله ملك السعودية عام 2012. وهذه اللجنة اليهودية الأميركية التي ينضوي ضمنها روزن مؤيدة لإسرائيل والحرب الإسرائيلية على غزة حاليًّا كما يتضح من صفحتها على تويتر، حيث نجد -مثلًا- تصريحًا لمديرها التنفيذي ديفيد هاريس في 16 مايو/أيار الحالي يقول “كأصدقاء لإسرائيل، من المهم أن نشيد ونثني على الذين اختاروا أن يقفوا إلى جانب إسرائيل خلال الأزمة الحالية”. يشير بذلك -حسب تغريدة اللجنة نفسها- إلى “الدول التي وقفت إلى جانب الدولة اليهودية”.

وليس الحاخام روزن الوحيد الذي شارك ضمن منتدى تعزيز السلم، ففي 2020 ألقى الحاخام الأكبر ميرفيس (Chief Rabbi Mirvis) كلمة في المنتدى عقب اتفاقية أبراهام، وغرد في 16 ديسمبر/كانون الأول 2020 قائلًا “في كل عام يعقد الشيخ عبد الله بن بيه منتدى مرموقًا لتعزيز السلم في المجتمعات المسلمة”. ونقرأ في سيرة ميرفيس أنه مثّل مصالح إسرائيل على المستوى الحكومي وفي وسائل الإعلام، بل ذهب عام 1999 على رأس مجموعة من الحاخامات البريطانيين إلى إسرائيل في رحلة تضامن، وحصل عام 1990 على جائزة القدس من رئيس إسرائيل حاييم هرتسوغ. وقد دافع في 2014 عن حق إسرائيل في حماية نفسها من هجمات حماس الصاروخية معتبرًا أن الصراع بين إسرائيل والفلسطينيين استُخدم غطاء للتعبير عن مشاعر العداء للسامية. وفي صفحة ميرفيس على تويتر بتاريخ 16 مايو/أيار الحالي نجده يقول “نصلي من أجل السلام ووضع حد للاستهداف المتعمد لملايين الإسرائيليين الأبرياء، ومن أجل وقت يتمكن فيه جميع الأبرياء أينما كانوا من العيش دون خوف”. وفي 14 أبريل/نيسان الماضي غرد قائلًا “تستمر إسرائيل في الأوقات الصعبة في كونها منارة للديمقراطية، ومنزل التوراة، والمرتكز الروحي لشعبنا”.

تعبر هذه العلاقات والتحركات -بوضوح- عن مشروع منتدى تعزيز السلم الإماراتي الذي يرأسه بن بيه، ويشكل قنطرة للتطبيع مع إسرائيل، بل سخر بن بيه معرفته الفقهية لإيجاد مسوغات شرعية من أجل ذلك، وقد سبق لي أن فندتها في سلسلة مقالات سابقة. وسبق له أيضًا أن فوّض قرار التطبيع إلى ولي الأمر؛ رغم أنه هو نفسه أحد أدوات ولي الأمر لتنفيذ سياسة التطبيع والتعبير عنها ووضع الأسس الشرعية اللازمة لها باتجاهين: اتجاه الثورة المضادة ومحاربة حركات الإسلام السياسي (ومنها المقاومة)، واتجاه تعزيز العلاقة مع إسرائيل سياسيًّا وثقافيًّا واقتصاديًّا.

لا يقف المشروع الإماراتي عند حدود التطبيع السياسي، بل يتعداه إلى الاستثمار الاقتصادي في إسرائيل، كما بدا بوضوح من خلال الفيديوهات الإماراتية الترويجية لقرار التطبيع، وكما يتضح من خلال مهام دان فيفرمان المشار إليه سابقًا، وفي هذا السياق فإن التغريدة التي كتبها الشيخ حمد بن جاسم بن جبر آل ثاني في 12 مايو/أيار الجاري ذات دلالة مهمة، إذ قال بنبرة غير معتادة إن “بعض الذين يتباكون على ما يجري في فلسطين وبالذات على المسجد الأقصى الذي بارك الله ذو العزة والجلال حوله يطعنون الأقصى وأهل فلسطين في ظهورهم. فبعض الأشقاء المتباكين اشتروا ما حول الأقصى وحولوه إلى غير أصحاب الدار؛ كي يحصلوا على الثناء وعلى بعض المال! بئس التجارة الدنيئة!”، في ما يبدو أنه إشارة إلى الاستثمارات الإماراتية في بعض أحياء القدس.

وليس بعيدًا عن هذا اختيار الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس ليكون الفائز بجائزة الشيخ زايد للكتاب لعام 2021، ومن المعروف أن هابرماس ومدرسة فرانكفورت التي ينتمي إليها مؤيدون لإسرائيل وليس لهم أي موقف نقدي من الحروب الإسرائيلية على الفلسطينيين؛ الأمر الذي دفع بعض الكتاب إلى إثبات وجود توافق بين الصهيونية والنظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت التي يعدّ هابرماس أكبر ممثليها اليوم.

والطريف أن شتيفان فايدنَرالذي انتقد رفض هابرماس جائزة الإمارات أثبت البعد السياسي للجائزة من حيث أراد أن ينفيه، فقد قال إن قيم وأفكار التنوير التي يدافع عنها هابرماس لها بريقها في العالم العربي، “ويُرَوَّج لها حتى من قِبَل الحكّام السلطويين المستبدّين في الحكم، سواء أكان ذلك من أجل التصدّي للإسلام السياسي ومطالباته الدينية بالسلطة، أم من أجل إيجاد قاسم مشترك ولغة مشتركة مع الثقافة السياسية في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية”. وختم مقاله قائلًا “يبدو أنه حتى معاهدة السلام الإماراتية مع إسرائيل لا يُفترض أن تُؤهّل أبو ظبي لمنح شخص هو يورغن هابرماس جائزة؟ فما الذي نريده بعد؟”. وفي ظني أن فايدنر يكشف عن أسباب اختيار الإمارات لهابرماس، وعن سياق ذلك الذي شرحته في هذا المقال.

(المصدر: الجزيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى