كتب وبحوث

معاهدات السلام العربية الإسرائيلية في ميزان الشريعة الإسلامية 3

معاهدات السلام العربية الإسرائيلية في ميزان الشريعة الإسلامية 3

إعداد د. عطية عدلان

موقف المعاصرين من شرط عــدم التأبــيــد فــي معــاهدة الســلام

كثير من المعاصرين لم ينازع في هذا الشرط، منهم الدكتور وهبة الزحيلي في مدونته الجامعة (الفقه الإسلامي وأدلته)، حيث قال: «اتفق الفقهاء على أن عقد الصلح لابد أن يكون مقدرا بمدة معينة، فلا تصح المهادنة إلى الأبد من غير تقدير بمدة، وإنما هي عقد مؤقت؛ لأن الصلح الدائم يفضي إلى ترك الجهاد»([1])

ومنهم الدكتور محمد على الحسن حيث قال بعدم جواز المعاهدات السلمية المطلقة إلا إذا كانت عقودا غير لازمة، أما إذا كانت عقودا لازمة فلا تجوز؛ لأن في ذلك تعطيل للجهاد، وقد قال الرسول – صلى الله عليه وسلم-: «الجهاد ماض إلى يوم القيامة”، وآيات القرآن الكريم توجب الجهاد في كل زمان ومكان، والمعاهدة المطلقة الملزمة توجب وقف القتال إلى الأبد إذا استقام الكفار على عهدهم إلى الأبد، وهذا غير جائز شرعا([2]).

ومنهم الدكتور فتحي الدريني الذي قال([3]): «على أنه إذا اقتضت ظروف المسلمين إيقاف القتال، جاز ذلك مهادنة، لا سلما ولا صلحا، شريطة أن يكون لفترة موقوتة لا تطول، لاستجماع القوى، وإعداد العدة على أرفع مستوى، ثم استئناف الجهاد من جديد … كيلا تنقطع أو تتعطل فريضة الجهاد، لأنها -في شرع الإسلام- مستمرة أبدا، دفاعا عن الحق والعدل الذي كثيرا ما يبغي عليه … فالدولة في الإسلام مجاهدة أبدا، وسلمها قوي عزيز، لقوله -صلى الله عليه وسلم-: ( الجهاد ماض إلى يوم القيامة) ([4]) وقول الله تعالى:﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ﴾ [آل عمران: 139].

لكن البعض الآخر من المعاصرين وقف من هذا الشرط موقف المستريب، وحاول أن يدفعه بكل حيلة، من هؤلاء فضيلة الإمام محمد أبو زهرة رحمه الله تعالى؛ حيث يصرح بجواز الصلح الدائم، وحيث لم يستطع أن يدفع إجماع العلماء رأيناه يحاول التشكيك في منزع قولهم ومنبع إجماعهم فيقول: «انتهاء الحرب أو توقيها بصلح دائم لم يجئ من النصوص القرآنية ما يمنعه، فدوامه من موجب الوفاء بالعهد ولا يصح نقضه، وإلا كان غدرا، والصلح الدائم يكون بالنص على الدوام أو بإطلاقه من غيره مدة، وإذا كان بعض الفقهاء قد قرروا أن الصلح إذا لم يقيد بزمن يجوز نقضه لمصلحة المسلمين، أي إذا كانت مصلحة المسلمين في نقضه، فإنهم قد أخذوا ذلك من واقعات الزمان؛ لأنهم لاحظوا أن المسلمين في حرب دائمة، وأن من يعقد معهم صلحا لا ينوي الوفاء به، فلا يكون من مصلحة المسلمين أن يستمروا على الوفاء مع توقع النقض من غيرهم، ولكن ذلك ليس هو المبدأ المقرر الثابت في النصوص الواردة عن النبي وصرح بها القرآن، فقد صرح القرآن بوجوب الوفاء، أيا كان العقد، وقال النبي لما بلغه أن من صالحهم يريدون النقض: «وفوا لهم واستعينوا الله عليهم».

   وإن التزام الوفاء بالعهد في صلح لا يمنع الحذر المستمر واليقظة الدائمة، فإن تبين أنهم يستعدون فعلا للانقضاض على المسلمين يطرح لهم عهدهم، مع بيان الأسباب المبررة، ليكونوا على علم، وليستطيعوا الرد إذا لم تكن الأسباب صحيحة»([5]).

    ويقول: «ولقد أثاروا تحت تأثير حكم الواقع الكلام في جواز إيجاد معاهدات لصلح دائم ،وأن المعاهدات لا تكون إلا بصلح مؤقت لوجود مقتضيات هذا الصلح، إذ إنهم لم يجدوا إلا حروبا مستمرة مشبوبة موصولة غير مقطوعة إلا بصلح مؤقت، وقد قرر الكثيرون منهم أن الصلح لا يقع إلا مؤقتا، إذ ما كان يرى إلا ما أيدته الوقائع المستمرة، وأنه من السياسة الحكيمة التوقيت، حتى يكون الحذر الذي أوجبه الإسلام، فقد أمر الله تعالى في القرآن الكريم، بأن يكون المؤمنون في حذر دائم مستمر»([6]).

وحيث إن الفقهاء في قولهم هذا تأثروا بالواقع؛ فإن قولهم هذا لا حجة فيه، يقول الشيخ أبو زهرة: «والحق أن أقوال الفقهاء لا تعتبر وحدها حجة في الإسلام، ولا حجة عليه إلا بمقدار قربها من النصوص القرآنية والأحاديث النبوية، والوقائع الزمنية؛ لا تحكم على القرآن، بل القرآن هو الحاكم عليها»([7]).

ثم يستطرد: «وإننا نقرر أن الأحكام العامة الخالدة التي جاء بها القرآن وبلغها النبي -صلى الله عليه وسلم- لا تخضع لأحوال وقتية، ولا لأقوال قررها بعض الفقهاء لأحوال ووقائع زمنية، بل تخضع فقط للنصوص الخالدة، وواجبنا نحو العالم أن نبين لهم الأحكام غير الزمنية، ولقد أدرك هذا بعض الفقهاء الذين جاءوا من بعد، فقرروا الأحكام الخاصة بالعلاقات الدولية معتمدين في تقريرها على ما وجدوه في الكتاب والسنة، وقد وجدوا أقوالا منسوبة لأئمة الفقه الإسلامي -رضوان الله عليهم – توافق ما وجدوه في الكتاب والسنة، وهم يخالفون ما قرره الفقهاء الذين جاءوا من بعد الأئمة، وقيدوا أنفسهم بالوقائع وما تمليه، ومن هؤلاء ابن تيمية»([8]).

ونسبة القول بجواز السلم الدائم لابن تيمية نسبة غير صحيحة، ولعل الشيخ أبو زهرة اعتمد على نصوص ابن تيمية التي تجيز الهدنة المطلقة، والدليل على ذلك أنه خلط بين الاطلاق والتأبيد عندما قال: «لقد قال بعض الفقهاء: إنه لا يجوز عقد صلح دائم»، والواقع الصحيح أن الذي قاله بعض الفقهاء هو أنه لا يجوز عقد صلح مطلقا، أما عدم جواز التأبيد فهو قول الفقهاء كافّة؛ فالذي يبدو أن الشيخ خلط بين الإطلاق والتأبيد.

وقد اتكأ الشيخ أبو زهرة على أصل اعتبره صحيحا، ولأن الفقهاء على خلاف هذا الأصل اعتبرهم أيضا متأثرين فيه بضغط الواقع، وهذا الأصل الذي اعتمد عليه هو القول بأن الأصل في علاقة الدولة الإسلامية بغيرها من الدول هو السلم لا الحرب، فيقول: «والحق أن الخلاف في هذه القضية مبني على أن أصل العلاقات: أهو السلم أم أصل العلاقات هو الحرب؟ فالذين قالوا إن أصل العلاقات هو السلم قالوا: عن الصلح الدائم جائز بل مطلوب إن وجدت النية الحسنة عند المخالفين، وهؤلاء الفقهاء هم الذين استمسكوا بالنصوص القرآنية والأحاديث النبوية الداعية إلى السلم الدائمة والذين قالوا: إن الصلح الدائم غير جائز – فوق أنهم تأثروا بالواقع في المعاهدات – تأثروا بالواقع أيضا في الأصل، في علاقة المسلمين بغيرهم»([9]).

    والحقيقة أنّ هذا الخلاف: هل الأصل بين الدولة الإسلامية هو الحرب أم السلم؟ خلاف مُحْدَثٌ، مبنيّ على سؤال مُحْدَثٍ أيضا؛ لأنّ الحرب والسلم من وسائل الجهاد الماضي إلى يوم القيامة، وكلاهما جهاد في سبيل الله، وكل منهما يؤدي دورا في التمكين للإسلام وتحقيق عموم الرسالة، فالأصل ليس هذا ولا ذاك، وهي مفاضلة مُلْهِيَةٌ مُشْغِلة مُفَرِّقة للنظر الفقهيّ، أما الأصل فهو الدعوة وإماطة الفتنة، فالأصل في العلاقة بين الأمة الإسلام والأمم الأخرى هو الدعوة إلى الإسلام بالقول الحسن والمجادلة بالتي هي أحسن وبالقدوة وحسن المعاملة والاحترام لحقوق الإنسان وحريات الشعوب وكرامة الآدميين، أمّا الأصل في العلاقة بين الدولة الإسلامية والدول غير الإسلامية فهو إماطة الفتنة، والفتنة تتمثل في سيادة وهيمنة نٌظٌم وشرائع جاهلية؛ قال تعالى (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) (البقرة: 193)، (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ) (الأنفال: 39)؛ فالأرض إمّا أن تكون السيادة فيها للشريعة الإلهية فيكون الدين كله لله، والخضوع كله لسيادة الشريعة الإلهية، وإمّا أن تكون السيادة فيها لغير شرع الله فتكون فتنة، ومن هنا وجب على الدولة الإسلامية أن تسعى لدفع الفتنة عن الأرض، وأن تخير الكافرين بين أمرين واضحين: إمّا أن يدخلوا (سلماً وصلحا) تحت هيمنة الشريعة وسيادتها وإن بقوا على دينهم، فتنتهي فتنتهم سلما، وإمّا أن يقاتلوا حتى تتحقق ذات الغاية: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) (التوبة: 29).

    أمّا القول بأنّ القرآن ليس فيه ما يمنع من إنهاء الحرب أو توقيها بصلح دائم، فهو تجاهل لوجود الجبال الرواسي وشموخها وثباتها؛ إذْ إنّ جميع الآيات الآمرة بالجهاد من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا مانعةٌ من إنهاء الحرب وتوقيها بصلح دائم إذا كان في ذلك الإنهاء أو التوقي رفع لكلمة الذين كفروا أو خفض للكلمة العليا كلمة الله، ولذلك وجدنا في القرآن الدعوة إلى الصلح إذا جنح له الكفار وكان فيه مصلحة للمسلمين، ووجدنا بمحاذاته النهي عن الدعوة إلى السلم إذا كان بالمؤمنين قوة وبأس:

(فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ) (محمد: 35)

 أي: “لا تضعفوا عنهم وتدعوهم إلى الصلح والمسالمة، وأنتم القاهرون لهم والعالون عليهم”([10]).

   ولا يخالف أحد في وجوب الوفاء بالعقود والعهود سواء كانت مع مسلين أو كافرين، لكنّ الكلام هنا ليس في الوفاء من عدمه، وإنّما في إعطاء هذه العقود والعهود من حيث الأصل، والعقود إن كانت مطلقة لم ينص فيها على مدة محددة ،ولم ينص كذلك على التأبيد كانت عقودا جائزة من الطرفين، بمعنى أنّه يحق لكل طرف إنهاءها متى شاء بشرط نبذ العهد إلى الطرف الآخر حتى يكونا سواء في العلم بانقضاء العهد، أمّا إن كانت مشروطة بمدة محددة أو بالتأبيد كانت لازمة، وفي الحالتين لم يجز للمسلمين نقضها إلا إذا وقع من الطرف الآخر عدوان أو خرق للعقد، غير أنّ إقرار الكفار على الفتنة حتى ولو لم يعتدوا مقبول بصفة مؤقتة وليس مقبولا على التأبيد؛ حيث إنّ الأمة مأمورة بالجهاد أبدا حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله؛ وهذا هو السرّ في اتفاق العلماء على عدم جواز التأبيد، وهذا هو الفارق الرئيس بين الإطلاق والتأبيد.

    والقول بأنّ علماء السلف تأثروا بالواقع فرأوا الكيانات التي يتعاقدون معها لا تفي بالعقود فأطلقوا الحكم بعدم جواز التأبيد فيها؛ فيجاب عنه بالآتي:

أولا : من الصعب اتفاقهم على حكم ينسبونه للشرع تأثرا بالواقع، فإنّه إن ساغ أن يتأثر البعض فلا يمكن أن يكون هذا هو شأن الكل، ثم إنّهم إن كان واقعهم قد دفعهم لذلك فواقعنا الذي لم نجد فيه من أعداء هذه الأمة إلا النقض والنكث ،بل والمكر المستمر ولاسيما الصهاينة يجب أن يدفعنا إلى ما دفعهم إليه؛ فهم قدوتنا على كل حال.

وفي فتوى للشيخ ابن باز -رحمه الله-وجدنا تطبيقا وتنزيلا لمثل هذه الرؤية على واقع المعاهدات العربية الإسرائيلية، حيث أفتى في نازلة الصلح بين منظمة التحرير الفلسطينية والكيان الصهيونيّ؛ أفتى بالآتي: “تجوز الهدنة مع الأعداء مطلقة ومؤقتة إذا رأى وليّ الأمر المصلحة في ذلك” لقوله سبحانه: (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنّه هو السميع العليم) ولأنّ النبيّ -صلى الله عليه وسلم- فعلهما جميعا”([11])، ويواصل: “ولأنّ الحاجة والمصلحة الإسلامية قد تدعو إلى الهدنة المطلقة ثم قطعها عند زوال الحاجة، كما فعل ذلك النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، وقد بسط العلامة ابن القيم القول في ذلك في كتابه أحكام أهل الذمة، واختار ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية وجماعة من أهل العلم”([12]).

من الأدلة التي اعتمد عليها القائلون بجواز التأبيد في عقد الهدنة من المعاصرين، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صالح أقواما صلحا مؤبدا، فصالح اليهود في أول عهده بالمدينة صلحا مؤبدا وأعطاهم في الوثيقة المشهورة عهدًا مؤبدا، كما صالح أهل نجران وبني ضمرة وغيرهم صلحا مؤبدا وهذه بعض النصوص التي ساقوها ليستشهدوا بها على ذلك:

1- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم -كتب لأهل نجران: «بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما كتب محمد النبي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأهل نجران إذ كان عليهم حكمه، في كل ثمرة وفي كل صفراء وبيضاء ورقيق فأفضل ذلك عليهم ،وترك ذلك كله على ألفي حلة من حلل الأواقي في كل رجب ألف حله و في كل صفر ألف حلة مع كل حلة أوقية من الفضة، فما زادت على الخراج أو نقصت على الأواقي فبالحساب، وما قضوا من دروع أو خيل أو ركاب أو عرض أخذ منهم بالحساب، وعلى نجران مؤنة رسلي ومتعتهم ما بين عشرين يوما فما دون ذلك، ولا تحبس رسلي فوق شهر، وعليهم عارية ثلاثين درعا وثلاثين فرسا وثلاثين بعيرا إذا كان كيد باليمين ومعرة، وما هلك مما أعاروه رسلي من دروع أو خيل أو ركاب فهو ضمين على رسلي حتى يؤديه إليهم، ولنجران وحاشيتها جوار الله وذمة محمد النبي الرسول، على أموالهم وأنفسهم وأرضهم وغائبهم وشاهدهم وعشيرتهم وبيعهم وكل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير، لا يغير أسقف من أسقفيته ولا راهب من رهبانيته ولا كاهن من كهانته وليس عليه دنية، ولا دم جاهلية ولا يخسرون ولا يعسرون ولا يطأ أرضهم جيش، ومن سأل منهم حقا فبينهم النصف غير ظالمين ولا مظلومين ومن أكل ربا من ذي قبل فذمتي منه بريئة، ولا يؤخذ رجل منهم بظلم آخر ، وعلى ما في هذه الكتاب جوار الله وذمة محمد النبي رسول -صلى الله عليه وسلم- أبدا حتى يأتي الله بأمره، ما نصحوا ما عليهم غير مثقلين بظلم»([13]).

2-كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم لبني ضمرة بن بكر بن عبد مناه بن كنانة « أَنَّهُمْ آمِنُونَ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ لَهُمُ النَّصْرَ عَلَى مَنْ دَهَمَهُمْ بِظُلْمٍ و، َعَلَيْهِمْ نَصْرَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- مَا بَلَ بَحْرٌ صُوفَةً إِلا أَنْ يُحَارِبُوا فِي دِينِ اللَّهِ، وَأَنَّ النَّبِيَّ إِذَا دَعَاهُمْ أَجَابُوهُ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ ذِمَّةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَلَهُمُ النَّصْرُ عَلَى مَنْ بَرَّ مِنْهُمْ وَاتَّقَى»([14])

فهذا العهد تضمن تعبيراً عربياً هو «ما بل بحر صوفه» وهو تعبير يدل على الديمومة؛ لأن خاصية البلل دائمة في ماء البحر.

هذه هي أدلتهم, وليست هذه الأدلة سوي شبهات لا تقوي على رد ما اتفق عليه العلماء ، ولا على إبطال ماتقرر في الفقه الإسلامي وفق مقاصد الشريعة الغراء، وذلك للأتي:

أولاً: أن العلماء قد اتفقوا على عدم جواز التأبيد في عقد الموادعة؛ وإذا اتفق العلماء على أمر فلا يصح أن يقال إنهم تأثروا بالواقع فانعكس هذا التأثر على فهمهم وعلى أحكامهم؛ لأن التأثر بالواقع إن أحدث عند العلماء انحرافاً عن الفهم الصحيح للكتاب والسنة كان هذا ضلالة منهم، ولا تجتمع أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- على ضلالة.

ثانياً: وبناء هذه المسألة على أن الأصل في علاقة الدولة الإسلامية بالدول غير الإسلامية السلم يؤكد بطلان قولهم؛ لأن القول بأن الأصل السلم يفضي إلي ترك جهاد الطلب المجمع على وجوبه وجوبا كفائيا، وقد نقل الإجماع غير واحد من العلماء منهم القرطبي وابن عطية؛ وقد سبق أن بينا أنّ هذا التقسيم وهذه المفاضلة شيء محدث لا قيمة له.

ثالثاً: أن استدلالهم بأن الرسول الله -صلى الله عليه وسلم- هادن اليهود في المدينة هدنة دائمة، وكذلك أهل نجران وأهل خبير وبني ضمرة , استدلال غير صحيح؛ لأن هؤلاء جميعاً لم تكن مصالحة النبي لهم هدنة وإنما كانت ذمة, وليس عقد الهدنة كعقد الذمة؛ لأن العلماء «فرقوا بينهما بأن عقد الذمة أقوي وآكد؛ ولذا كان موضوعاً على التأبيد بخلاف عقد الهدنة والصلح»([15])

يقول الأمام ابن القيم: «صار في اصطلاح كثير من الفقهاء أن أهل الذمة عبارة عمن يؤدي الجزية، وهؤلاء لهم ذمة مؤبدة وهؤلاء قد عاهدوا المسلمين على أن يجري عليهم حكم الله ورسوله إذ هم مقيمون في الدار التي يجري فيها حكم الله ورسوله بخلاف أهل الهدنة فإنهم صالحوا المسلمين على أن يكونوا في دارهم سواء كان الصلح على مال أو غير مال لا تجري عليهم أحكام الإسلام كما تجري على أهل الذمة لكن عليهم الكف عن محاربة المسلمين وهؤلاء يسمون أهل العهد وأهل الصلح وأهل الهدنة»([16])

    والصحيح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- عقد لليهود في المدينة عقد ذمة، بدليل أن الصحفية تضمنت بنداً يقضي بأن يرد الأمر في كل ما اختلف فيه إلي الله ورسوله:«وأنكم مهما اختلفتم فيه من شيء فمرده إلي الله ومحمد» وهذا معناه أن أحكام الإسلام تجري عليهم، وهذا هو العنصر الأول من العناصر المميزة لعقد الذمة وهو عنصر (الصغار) أما العنصر الثاني وهو الجزية فلم يكن قد شرع بعد, وما يقال هنا يقال عن أهل خيبر, يقول ابن القيم: «والنبي -صلى الله عليه وسلم- لم يوقت عقد الصلح والهدنة بينة وبين اليهود لما قدم المدينة بل أطلقه ما داموا كافين غير محاربين له فكانت تلك ذمتهم غير أن الجزية لم يكن نزل فرضها بعد»([17])

ويقول في موضوع آخر: «ولا يقال: أهل خيبر لم تكن لهم ذمة بل كانوا أهل ذمة قد أمنوا بها على دمائهم وأموالهم أمانا مستمراً، نعم لم تكن الجزية قد شرعت ونزل فرضها، وكانوا أهل ذمة بغير جزية، فلما نزل فرض الجزية استؤنف ضربها على من يعقد له الذمة من أهل الكتاب والمجوس، فلم أخذ يكن عدم أخذ الجزية منهم لكونهم ليسوا أهل ذمة بل لأنها لم تكن نزل فرضها»([18]).

وأما عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- لنبي ضمرة فقد كان أيضاً عقد ذمة، يدل على ذلك نص الكتاب الذي كتبه إليهم، فكون الكتاب ينص على أن لهم ذمة الله ورسوله ولهم النصر و، أنهم آمنون على أموالهم وأنفسهم يد ل على أن العقد عقد ذمة لا عقد هدنة، وقد سبق أن عقد الذمة يؤبد بخلاف عقد الهدنة،  وكذلك كتاب النبي لأهل نجران كان عقد ذمة بدليل ما فرضه عليهم في أموالهم، وبدليل أنه حرم عليهم أخذ الربا، وهذا إجراء لأحكام الإسلام عليهم، وبدليل أنه أرسل إليهم من يكون أميراً عليهم وهو أبو عبيدة بن الجراح.

 فهذه العقود التي استدل بها هذا الفريق من المعاصرين عقود ذمة لا موادعة «وعقد الموادعة عقد غير لازم؛ وهو إما أن يكون مطلقاً أو مؤقتاً, ولكن الذي يكون مؤبداً هو عقد الذمة».

    وأخيرا فإنّ العلماء إذا كانوا قد اتفقوا على منع التأبيد وعللوه بالإفضاء إلى ترك الجهاد؛ فإنّهم قصدوا بالجهاد الغزو الذي يجب على الكفاية، ولم يقصدو جهاد الدفع الذي يجب وجوبا عينيا، فأمّا إذا وجب جهاد الدفع فإنّه لا يتنافى فقط مع تأبيد السلم وإنّما يتنافى مع عقد السلم من الأساس؛ فلا يتصور مشروعية لعقد السلم من حيث الأصل الحربيين إذا وقع منهم العدوان.


([1]) الفقه الإسلامي وأدلته (8/5877).

([2]) راجع: العلاقات الدولية في القرآن والسنة (ص360) وما بعدها.

([3]) خصائص التشريع الإسلامي في السياسية والحكم (ص365).

([4]) رواه الطبرانى في الأوسط برقم”4915″(ج6ص2523)، وأبو نعيم في الحلية برقم”3379″(ج4ص1891)

([5]) العلاقات الدولية في الإسلام (ص118).

([6]) السابق (ص83).

([7]) السابق (ص84).

([8]) السابق (ص84).

([9]) السابق (ص83-84).

([10])تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (22/ 188)

([11])حكم الصلح مع اليهود في ضوء الشريعة الإسلامية – الشيخ عبد العزيز بن باز – إشراف رئاسة البحوث والإفتاء – ط أولى 1996م – صــــ 4

([12]) السابق صـــــ5

([13]) إمتاع الأسماع 14/70 – دلائل النبوة 5/389 – الأموال لابن زنجويه 2/477 برقم (732)

([14]) رواه ابن سعد في الطبقات الكبرى برقم”674″(ج1ص404) – الروض الأنف 5/78

([15]) زاد المعاد(3/123) .

([16]) أحكام أهل الذمة(2/874) .

([17])زاد المعاد (3/123) .

([18]) زاد المعاد (3/306) .

(المصدر: رسالة بوست)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى