مركز التأصيل للدراسات والبحوث
خَرَجَ التَّتر مِن عُزلَتهم كمجتمَعٍ بَدَويٍّ ليكونوا حُكَّامًا جُددا للعالم. وفي إطار تحولهم مِن فِئةٍ هامِشيةٍ محصُورةٍ في بُقعَةٍ مِن الأرض إلى شَعبٍ حَاكِمٍ شَهِدَ التَّترُ تحولا في المعتقدات والشرائع ونمط العيش والإدارة، وإن ظَلَّت الصفة البربرية المتوحشة هي السائدة على الشخصية والطبيعة التترية. وفي حين أنهم كانوا مُشركين وثنيين قُبيلَ تحركهم باتجاه الشَّرق، يَعبُدون الظَّواهِرَ الطَّبيعيةِ وبَعضَ الحيوانات، تحولوا مع دخولهم الصِّين للديانة البوذية، ثمَّ مع احتكاكهم بمجتمعات الشَّرق واختلاطهم بها سعى “جنكيز خان” لصياغة ديانة جديدة تجمع بين دين التتر القديم إضافة إلى بعض شرائع من الإسلام والنصرانية واليهودية، مازجا بينها وبين ما يراه في قالب جديد للدولة الوليدة والأمة المتشكلة حديثا.
وضع “جنكيز خان” الديانة الجديدة في دُستُورٍ عَامٍ أطلِقَ عليه اسم “الياسق”[1]، وحَمَلَ قَومَه للإيمان بها وتحكيمها في دولتهم. وقد كان غرض “جنكيز خان” بذلك إدخال أكبر قدر من الناس في الولاء للدولة الإمبراطورية الناشئة. فيكف رأى ابن تيمية حقيقة هذا التحول التتري؟!
بداية ينبغي أن نؤكد أن ابن تيمية –رحمه الله- ميَّز بين مفهومين للتتر: مفهومهم كقُوةٍ سياسِيةٍ حَاكِمةٍ، ومفهومهم كأفراد. وهذا ما جعل أقواله –في نظر البعض- غير واضحة وجلية في شَأنِ التتر. كما أنَّه -رحمه الله- ميَّز بين فترات تحولاتهم مُنذُ قُدومِهم للشَّرقِ الإسلامي.
لعبة السياسة القذرة:
لقد كان ابن تيمية يُجلِّي حَقِيقَةَ دَعوَى التتر في دُخُولهم للإسلام، في فترةِ ادَّعائهم ذلك بُعَيدَ دُخُولهم للمشرقِ غَازِين مُحتَلين. فإنهم بِدايةَ قِتالهم للمسلمين كانوا مُشركِين لا يُشكُّ بكُفرِهم، لكنهم مع دُخُولِ بلادِ المسلمين ومُكثِهم فيها أظهروا شيئا مِن الإسلام، وقَرَّبوا مَن وافَقَهم مِن طَوائِفِ الزَّنادِقةِ مِن فِرقِ الإسماعيلية والقرامطة وملاحدة الصوفية، واستعملوهم في سياسةِ الناس؛ غير أنَّه لم يتغير كثيرٌ مِن واقعهم.
يقول ابن تيمية عنهم: “وهم يقاتلون على ملك “جنكيز خان”، فمَن دَخَلَ في طَاعَتِهم جَعَلوه وليًّا لهم، وإن كان كَافِرًا، ومَن خَرَجَ عن ذلك جَعَلوه عدوًّا لهم، وإن كان مِن خِيارِ المسلمين، ولا يُقاتِلون على الإسلام”. ويرى أنَّ “غَايةُ كَثيرٍ مِن المسلمين مِنهم، مِن أكَابِرِ أُمرائهم ووُزرائهم، أن يَكونَ المسلِمَ عندهم كمَن يُعظِّمُونه مِن المشركين مِن اليهود والنصارى؛ كما قال أَكبَرُ مُقدِّميهم الذين قَدِمُوا إلى الشام، وهو يُخَاطِبُ رُسُلَ المسلمين ويَتَقرَّبَ إليهم: بأنَّا مُسلِمون! فقال: هذان آيتان عظيمتان جاءَا مِن عند الله: محمد وجنكيز خان!”.
وهذا غَايةُ ما يَتقرَّبُ به أَكبَرُ مُقدَّمِيهم إلى المسلمين، أن يُسويَّ بين رَسولِ اللهِ -أَكرَمِ الخَلقِ عليه وسَيِّدِ وَلَدِ آدَمَ وخَاتَمِ المرسَلين- وبين مَلِكٍ كَافِرٍ مُشرِكٍ -مِن أَعظَمِ المشركين كُفرًا وفَسادًا وعُدوانًا مِن جِنسِ “بُختَ نَصَّر” وأمثاله، -كما يقول ابن تيمية. وقد كان اعتقادُ التَّتر في “جنكيز خان” عظيما، فقد كانوا يرون أنَّه “ابن الله”، ويقولون: إنَّ الشَّمسَ حَبَّلَت أُمَّه![2] “وهم مع هذا يجعَلُونه أَعظَمَ رَسُولٍ عِندَ اللهِ في تعظِيمِ ما سَنَّه لهم، وشَرَعَه بظَنِّه،.. حتى يقولوا لما عندهم مِن المال هذا رزق جنكيز خان! ويشكُرُونَه على أَكلِهم وشُربِهم! وهم يَستَحِلُّون قَتلَ مَن عَادَى ما سَنَّه لهم هذا الكَافِرُ الملعُونُ المعَادي لله ولأَنبيائِه ورَسُوله وعِبادِه المؤمنين.”
لذا جعل ابن تيمية قِتالَ التَّتر -الذين يجعلون رَسولَ اللهِ كجنكيز خان- أولى مِن قِتالِ أتبَاعِ مُسيلِمَة الكذَّاب الذي ادعى أنه شريك محمد في الرسالة. ويقول: “وإلا فَهُم مع إظهَارِهم للإسلامِ يُعظِّمُون أَمرَ جنكيز خان على المسلمين المتَّبِعِين لشَريعَةِ القُرآنِ، ولا يُقَاتِلُون أَولئكَ المتَّبِعِين لما سَنَّه جنكيز خان كما يُقَاتِلون المسلمين”، ثمَّ يقول: “وهم يحارِبون المسلمين ويُعادُونهم أعظَمَ مُعَادَاةٍ، ويَطلُبون مِن المسلمين الطَّاعةَ لهم، وبَذلَ الأَموالِ، والدُّخُولَ فيما وَضَعَه لهم ذلك الملك الكَافِرُ المشرِكُ المشَابِه لفرعَونَ أو النُّمرودُ ونحوهما، بل هو أَعظَمُ فسَادًا في الأرض مِنهما”. ويصور جرائم جنكيز خان بقوله: “وهذا الكَافِرُ عَلا في الأَرضِ، يَستَضعِفُ أَهلَ الملَلِ كُلِّهم، مِن المسلمين واليَهودِ والنَّصارى، ومَن خَالَفَه مِن المشركين، بقَتلِ الرِّجال وسَبيِّ الحَريمِ، ويأَخُذَ الأَموالَ ويُهلِكَ الحرثَ والنَّسلَ، والله لا يُحبُّ الفَسَاد، ويَردُّ النَّاسَ عمَّا كانوا عليه مِن سِلكِ الأَنبيَاءِ والمرسلين إلى أَن يَدخُلُوا فيما ابتدعه مِن سُنَّتهِ الجَاهِليةِ وشَريعَتِهِ الكُفريَّةِ”.
إن حقيقتهم أنَّهم “يَدَّعُون دِين الإسلامِ، ويُعظِّمون دِينَ أولئك الكُفارِ على دينِ المسلمين، ويُطيعُونهم ويُوالُونهم أَعظَم بكثيرٍ مِن طَاعةِ اللهِ ورَسوله وموالاةِ المؤمنين، والحُكمُ فيما شَجَرَ بين أَكَابِرهم بحُكمِ الجاهلية، لا بحُكمِ اللهِ ورَسولِه”. وتتساوى الأَديَانُ في نَظرِ رِجالِ دَولَةِ التتر: “وكذلك الأكَابِرُ مِن وزَرائِهم -وغَيرِهم- يجعَلُون دِينَ الإسلامِ كدِينِ اليهودِ والنَّصارى، وأنَّ هذه كُلُّها طُرقٌ إلى الله، بمنَزلَةِ المذاهِبِ الأَربعَةِ عندَ المسلمين، ثمَّ مِنهم مَن يُرجِّحُ دِينَ اليَهودِ أو دِينَ النَّصارى، ومِنهم مَن يُرجِّحُ دِينَ المسلمين”[3].
إنَّ هذا الخلط المتعمد بين المعتقدات والأديان هو لحَقِيقَةٍ سيَاسِيَّةٍ واحِدةٍ، قِيامُ الدَّولة التترية الكبرى. لذلك تَعتَمِدُ سياستهم على تقسيم الناس إلى “صَدِيقِهم وعَدُّوهم، والعَالِم والعَامي”. فـ”مَن دَخَلَ في طَاعَتهم الجاهليةِ وسُنَّتِهم الكُفريَّةِ كان صَديقَهم، ومَن خَالَفهم كان عَدوَّهم، ولو كان مِن أَنبيَاءِ الله ورُسُله وأَوليَائِه. وكُلُّ مَن انتَسَب إلى عِلمٍ أو دِينٍ سموه (داشمند)، كالفقيه والزاهد والقسيس والراهب ودنَّان اليهود والمنَجِّم والسَّاحِر والطَبيبِ والكَاتِبِ والحَاسِبِ”. ويُدرِجُون في هذا مِن المشركِين وأَهلِ الكِتابِ وأَهلِ البِدعِ ما لا يعلَمُه إلا الله، و”يجعلون أهل العلم والإيمان نَوعًا واحِدًا”[4].
لذلك فإنَّ التتر استعانوا بالقرامِطةِ الملاحدةِ البَاطنيةِ الزَّنادِقةِ المنافقين، وبالرافضة، وجعلوهم ولاة لهم على جَميعِ مَن انتسَبَ إلى عِلمٍ أو دَينٍ، مِن المسلمين واليهود والنصارى. “حتى تولى قَضاءَ القُضاةِ مَن كان أَقرَبَ إلى الزَّندقَةِ والإلحادِ والكُفرِ بالله ورَسولِه، بحيث تكون مُوافَقَتُه للكُفَّارِ والمنافقين، مِن اليهود والقرامطة والملاحدة والرافضة، على ما يُريدُونَه أَعظمُ مِن غَيرِه؛ ويَتظَاهَرُ مِن شَريعةِ الإسلامِ بما لابُدَّ له مِنه، لأَجلِ مَن هناك مِن المسلمين، حتى إنَّ وزِيرَهم هذا الخبيث الملحِدِ المنَافِقِ صنَّفَ مُصنَّفًا مَضمُونَه أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- رضي بدِينِ اليَهودِ والنصارى، وأنَّه لا يُنكَرُ عليهم، ولا يُذَمُّون ولا يُنهَون عن دِينِهم، ولا يُؤمَرُون بالانتقال إلى الإسلام”[5].
القتال العصبوي الجاهلي:
يَذمُّ ابن تيميةَ عموم التتر لما فيهم، فيقول: “وبالجملة فمَا مِن نِفاقٍ وزَندقَةٍ وإلحادٍ إلَّا وهي دَاخِلَةٌ في أتباع التتر؛ لأنَّهم مِن أجهَلِ الخَلقِ، وأَقلِّهم مَعرِفةً بالدِّينِ، وأَبعدَهم عن اتِّباعِه، وأَعظَمِ الخَلقِ اتبَاعًا للظَّن وما تهوى الأَنفُس”[6]. فقد سَادَ في اعتقادهم جَوازُ أن يكون الشخص يهوديا أو نصرانيا أو مجوسيا أو مسلما أو مشركا، وعَدَمُ وجُوبِ الإسلامِ وحُرمَةِ الشَّركِ؛ ذلك أنَّهم “أَوَّلَ ما أَسلمُوا كان الإسلامُ عِندَهم خَيرٌ مِن غَيرِه، وإن كان غَيرُه جائِزًا، لا يُوالون عليه ويُعادُون عليه”…، “فيَجوزُ للرَّجُل.. أن ينتَقِلَ مِن هذه الملَّةِ إلى تلك إمَّا لرُجحَانِها عنده في الدِّين، وإمَّا لمصلَحَةِ دُنيَاهُ”[7].
والثابت في التتر ولاؤُهم لسُلطَتهم الحَاكِمةِ ولاءً مُطلقًا: “ومَن حَالَفَ شَخصًا على أَن يُوالي مَن والاه ويُعادِي مَن عادَاه كان مِن جِنسِ التَّتر المجاهدين في سبيلِ الشِّيطانِ، ومِثلُ هذا ليس مِن المجاهدين في سبيل الله تعالى، ولا مِن جُندِ المسلمين”[8]. فهم حتى بعد إظهار إسلامهم “لا يُقاتِلون النَّاسَ [يَقصِدُ الكُفَّارَ الأَصليين] على الإسلام، ولهذا وَجَبَ قِتالُ التَّتر حتَّى يَلتَزِموا شَرائِعَ الإسلامِ”[9].
وهذا القتال الجاهلي -الذي دَافِعُه غَيرُ شَرعِيٍّ- هو أَحَدُ الأسباب الموجِبةِ لقِتالِهم عند ابن تيمية: “فإذا كان المجاهِدُ الذي يُقاتِلُ حَميَّةً للمسلمين، أو يُقاتِلُ رِيَاءً للناسِ ليَمدَحُوه، أو يُقاتِلُ لما فيه مِن الشَّجاعَةِ، لا يكون قِتَالُه في سَبيلِ اللهِ -عزَّ وجَلَّ- حتى يُقاتِلَ لتَكُون كَلِمَةُ اللهِ هي العُليا. فكيف مَن يَكونُ أَفضَلَ تَعلُّمِه صِنَاعَةَ القِتالِ مَبنِيًّا على أَسَاسٍ فَاسِدٍ، ليُعَاونَ شَخصًا مَخلُوقًا على شَخصٍ مَخلُوقٍ؟! فمَن فَعَلَ ذلك كان مِن أَهلِ الجَاهِليةِ الجَهلاءِ والتَّترِ الخَارجين عن شَريعَةِ الإسلامِ. ومِثلُ هَؤلاءِ يستحقون العُقوبَةَ البَليغَةَ الشَّرعيَّةَ التي تَزجُرُهم وأَمثالَهم عن مِثلِ هذا التَّفرُّقِ والاختلافِ؛ حتى يكون الدِّينُ كُلُّه للهِ، والطَّاعَةُ للهِ ورَسُولِه، ويكونون قَائمين بالقِسطِ، يُوالون لله ورسوله، ويحبون لله ويبغضون لله”[10].
“إنَّ هؤلاءِ التَّتر لا يُقاتلون على دِينِ الإسلامِ، بل يُقاتِلون النَّاسَ حتى يَدخُلوا في طَاعَتِهم، فمَن دَخلَ في طَاعَتهم كَفوا عنه، وإن كان مُشرِكًا أو نَصرَانيًّا أو يَهودِيًّا، ومَن لم يَدخُل كان عَدوًّا لهم، وإن كان مِن الأَنبياءِ والصَّالحين”[11]. و”أَقلُّ ما يَجِبُ عليهم أن يُقاتِلوا مَن يَليهم مِن الكُفَّارِ، وأن يَكُفُّوا عن قِتالِ مَن يَليهم مِن المسلمين، ويتعاونون هم وهم على قِتالِ الكُفَّار. وأيضًا لا يُقاتِلُ معهم غَيرُ مُكرَهٍ إلا فَاسِقٌ أو مُبتَدِعٌ أو زِندِيقٌ، كالملاحِدةِ القَرامِطةِ البَاطِنيةِ، وكالرَّافِضةِ السَّبابَةِ، وكالجَهمِيَّةِ المعَطِّلَةِ مِن النُّفاةِ الحُلولِيةِ. ومعهم ممَّن يُقلِّدونه مِن المنتَسِبين إلى العِلمِ والدِّينِ مَن هو شَرٌّ منهم؛ فإنَّ التَّترَ جُهَّالٌ، يُقلِّدون الذين يُحسِنُون به الظَّنَ، وهم لضَلالهم وغَيِّهم يَتَّبِعُونه في الضَّلالِ الذي يَكذِبُون به على اللهِ ورَسُولهِ، ويُبدِّلون دِينَ اللهِ، ولا يُحرِّمون ما حَرَّمَ اللهُ ورَسُولُه، ولا يَدِينون دِينَ الحَقِّ”..، “وبالجُملَةِ فمَذهُبُهم ودِينُ الإسلامِ لا يجتَمِعان، ولو أَظهَروا دِينَ الإسلامِ الحنيفِي الذي بَعثَ رَسُولَه به لاهتَدَوا وأَطَاعُوا”[12].
موجبات قتال التتر:
جَمَعَ التَّترُ بين الخبَائِثِ جميعا، وضَمُّوا إلى كُفرِهم أنواعًا مِن الإلحَادِ والزَّندَقةِ، وحَمَلوا السَّيفَ لمدِّ سُلطَانِهم وأَوقَعُوه في رِقابِ الخلائق، ونهبُوا واغتَصبُوا وآذَوا النَّاسَ. لذا كان يرى ابن تيميةَ وجُوبَ قِتالِهم لأَسبَابٍ عِدَّة. فهو يقول: “وَيجُوزُ بل يجِبُ قِتالُ هَؤُلَاءِ التَّتر الَّذين يَقدُمُونَ إِلى الشَّامِ مَرَّةً بعد مَرَّةٍ، وإِن تَكلَّمُوا بِالشَّهَادَتَين وانتَسَبُوا إِلى الإِسلَامِ. وَجَبَ قِتَالهم بِسُنَّةِ رَسُولِ الله –صلى الله عليه وسلم، واتِّفَاقِ أَئِمَّةِ المسلمين. وهذا مَبنيٌّ على أَصلَين: أَحَدُهما المعرِفَةُ بحَالهم، والثَّانِي مَعرِفَةُ حُكمِ اللهِ فيهم وفي أَمثَالِهم.
أمَّا الأَوَّلُ فَكُلُّ مَن بَاشَرَ القَومَ يَعلَمُ حَالَهم، وهو مُتواتِرٌ بأَخبَارِ الصَّادِقين. ونحن نتَكلَّمُ على جُملَةِ أُمُورِهم بعد أَن تَبيَّنَ الأَصلُ الآخرُ الَّذِي يختَصُ بمَعرِفَته أَهلُ العِلمِ؛ فنَقُولُ: كُلُّ طَائِفَةٍ خَرجَت عن شَرائِعِ الإِسلَامِ الظَّاهِرَةِ المتُواتِرةِ، مِثلِ أَن تَركُوا الصَّلَاةَ أَو مَنعُوا الزَّكَاةَ، أَو أَعلَنُوا بالبِدَعِ المنَاقِضَةِ للإسلَامِ في العَقَائِدِ أو العِبَادَاتِ، أو تَحَاكمُوا إِلى الطَّاغُوتِ ونحو ذلك، فالوَاجِبُ على المسلمين قِتَالُهم، بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ المسلمين، وإِن تَكلَّمُوا بِالشَّهَادَتَينِ. فيَجِبُ قِتَالَهم على نحو ما فَعَلَ أبو بكرٍ والصَّحَابَةِ بأَهلِ الرِّدَّةِ وبالخَوارِجِ، حَتَّى يكون الدِّينُ كُلُّه لله”.
ثمَّ ذَهبَ ابن تيمية يتَحدَّثُ في الأَصلِ الثَّاني، الذي هو الحديث عن حالهم، فقال: “وأمَّا الأَصلُ الآخَرُ، وهو مَعرِفَةُ أَحوَالِهم، فقد عُلِمَ أَنَّ هؤُلاءِ القَومِ جَارُوا على الشَّامِ في المرَّةِ الأُولى، عامَ تِسعَةٍ وتِسعينَ وسُتمِائَةٍ، وأَعطُوا النَّاسَ الأمَانَ وقَرأُوه على المنبَرِ بِدِمَشق، ومع هذا فقد سَبَوا مِن ذَرَارِي المسلمين ما يُقَالُ إِنَّه مَائَةُ أَلفٍ أَو يَزِيدُ عليهِ، وفعلوا بِبَيتِ المقدِسِ وجَبلِ الصَّالحيَّةِ ونَابُلسَ وحِمصَ ودَاريَّا -وغير ذلك- مِن القَتلِ والسَّبيِّ ما لا يَعلَمُهُ إِلَّا الله، وفَجَرُوا بخَيرِ نِسَاءِ المسلمين في المسَاجِدِ، كالمسجِدِ الأَقصَى والأَمويِّ وغَيرِها، وجَعَلُوا الجَامِعَ الذي بالعَقَبَةِ دكًّا”؛ فأوَّلُ مُوجِبٍ لقِتالِهم –عند ابن تيمية- هو الإفسَادُ الكبيرُ الذي فَعَلُوه.
ثم يقول: “وقد شَاهَدنا عَسكَرَ القَومِ فوَجَدنا جُمهُورَهم لا يُصلُّون، ولم نَرَ في عَسكَرِهم مُؤَذِّنًا، ولا إِمَامًا، ولم يَكُن معهم إِلَّا مَن كان مِن شَرِّ الخَلقِ، إِمَّا زِندِيقٌ مُنَافِقٌ لا يَعتَقِدُ دِينَ الإِسلَامِ في البَاطِنِ، وإِمَّا مَن هو شَرُّ أَهلِ البِدَعِ -كالرَّافِضةِ والجَهميَّةِ والاتِّحَاديَّةِ ونحوهم، وإِمَّا مِن أَفجَرِ النَّاسِ وأَفسَقِهم، وهم لا يحجُّون البَيتَ العَتِيقَ مع تَمكُّنِهم، وإِن كان فيهم مِن يُصَلِّي ويَصُومُ فلَيسَ الغَالِبُ عليهم إِقَامَةُ الصَّلَاةِ ولا إيتَاءُ الزَّكَاةِ، وإِن فَعلُوا فهو للتُّقيَةِ”. فهو هنا يَذكُرُ أنَّ مُعَسكَرَ التَّترِ لا تَظهَرُ فيه شَعَائِرُ الإسلامِ، بل يُوجَدُ فيه الزَّنادِقةِ وأَهلُ البِدعِ الضَّالةِ والفُجَّارُ وقُطَّاعُ الصَّلاةِ وتارِكي الَّزكَاةِ والحَجِّ.. وهذا الغَالِبُ فيهم، وإن وُجِدَ خِلافُ ذلك فهو النَادِرُ.
ويحدد غاية قتالهم في قضيتين:
بسط سلطانهم ونفوذهم: “وهم يُقَاتِلُون على مُلكِ جنكيز خان، فمَن دَخَلَ في طَاعَتِهم وطَاعَةِ شَرِيعَةِ جنكيز خان الكُفريَّةِ، التي يُسمُّونَها اليَاسِقَةِ –السِّياسَةَ- جَعَلُوهُ وَلِيًّا لهم، وإِن كان كَافِرًا، ومَن خَرَجَ عن ذلك جَعَلُوهُ عَدوًّا لهم، وإِن كان مِن خِيَارِ المسلمين؛ وَلَا يُقَاتلُون على الإِسلَامِ”.
ونَشرِ شَريعَةِ جنكيز خان وتعظيمه: “فهو عندهم أَعظَمُ مِن رَسُولِ الله –صلى الله عليه وسلم، ويَعظِّمُون ما سَنَّهُ لهم وشَرَعَه بظُلمِهِ وهَوَاه، ويُشرِكُون بِهِ بذِكرِ اسمِهِ على أَكلِهم وشُربِهم وحُكمِهم، ويَستَحِلَّون قَتلَ مَن تَرَكَ سُنَّةَ هذا الْكَافِرُ الملعُونُ”. وجنكيز خان في نظر ابن تيمية أكفر من مسيلمة الكذاب، وأَعظَمُ مِن فِرعَون وهَامان “ضَرَرا، فَإِنَّهُ عَلَا في الأَرضِ، وجَعَلَ أَهلَها شِيَعًا، وأَهلَكَ الحَرثَ والنَّسلَ؛ فرَدَّ النَّاسَ عن مُلكِ الأَنبِيَاءِ إِلى مَا ابتَدَعَه مِن جَاهِليتَه وسِيَاسَتِه الكُفريَّةِ المفسِدَةِ”؛.. و”مَعلومٌ مِن دِينِ الإِسلَامِ أَنَّ مَن جَوَّزَ اتِّبَاعَ شَرِيعَةٍ غَيرِ الإِسلَامِ فإِنَّهُ كَافِر”[13].
وابن تيمية يتحدث عمَّا رَآهُ وسَمِعَه، ويفتي بمُوجِبِ ما جَمَعَه التَّترُ في مُعسكَرِهم مِن نِفَاقٍ وزَندَقَةٍ وإلحَادٍ وفُسُوقٍ وعِصيانٍ، وجُرأَةٍ على انتِهَاِك الحُرُماتِ واعتِدَاءٍ على الحُدُودِ، ويُؤكِدُ أنَّ شَرحَ حَالهم يَطُولُ.
وفي مَسأَلةِ قِتالِ التَّترِ ودَفعِهم لا يُفرِّقُ ابن تيمية بينهم، وبين كُلِّ مَن انتَسَب إليهم، ممن يُعِينُهم في قِتالِهم ويُواليهم ويُنَاصِرُهم في بَاطِلِهم. فـ”مَن فَرَّ إِليهم مِن أُمَرَاءِ العَسكَرِ فحُكمُه حُكمُهم، فِيهِ مِن الرِّدَّةِ بقَدرِ مَا تَرَكَه مِن شَرائِعِ الإِسلَامِ؛ فعَلَينا أَن نُقَاتِلَهم ولو كان فيهم مَن هو مُكرَهٌ لا نَلتَفِتُ إِلَيهِ، لِأَنَّ اللهَ تعالى يَخسِفُ بالجيشِ الذي يَغزُو الكَعبَةَ مع عِلمِه -سُبحَانَه وتَعَالَى- بأنَّ فيهم مَن هو مُكرَهٌ، ثمَّ يَبعَثهُم على نِيَّاتِهم”[14].
فكان –رحمه الله- إذا سُئِلَ عن قِتَالهم أَفتَى بذلك، رغمَ التَّبايُنِ الحَاصِلِ في مُعسكَرهم، لا على سَبيلِ تَكفِيرهم جميعا، بل على سَبيلِ دَفعِ كُفرِهم وظُلمِهم وإن وُجِدَ فيهم مُسلِمون يُقَاتِلون معهم: “هؤلاءِ القَومِ المسئُولِ عنهم عَسكَرُهم مُشتَمِلٌ على قَومٍ كُفَّارٍ مِن النَّصارى والمشركين [أي كُفَّارٌ أصليون]، وعلى قَومٍ مُنتَسِبين إلى الإسلامِ وهم جُمهُورُ العَسكرِ، يَنطِقُون بالشَّهادتين إذا طَلَبت مِنهم، ويُعظِّمون الرَّسولَ، وليس فيهم مَن يُصلِّي إلا قَليلا جِدًا، وصُومُ رمَضَان أَكثَرُ فيهم مِن الصَّلاةِ، والمسلِمُ عندهم أَعظَمُ مِن غَيرِه، وللصَّالحين مِن المسلمين عِندَهم قَدرٌ، وعِندَهم مِن الإسلامِ بَعضُه وهم مُتفَاوتُون فيه؛ لكن الذي عليه عَامَتُهم، والذي يُقاتِلُون عليه، مُتضمِّنٌ لتَركِ كَثيرٍ مِن شَرائِعِ الإسلامِ أو أَكثَرِها؛ فإنَّهم أَولًا يُوجِبُون الإسلامَ ولا يُقاتِلون مَن تَركَه، بل مَن قَاتَلَ على دَولَةِ المغُولِ عَظَّمُوه وتَركُوه، وإن كان كافِرًا عَدُوًّا للهِ ورَسُولِه، وكُلُّ مَن خَرَجَ عن دَولَةِ المغولِ -أو عليها- استَحلُّوا قِتَالَه، وإن كان مِن خِيارِ المسلمين، فلا يُجاهِدون الكُفَّارَ، ولا يُلزِمُون أَهلَ الكِتَابِ بالجِزيَةِ والصَّغَارِ، ولا يَنهَون أَحَدًا مِن عَسكَرِهم أَن يَعبُدَ ما شَاءَ، مِن شَمسٍ أو قَمَرٍ أو غِيرِ ذلك؛ بل الظَّاهِرُ مِن سِيرتِهم أنَّ المسلِمَ عندهم بمنزِلةِ العَدلِ أو الرَّجُلِ الصَّالحِ أو المتَطَوعِ في المسلمين، والكَافِرُ عندهم بمنزِلةِ الفَاسِقِ في المسلمين أو بمنزِلةِ تَارِكِ التَّطُوعِ. وكذلك أيضا عَامَّتُهم لا يُحرِّمُون دِماءِ المسلمين وأَموَالَهم إلَّا أن يَنهَاهم عنها سُلطَانُهم، أي لا يَلتَزِمون تَركَها، وإذا نَهَاهم عنها أو عن غيرها أَطَاعُوه لكَونِه سُلطَانًا لا بمُجَرَّدِ الدِّين. وعَامَّتُهم لا يَلتَزِمون أَدَاءَ الواجبات، لا مِن الصَّلاةِ ولا مِن الزَّكَاةِ ولا مِن الحَجِّ ولا غير ذلك، ولا يَلتَزِمون الحُكمَ بينهم بحُكمِ الله، بل يَحكُمُون بأَوضَاعٍ لهم تُوافِقُ الإسلامَ تَارَةً وتُخَالِفُه أُخرى. وإنَّما كان الملتَزِمُ لشَرائِعِ الإسلامِ الشيزبرون، وهو الذي أَظهَرَ مِن شَرائِعِ الإسلامِ ما استفاض عند النَّاسِ. وأمَّا هؤلاءِ فدَخَلوا فيه وما التزمُوا شَرائِعَه. وقِتالُ هذا الضَّربِ وَاجِبٌ بإجمَاعِ المسلمين. وما يَشُكُّ في ذلك مَن عَرَفَ دِينَ الإسلامِ، وعَرَفَ حَقِيقَةَ أَمرِهم؛ فإنَّ هذا السِّلمَ الذي هم عليه ودِينَ الإسلامِ لا يَجتَمِعَانِ أَبدًا”[15].
وابن تيمية في دعوته لقتالهم ينحو منحى معتدلا وحقًّا، فهو يوجب ابتداء دعوتهم وإقامة الحجة عليهم: “نعم يَجِبُ أن يُسلَكَ في قِتالِهم المسلَكُ الشَّرعيُّ، مِن دُعائِهم إلى التِزَامِ شَرائِعِ الإسلامِ، إن لم تَكُن الدَّعوَةُ إلى الشَّرائِعِ قد بَلَغَتهم، كما كان الكَافِرُ الحَربيُّ يُدعَى أَولًا إلى الشَّهادتين إن لم تَكُن الدَّعوَةُ قد بَلَغَته”[16].
لذلك اتَّصَلَ ابن تيميةَ بهم، وتَعمَّدَ مخَاطبَتهم، فهو يقول: “ولمـَّا قَدِمَ مَقدِمُ المغول -غازان وأَتبَاعَه- إلى دِمشقٍ، وكان قد انتَسَبَ إلى الإسلامِ، لكن لم يَرضَ اللهُ ورَسُولُه والمؤمنون بما فَعلُوه، حيث لم يَلتَزِموا دِينَ اللهِ، وقد اجتمَعتُ به وبأُمرَائِه، وجَرَى لي معهم فُصُولٌ يَطُولُ شَرحُها”. بل طَلَبَ منهم تَحرِيرَ الأَسرَى المسلمين وأَهلِ الذِّمَةِ عندهم بكُلِّ حكمة: “وقد عَرفَ النَّصارى كُلُّهم أنَّي لما خَاطَبتُ التتر في إطلاقِ الأَسرَى، وأَطلَقَهم غازانُ وقطلو شاه، وخاطبتُ مُولاي[17] فيهم فسَمَحَ بإطلاقِ المسلمين وقال لي: لكن معنا نصَارَى أخَذنَاهم مِن القُدسِ فهَؤلاءِ لا يُطلَقُون. فقلت له: بل جميعُ مَن معك مِن اليَهودِ والنَّصارَى الذين هم أَهلُ ذِمَّتِنا؛ فإنَّا نَفكُّهم ولا نَدعُ أَسيرًا لا مِن أَهلِ الملَّةِ ولا مِن أَهلِ الذِّمَةِ. وأَطلَقنا مِن النَّصارَى مَن شَاءَ الله”. ويضيف: “ومع خُضُوعِ التَّترِ لهذه الملَةِ، وانتِسَابِهم إلى هذه الملَةِ، لم نُخَادِعُهم ولم نُنَافِقُهم، بل بيَّنَا لهم ما هُم عليه مِن الفَسَادِ والخُروجِ عن الإسلامِ الموجِبِ لجهَادِهم”[18].
وهو مع ذلك يَعذُر أفرَادَهم على ما يَقَعُون فيه جهلا، يقول: “كذلك مَن دَعَا غَيرَ اللهِ وحَجَّ إلى غيرِ اللهِ هو.. مُشرِكٌ والذي فَعَلَه كُفرٌ، لكن قد يكون غَير عَالِمٍ بأنَّ هذا شِركٌ مُحرَّمٌ، كما أنَّ كثيرًا مِن النَّاس دَخلُوا في الإسلام -مِن التَّترِ وغَيرِهم- وعندهم أصنَامٌ لهم صِغَارٌ مِن لُبَدٍ وغَيرِه، وهم يَتَقرَّبون إليها ويُعظِّمُونها، ولا يَعلمُون أنَّ ذلك مُحرَّمٌ في دِينِ الإسلامِ، ويَتَقرَّبون إلى النَّار أيضًا، ولا يَعلَمُون أنَّ ذلك مُحرَّمٌ؛ فكَثِيرٌ مِن أنواعِ الشِّركِ قد يخفَى على بَعضِ مَن دَخَلَ في الإسلام، ولا يَعلَمُ أنَّه شِركٌ، فهَذا ضَالٌّ وعَمَلُه الذي أَشَركَ فيه بَاطِلٌ، لكن لا يَستَحِقُّ العُقُوبَةَ حتى تَقُومُ عليه الحُجَّةُ. قال تعالى: ((فَلا تَجعَلُوا لِلَّهِ أَنداداً وأَنتُم تَعلَمُونَ))”[19]. ويقول في مقام آخر: “فإنَّ التَّتر فيهم المكرَهُ وغَيرُ المكرَهِ”[20].
وقد أَوجَدَت شُبهَةُ إسلامِ بَعضِ التَّترِ، وإظهَارُ بَعضِ قَادَتِهم شِعَاراتٍ إسلاميَّةٍ، في نُفوسِ المسلمين تَراخِيًّا عن قِتَالهم، يقول ابن تيمية: “وفي هذه المدَّةِ لمـَّا شَاعَ عند العَامَّةِ أنَّ التَّتر مُسلِمون أَمسَكَ العَسكَرُ عن قِتَالهم”[21]. غير أنَّ ابن تيمية فنَّدَ هذه الشُّبهَةَ وحَشدَ جُموعَ المسلمين مِن وُلاةٍ وعَامَّةٍ لمقَاتَلَتِهم، يقول: “فمَن كان مِن الشَّاكرين الثَّابتين على الدِّينِ الذين يُحبُّهم اللهُ -عزَّ وجَلَّ- ورَسُولُه، فإنَّه يُجاهِدُ المنقَلِبين على أَعقَابِهم الذين يَخرُجُون عن الدِّين، ويَأخُذُون بَعضَه ويَدَعُون بَعضَه، كحَالِ هؤلاءِ القَومِ المجرِمين المفسِدين الذين خَرَجُوا على أَهلِ الإسلامِ، وتَكلَّمَ بَعضُهم بالشَّهادَتين وتَسَمَّى بالإسلامِ مِن غَيرِ التزَامِ شَريعَتِه، فإنَّ عَسكَرَهم مُشتَمِلٌ على أَربَع طَوائِف:
كَافِرةٌ بَاقيةٌ على كُفرِها، مِن الكَرجِ والأَرمَن والمغول.
وطائِفةٌ كانت مُسلِمَةً فارتَدَّت عن الإسلامِ، وانقَلَبَت على عَقِبَيها، مِن العَربِ والفُرسِ والرُّومِ وغَيرِهم. وهؤلاءِ أَعظَمُ جُرمًا عِندَ اللهِ وعِندَ رَسُولِه والمؤمنين مِن الكَافِرِ الأَصلِي مِن وُجُوه كثيرَةٍ. فإنَّ هؤلاءِ يَجِبُ قَتلُهم حَتمًا، ما لم يَرجِعُوا إلى ما خَرجُوا عنه؛ لا يَجُوزُ أَن يُعقَدَ لهم ذِمَّةٌ ولا هُدنَةٌ ولا أَمَانٌ، ولا يُطلَقُ أَسيرُهم ولا يُفَادَى بمَالٍ ولا رِجَالٍ، ولا تُؤكَلُ ذبَائِحُهم، ولا تُنكَحُ نِسَاؤُهم، ولا يُستَرقُّون مع بَقَائِهم على الرِّدةِ، بالاتِّفاقِ، ويُقتَلُ مَن قَاتَل مِنهم ومَن لم يُقَاتِل، كالشَّيخِ الهَرمِ والأَعمَى والزمن باتفاق العلماء؛ وكذا نِسَاؤُهم عند الجمهور”،… “فالكافر المرتدُّ أسوَأَ حَالًا في الدِّين والدُّنيا مِن الكَافِر المستَمِرِّ على كُفرِه. وهؤلاء القَومُ فيهم مِن المرتدَّةِ ما لا يُحصَي عدَدُهم إلا الله”.
“وفيهم أيضًا مَن كان كَافِرًا فانتَسَبَ إلى الإسلامِ، ولم يَلتَزِم شَرَائِعَه، مِن إِقَامَةِ الصَّلاةِ وإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وحَجِّ البَيتِ والكَفِّ عن دِمَاءِ المسلمين وأَموالِهم والتِزامِ الجهادِ في سَبيلِ اللهِ وضَربِ الجزيَةِ على اليَهودِ والنَّصارَى وغير ذلك. وهَؤلاءِ يَجِبُ قِتَالُهم بإجمَاعِ المسلمين، كما قَاتَلَ الصِّديقُ مانِعِي الزَّكَاة؛ بل هَؤلاءِ شَرٌّ مِنهم مِن وُجوه؛ وكما قَاتَلَ الصَّحابَةُ أيضا مع أَميرِ المؤمِنين علي -رضي الله عنه- الخوارِجَ، بأَمرِ رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم”…، “فإنَّ هَؤلاءِ شَرٌّ مِن أولئك مِن غَيرِ وَجهٍ، وإن لم يكونوا مِثلَهم في الاعتقَادِ، فإنَّ معهم مَن يُوافِقُ رَأيَه في المسلمين رَأيَ الخوارِجِ”.
“وفيهم صِنفٌ رَابعٌ شَرٌّ مِن هَؤلاءِ؛ وهم قَومٌ ارتَدُّوا عن شَرائِعِ الإسلامِ، وبَقَوا مُستَمسِكِين بالانتِسَابِ إليه. فهَؤلاءِ الكُفَّارُ المرتَدُّون والدَّاخِلون فيه مِن غَيرِ التِزامٍ لشَرائِعهِ؛ والمرتَدُّون عن شَرائِعِه -لا عن سَمتِه- كُلُّهم يَجِبُ قِتالُهم بإجمَاعِ المسلمين، حتَّى يَلتَزِموا شَرائِعَ الإسلام، وحتَّى لا تكون فِتنَةٌ ويكون الدِّينُ كُلُّه لله، وحتَّى تكون كَلِمَةُ اللهِ -التي هي كِتَابَه وما فيه مِن أَمرِهِ ونَهيِهِ وخَبرِهِ- هي العُليا”.
ثم يؤكد ابن تيمية على مفهوم العدوان الواقع من هذه الأصناف: “هذا إذا كانوا قَاطِنين في أَرضِهم، فكيف إذا استَولَوا على أراضي الإسلام.. مِن العِراقِ وخُراسَانَ والجزيرَةِ والرُّومِ؟! فكيف إذا قَصَدُوكم وصَالُوا عليكم بغيا وعدوانا؟! ((أَلَا تُقَاتِلُون قَومًا نَكَثُوا أَيمَانَهم وهَمُّوا بإِخرَاجِ الرَّسُولِ وهم بَدَءُوكم أَوَّلَ مَرَّةٍ أتَخشَونَهم فاللهُ أحَقُّ أن تَخشَوه إن كُنتُم مُؤمِنين))، ((قَاتِلُوهم يُعذِّبهم اللهُ بأَيدِيكم ويُخزِهم ويَنصُركم عليهم ويَشفِ صُدُورَ قَومٍ مُؤمِنين * ويُذِهب غَيظَ قُلُوبِهم ويَتُوبُ اللهُ على مَن يَشاءُ واللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ))”[22].
وهكذا نجد أنَّ شيخ الإسلام ابن تيمية كان مستوعبا للظاهرة التترية التي اكتسحت العالم الإسلامي وتشكلت في مرحلتين حتى زمانه: مَرحَلَةِ الكَفَرَةِ المشرِكِين الغُزَاة، ومَرحَلَةِ مُدَّعِي الإسلامِ الذين اختَلَطَت تحت رَايَتِهم صُورُ كُفرٍ ورِدَّةٍ عِدَّةٍ، وظلوا على عُدوَانِهم وعَدَاوَتهم للمسلمين؛ ولم يَألُ جُهدًا في تحلِيلِ مكوِّنَاتها الدَّاخِليةِ، وكَشفِ حَقِيقَةِ ظَواهِرِ التَّحولِ المزعوم. لذلك فقد حثَّ وشَارَك رحمه الله في قِتالهم دون تردد، حتى ألحقت بهم الهزائم المتتالية.
————————————–
[1] ويُطلَقُ عليه “الياسة” أو “الياسا” أو “الياسك”.
[2] قال ابن تيمية معلقا: ” ومعلوم عند كل ذي دِينٍ أنَّ هذا كَذِبٌ؛ وهذا دلِيلٌ على أنَّه وَلَدُ زِنًا وأنَّ أُمَّه زَنَت فكَتَمَت زِنَاها وادَّعَت هذا حتى تَدفَعَ عنها مَعرَّةَ الزِّنا”، وتحدث ابن تيمية عن مظاهر الفحش في نساء التتر، في الفتاوى الكبرى: ج1/273؛ وفي مجموع الفتاوى: ج15/121.
[3] انظر في النقولات السابقة: الفتاوى الكبرى: ج3/542- 543.
[4] انظر: الفتاوى الكبرى: ج3/544- 545.
[5] المرجع السابق.
[6] المرجع السابق.
[7] انظر: الرد على المنطقيين: ج1/282- 283؛ بتصرف.
[8] مجموع الفتاوى: ج28/20.
[9] الفتاوى الكبرى: ج5/542- 543.
[10] مجموع الفتاوى: ج28/21.
[11] مجموع الفتاوى: ج28/556.
[12] مجموع الفتاوى: ج28/551- 552.
[13] انظر في النقولات السابقة: مختصر الفتاوى المصرية: ج1/505- 508.
[14] مختصر الفتاوى المصرية: ج1/505- 508.
[15] انظر في النقولات السابقة: مجموع الفتاوى: ج28/505- 506.
[16] مجموع الفتاوى: ج28/505- 506.
[17] اسم أحد قادة المغول الذين قدموا إلى الشام.
[18] انظر في النقولات السابقة: مجموع الفتاوى: ج28/617- 619.
[19] الإخنائية: ص70.
[20] الفتاوى الكبرى: ج3/550.
[21] مجموع الفتاوى: ج28/617- 619.
[22] انظر في النقولات السابقة: مجموع الفتاوى: ج28/413- 416.