الكاتب: محمد الأمين مقراوي الوغليسي
تعتبر قضايا المرأة من أهم القضايا التي تحدث تجاذبات بين مختلف أطياف المجتمع، ومن بين القضايا التي أحدثت- ولاتزال – تحدث نقاشا صاخبا داخل المجتمع الإسلامي عموما والعربي خاصة.
ونظرا لاختلاف زوايا النظر بين الخائضين في الموضوع؛ فقد ظهرت تيارات متناقضة ومتعارضة في هذا الشأن، وبين التناقض والتعارض فرق كبير يعرفه أهل الثقافة.
وبوضوح شديد نقول إن المسلمين ظلوا يعتقدون -وإلى اليوم- أن الميزان الإلهي خير ميزان توزن به قضايا الخلاف، وأن المنظور الرباني خير ما تقاس به أمثال هذا الأمور.
مع اعتقادنا أن النظر إلى مثل هذه القضايا يجب أن يتم عبر مختلف النواحي، ونقصد بذلك: النواحي الاجتماعية والنفسية والسياسية والاقتصادية، والفيزيولوجية والحضارية عموما، وهو ما تحرص عليه الشريعة الإسلامية الغراء.
فالقضية ليست جامدة، ولا معزولة عن الواقع، ولا يمكن أن تعالج من باب واحد، مقابل إهمال حقائق أخرى ذات صلة وثيقة بها.
عمل المرأة وزوايا النظر الغائبة:
ومما سبق نصل إلى نتيجة مفادها: ضرورة دراسة مسألة عمل المرأة من كل النواحي المشار إليها سابقا، ثم إصدار حكم مناسب لها، لا يصادم حقائق الشرع، ولا يلغي الواقع مرة واحدة؛ لأننا وجدنا الكثير من الخائضين في الموضوع يبنون أحكامهم على قناعة واحدة، أو تصور وحيد، ثم يعتقدون أن ما توصلوا إليه من نتائج هو عين الحقيقية التي لا مناص منها، ومن كان منهجه في البحث الاعتماد على عنصر واحد، وإقصاء بقية العناصر المكونة للموضوع، فإنه سيقع حتما في الطرح المتطرف الذي يجافي الوسطية، ويجاور التفريط أو الإفراط.
منهجية الحديث في القضايا الإنسانية المركبة:
والحصيف العاقل من جمع كل ما له علاقة بالموضوع، وشكّل منظومة نظر ودراسة مناسبة للموضوع، ثم أصدر رأيه الذي يبقى قابلا للنقاش، فالمنهجية الصحيحة، هي المساعد الأول على تحديد رؤية واضحة، وتصور صحيح، وهذه دعوة لاعتماد النظر المنهجي في دراسة أي موضوع، خاصة المواضيع التي تثير الخلاف بين الناس.
عشر وقفات مع عمل المرأة:
ولنا وقفات مع قضية عمل المرأة يمكن أن نوجزها في هذه النقاط المختصرة:
أولاً: يقرر الإسلام مبدأ العدل بين الرجل والمرأة، والعدل وضع كل شيء في مكانه المناسب.
ثانياً: يختلف الرجل والمرأة في بعض الفروع والجزئيات التي تعتبر سببا وجيها في تبادل الأدوار، ولا يمكن إنكار هذا الاختلاف، الذي تقرّه العقول السليمة، الموافقة للفطرة، والشريعة الإسلامية لا تناقض الطبيعة البشرية أبدا، فهي تشريع ممن خلق البشر، ويعلم طبائعهم، وما يناسبهم.
الرجل والمرأة: علاقة صراع واحتراب؟
ثالثا: العلاقة بين الرجل والمرأة علاقة تبادلية تكاملية، من حيث الوظائف الحياتية، والأدوار الحضارية، فرسالة الإنسان على هذه الأرض هي البناء والتعمير، ولاشك أن العمل كفريق مبدأ إسلامي جليل، ولا ينازع في ذلك إلا جاهل أو جاحد، وماداما يتقاسمان أدوارا مختلفة في الشكل والصورة، ومتحدة في الرسالة والغاية، فكل منهما يؤدي دوره ورسالته في الحياة وفق الغايات الكبرى التي خلق الله لأجلها بني آدم.
رابعا: لا يوجد صراع بين الرجل والمرأة، بل الأصل التناغم والوحدة؛ لأجل مجتمع واحد يعيشان فيه، وينطلقان منه، فهو بمثابة السفينة، التي يركبها الجميع، وعلى الجميع المساهمة في صيانتها وحمايتها.
ماكثة بالبيت أم عاملة بالبيت؟
خامسا: المرأة وخروجها للعمل يخضع لمعادلة دقيقة وهي: وجوب اعتبار عملها المنزلي عملا حضاريا مقدسا، فما الفرق بين جدران المنزل وجدران الشركات والمؤسسات؟ وما الفرق بين أولئك الذين تستقبلهم المرأة في العمل وأولئك الذين ترعاهم في البيت؟ أليس الجميع بشرا؟ فلم اعتبار وظيفتها بالمنزل عيبا وانتقاصا لها، ومن جهة أخرى اعتبار وجودها خارج بيتها أمرا أفضل وأقدس لها؟ ماهي المقاييس التي يقيس بها المفاضلون بين الأمرين؟ هل هي مقاييس علمية موضوعية، أم أن التفرقة تخضع للمزاجية والتشهي؟ أسئلة تحتاج إلى إجابة، بدل الهروب للأمام ومحاولة تلغيم عمل المرأة في المنزل، – ولا نقول بقاء المرأة في المنزل، لأنه تعبير يوحي أنها جاءت من الشارع والخارج، وأن الأصل بقاءها خارجه، وأن الاستثناء هو البقاء في المنزل- بألغام هي في حد ذاتها ظلم كبير للمرأة.
ومع الدعوة إلى اعتبار عمل المرأة في المنزل رسالة ووظيفة حضارية، لا نغفل عن ضرورة توفير كل وسائل السعادة المادية والمعنوية لها، في ظل حقوق الإنسان، التي أقرّها الإسلام للبشر، منذ آدم عليه السلام إلى آخر رسالة سماوية على هذه الأرض.
المرأة في منزلها: المصنع الأول في المجتمع:
سادسا: يجب اعتبار عمل المرأة في البيت منتجا، حتى لو سمّاه البعض منتجا بطريقة غير مباشرة، فهو في الأخير يقدم المورد البشري اللازم لاستمرار الحياة، واستمرار الأمم، والدول، ومن يعتبر عمل المرأة غير ضروري ولا منتج -رغم أنه يقوم على التربية، والتعليم، وتنمية الشخصية، ومرافقة الصغير- فيقال له: إن دعوتك تعني أن قطاع التربية والتعليم الذي يعد منتجا بشكل غير مباشر، هو قطاع غير هام، فما الفرق بين عمل المعلمة والمعلم في المدرسة، وبين وظيفة المرأة في بيتها؟ لا فرق، بل إن وظيفة المرأة في المنزل أقدس وأعظم.
المرأة والتقدير الاجتماعي:
سابعا: يجب تقدير عمل المرأة بالمنزل اجتماعيا، ونشر هذا الاعتبار والتقدير وتكريسه وترسيخه، بل وتقديم الاهتمام به على الاهتمام بالعمل الخارجي، وذلك عن طريق مكافأتها، وتحسين رواتب زوجها ووالدها أو من يكفلها، فمن يزدري زوجها وأباها وكفيلها، ويلجئه للعمل، ويحوجها للعمل، ثم يطلق دعوات تحرير المرأة، ودعوات المساواة المكذوبة، ودعوات توفير حقوق المرأة، إنما يمارس الدجل والكذب، وهو أول من يجرم بحق المرأة.
إن من إكرام المرأة تكريم زوجها أو والدها في راتبه، حتى تتفرغ هي للعلم أو التربية والتنئشة، بدل التفكير في كيف تساعد والدها في رفع إيرادات ميزانية الأسرة، أمّا إهانة شقيقها الرجل، وتدميره وإتعاسه، ثم ادعاء محبة شقيقته، لهو من عمل السفهاء.
تداعيات عمل المرأة على المجتمع:
ثامنا: خروج المرأة للعمل له آثار خطيرة، ومنها: أنه يخل بالميزان الاجتماعي، لأن خروجها بشكل طاغٍ وكثيف سيحرم الرجل من فرص العمل، وبالتالي تتعطل قوة بشرية هائلة، كان بإمكانها أن تأخذ دورها الحضاري المنوط بها.
تاسعا: ومن الآثار الخطيرة لذلك أنّ عددا ضخما من النساء سيحرم من فرصة بناء أسرة؛ لأنّ الرجال -والشباب خاصة- الذين يفترض أن يكونوا موظفين وعمالا وجدوا أنفسهم غارقين في البطالة، وأنى لشاب بطّال عاطل، لا يملك مالا ولا عملا أن يبني أسرة؟ بل إنّ خروج المتزوجات على ما فيه من مفاسد كثيرة، مثل استرجال المرأة، وذهاب حيائها، وتعب أعصابها، وتعرضها لمخاطر كثيرة أقلها التحرش، وعيشها رعبا مستمرا في عملها، من الطرد، إن هي احتجت، فإن فيه مفسدة أخرى وهي أنها بأخذها لهذا المنصب قد حرمت امرأة أخرى من الزواج، فكل منصب كان يفترض أن يكون للرجل وصار لشقيقته المرأة معناه ضياع فرصة بناء أسرة على رجل وامرأة.
عاشرا: توفير عمل مناسب للمرأة مثل الطب والتعليم، أمر محمود، لكن أن ترسل النساء إلى الأماكن البعيدة، إلى القرى والمداشر، والبراري البعيدة، وإلى الجبال، فهذا مما يخالف العقل والحكمة، فليت الذين يتحمسون لهذا الأمر يلتفتون إليه وليظهروا حرصهم عليهن إن كانوا صادقين.
وختاما نقول على الدولة ومؤسساتها أن تركز جهودها في توفير العيش الكريم، والراتب المجزي الذي يحقق للرجل وأسرته الكفاف والعفاف، الأجر الذي يجعل الرجل قادرا على إعالة أهله، ولا يضطر نساءه للخروج إلى العمل لإعالة أنفسهن أو مساعدة من ينفق عليهن، ولا يتم ذلك إلا باستغلال طاقات المجتمع وموارده في بناء اقتصاد يحقق الكرامة الإنسانية للمجتمع، ويحفظ لكل فرد فيه دوره ومقامه ومستقبله.
الجمعيات العلمانية النسوية وتدمير الحياة:
أما جمعيات “الدفاع عن حقوق المرأة” في العالم العربي، فقد ظهرت حقيقة دعاويهم، وهي خلق صراع بين الرجل والمرأة؛ لإفساد المجتمع، وعزلها شعوريا عن الرجل، وإحلال روح الصراع بينها وبين شقيقها الرجل، بدل الوئام والتكامل، وكأنّ فالمرأة تعيش في كوكب آخر، وأن الرجل قد غزا كوكبها، حيث يصورونه وحشا مفترسا، وينشرون الكتب والمقالات وخاصة الروايات التي تروج لأكذوبة المجتمع الذكوري؛ لأجل حشد المزيد من النساء اللاتي لا يدركن حقيقة هذه الجمعيات ودعاويها.
إن توفير العيش الكريم لكل المجتمع هو المطلب الأساس، بدل الهروب للأمام، وتلقف دعوات غربية فاسدة في ذاتها، ولازالت صرخات الغربيات يتردد صداها في ذهني وأذني، كقولها: “تعبت من الظهور قوية في مجتمع لا يرحم المرأة” وقولها: “المشكلة في الرجال الذين لا يريدون تحمل المسؤولية”، وقولهن: “نريد أسرة، نريد أطفالا”، وصراخهن: “نريد عائلا يكرمنا”.
وهي حقيقة مرُّة؛ فالمرأة الغربية إن لم تعل نفسها ضاعت وماتت وهانت، أما في عالمنا العربي الإسلامي فلا يزال الرجل يتحمل كلفة حياة بناته وأخواته وزوجته، فشتان بين عالمنا وعالمهم.
هل تستفيق المسلمة؟
إنّه على المرأة المسلمة أن تعي جيدا أن تحطيم شقيقها الرجل يعني كسر الجناح الثاني للطائر، ولو كُسِرَ هذا الجناح فلن يطير وسيبقى حبيس الطين والاوحال، وعليها أن تعي أن شقاءها من شقائه، وسعادتها من سعادته، وأن تنتبه إلى أن عمل المرأة في الواقع شيء، وأن ما يروجه لها أدعياء تحرير المرأة شيء آخر تماما، ففي الكتابات والمحاضرات يصورونه بابَ الحريّة، بينما هو في الواقع مسلخ تذبح فيها أعصابها، وتُقبر بسببه ملايين فرص الزواج، وأنه لا صراع بين الرجل والمرأة في الإسلام، إنما هي دعوات تهدف في الأخير إلى تفكيك البناء الاجتماعي، وتيسير استرقاق المرأة، مقابل دراهم لا تساوي راحتها وأعصابها وسعادتها وسعادة بنات جنسها؛ ولتنتبه إلى أن أغلب من يقودون هذه الدعوات فاشلون في حياتهم الأسرية، بل إن الكثير منهم لم يفلح في إنشاء أسرة ولا يفهم معناها، ولتعي أن “المناضلات المزيفات” الداعيات لتحرر المرأة من مفاهيم الأسرة والتربية لا يقبلن أن يعملن سائقات أو ميكانيكيات أو منظفات، ويرفضن ذلك، لكنهن يقبلنه لغيرهن، فهل تعي المسلمة ذلك؟ وهل تعي أنها مصدر سعادة كل المجتمع برجاله ونسائه؟