عوامل سقوط الأرض المقدَّسة في أيدي الاحتلال: رؤية معاصرة 1 من 7
إعداد د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن
بسم الله الرَّحمن الَّرحيم
“أَوَ كُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ(100) وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102)” (سورة البقرة: آيات 100-102).
“وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ” (سورة البقرة: الآية 217).
“فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ نُوحٌ مِنْ خَمْرِهِ، عَلِمَ مَا فَعَلَ بِهِ ابْنُهُ الصَّغِيرُ. فَقَالَ: «مَلْعُونٌ كَنْعَانُ! عَبْدَ الْعَبِيدِ يَكُونُ لإِخْوَتِهِ». وَقَالَ: «مُبَارَكٌ الرَّبُّ إِلهُ سَامٍ. وَلْيَكُنْ كَنْعَانُ عَبْدًا لَهُمْ. لِيَفْتَحِ اللهُ لِيَافَثَ فَيَسْكُنَ فِي مَسَاكِنِ سَامٍ، وَلْيَكُنْ كَنْعَانُ عَبْدًا لَهُمْ»” (سفر التَّكوين: إصحاح 9، آيات 24-27).
“كَلِّمْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَقُلْ لَهُمْ: إِنَّكُمْ عَابِرُونَ الأُرْدُنَّ إِلَى أَرْضِ كَنْعَانَ. فَتَطْرُدُونَ كُلَّ سُكَّانِ الأَرْضِ مِنْ أَمَامِكُمْ، وَتَمْحُونَ جَمِيعَ تَصَاوِيرِهِمْ، وَتُبِيدُونَ كُلَّ أَصْنَامِهِمِ الْمَسْبُوكَةِ وَتُخْرِبُونَ جَمِيعَ مُرْتَفَعَاتِهِمْ. تَمْلِكُونَ الأَرْضَ وَتَسْكُنُونَ فِيهَا لأَنِّي قَدْ أَعْطَيْتُكُمُ الأَرْضَ لِكَيْ تَمْلِكُوهَا” (سفر العدد: إصحاح 33، آيات 51-53).
“وَفَعَلَ بَنُو إِسْرَائِيلَ الشَّرَّ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ وَعَبَدُوا الْبَعْلِيمَ…تَرَكُوا الرَّبَّ وَعَبَدُوا الْبَعْلَ وَعَشْتَارُوثَ” (سفر القضاة: إصحاح 2، آيات 11-13).
مقدّمة
تزامنًا مع حلول الذّكري الـ 73 لتأسيس دولة الاحتلال الإسرائيلي في الأرض المقدَّسة، في قلب أرض الشَّام، وتحديدًا في 15 مايو/أيار، بدأت جولة جديدة من الصّراع المسلَّح بين المقاومين الشُّرفاء وقوَّات الاحتلال، كانت شرارتها الاقتحامات اليهوديَّة الوقحة للمسجد الأقصى المبارك في شهر رمضان 1442هـ، دون أدنى مراعاة لقدسيَّة الزَّمان والمكان. ومع تجدُّد الاشتباك بين طرفي النّزاع، تعود إلى الأذهان أحداث الاستعمار اليهودي للأرض المقدَّسة، وتفاصيل انفراط العقد وخروج الأمور عن سيطرة سُكَّان الأرض الأصليين؛ ويأتي على رأس ذلك تخاذُل الأنظمة العربيَّة الحاكمة عن نُصرة مسلمي الأرض المقدَّسة، واستناد اليهود إلى المعتقدات الدّينيَّة الكتابيَّة في ادّعائهم أحقيَّتهم في الأرض، بينما رفع مناصرو القضيَّة من العرب شعارات قوميَّة عروبيَّة.
يخبرنا بيان الحقّ سبحانه وتعالى بشأن بني إسرائيل أنَّهم قتلة الأنبياء، وناقضو المواثيق، وآكلون للرّبا ولأموال النَّاس بالباطل، ومبدّلون لكلام الله سعيًا وراء المنافع الدُّنيويَّة الزَّائلة، وإن لم يكن تهافتهم على متاع الدُّنيا مثير للدَّهشة وقد افتروا على الله أنَّهم حرمهم الخلود ليستأثر به لنفسه، بعد أن منع الإنسان الأوَّل من الأكل من “شجرة الحياة” (سفر التَّكوين: إصحاح 3، آية 24). صدَّق إبليس ظنَّه على بني إسرائيل بأن أقنعهم أنَّ مُخلّصًا سيظهر آخر الزَّمان سوف يبيد الأمم دونهم ليؤسّس مملكة عالميَّة مقرُّها الأرض المقدَّسة، يكون مُلكهم عليها أبديًّا بأن “يَبْلَعُ الْمَوْتَ إِلَى الأَبَدِ” (سفر اشعياء: إصحاح 28، آية 8). اتّباعًا لعقيدتهم المنحرفة عن صحيح الوحي الإلهي والمتأثّرة بما أخذوه عن المجوس خلال فترة سبيهم في بابل، وتحقيقًا لنبوءة العهد القديم عن ظهور المخلّص (Messiah)، وعملًا بوصيَّة الصَّهاينة المتدينين الَّذين أنَّ زمن ظهور المخلَّص لاح في الأُفق، بدأ زعماء الحركات السّريَّة في العالم، وداعموهم من أباطرة المال اليهود، منذ أواخر القرن التَّاسع عشر للميلاد في التَّخطيط لهجرة اليهود إلى الأرض المقدَّسة، أو فلسطين، كما جرت تسميتها أثناء خضوعها للحُكم العثماني، باعتبارها جزءً من إقليم الشَّام. اتُخذ قرار استيطان اليهود لفلسطين منذ المؤتمر الصُّهيوني الأوَّل عام 1897م، ولكن قوبل الأمر بمعضلة لم يُعثر لها على حلّ حتَّى يومنا هذا، ألا وهي كيفيَّة التَّعامل سكَّان فلسطين من العرب. برغم من ادّعاء اليهود سعيهم إلى التَّعايش السَّلمي مع الفلسطينيين وتأسيس دولة واحدة ثنائيَّة القوميَّة، وأنَّ الفلسطينيين هم الَّذين فرُّوا دون مبرّر عام 1948م إبَّان حرب فلسطين، تشير الوثائق الَّتي أُفرج عنها في العقود الأخيرة إلى أنَّ فكرة إزاحة العرب من فلسطين وتوطينهم في البلدان المجاورة كان تيودور هرتزل نفسه أوَّل من طرحها، ثمَّ طوُّرت على يد الأجيال اللاحقة.
استعراضًا لأهمّ محطَّات المخطَّط الإسرائيلي لاستيطان أرض فلسطين، فقد ادَّعي تيودور هرتزل أنَّ الهجرة اليهوديَّة إلى الأرض المقدَّسة لا تستهدف سوى توفير مأوً ليهود الشَّتات، ثمَّ تطوَّر الأمر إلى المطالبة بتأسيس وطن قومي لليهود بموجب وعد بلفور لعام 1917م، ثم أوصت الجمعيَّة العامَّة التَّابعة للأمم المتَّحدة بتقسيم فلسطين وتأسيس دولة يهوديَّة مستقلَّة عام 1947م، كما سبق وأن أوصى تقرير لجنة بيل في يوليو 1937م. صاحَب رفْض حُكَّام المنطقة العربيَّة المعلن لمُخطَّط تقسيم فلسطين تحالُفات سريَّة مع الانتداب البريطاني وزعماء الحركة الصُّهيونيَّة، لدرجة أنَّ بعض المؤرّخين أنَّ خطَّة التَّقسيم الَّتي أعلنت عنها الأمم المتَّحدة صاحبتها خطَّة أخرى دُبّرت في بلدة نهاريم الواقعة بالقرب من إمارة شرق الأردن حينها، بين الصَّهاينة والهاشميين، أفضت إلى ضمّ الضَّفَّة الغربيَّة إلى الأردن بعد التَّقسيم للحيلولة دون تأسيس دولة فلسطينيَّة. ازدادت الأطماع الصُّهيونيَّة الرَّامية إلى تأسيس دولة إسرائيل الكبرى في أعقاب الهزيمة المنكرة للجيوش العربيَّة في حرب الأيَّام السّتَّة في يونيو 1967م. غير أنَّ الطُّموحات الصُّهيونيَّة تراجعت قليلًا نتيجة للانتفاضة الفلسطينيَّة الأولى عام 1987م، وتباطأ النَّشاط الاستيطاني، ليأخذ الحديث عن حلّ الدَّولتين وإعلان دولة فلسطينيَّة مستقلَّة شكلًا من الجديَّة، وبخاصَّة بعد إعلان السُّلطة الفلسطينيَّة بموجب اتّفاقيَّة أوسلو لعام 1993م.
آثرت منظمة التَّحرير الفلسطينيَّة، الَّتي اعتُبرت الممثّل الشَّرعي للفلسطينيين، بالطَّبع من قِبل الغرب وقوَّات الاحتلال، النّظام الدّيموقراطي العلماني للدَّولة الفلسطينيَّة، المفترض تأسيسها إلى جانب العبريَّة؛ وليس أدلُّ على ذلك أكثر من إشارة إعلان الاستقلال الفلسطيني في 15 نوفمبر 1988م إلى “انسلاخ” فسلطين من عباءة دولة الخلافة، وتجاهُله الهويَّة الإسلاميَّة لغالبيَّة أفراد الشَّعب الفلسطيني، بل واتّخاذه قرار الجمعيَّة العامَّة التَّابعة للأمم المتَّحدة رقم 181، الخاص بتقسيم فلسطين، مصدرًا لشرعيَّة إعلان الدَّولة. غير أنَّ كافَّة المفاوضات التَّالية فشلت في التَّوصُّل إلى حلّ نهائي يرضي الطَّرفين، لتأتي خطَّة ترامب للسَّلام، أو صفقة القرن، في 28 يناير من عام 2020م لتقضي بالكامل على فكرة حلّ الدَّولتين. يبدو أن تنازلات منظمَّة التَّحرير، المقرَّبة من نظام ملالي الشّيعة والمتحالفة في السَّابق مع نظام الأسد العلوي في سوريا، على مدار عقود لم تنفعها؛ فحتَّى قبولها حلَّ الدَّولتين لم يعد يؤتي أكله، لدرجة أنَّه يتردَّد أنَّه من المحتمل حلّ السُّلطة الفلسطينيَّة في حال ضمَّت إسرائيل مستوطنات الضَّفَّة الغربيَّة.
بعد إعلان صفقة القرن مطلع عام 2020م، وما سبق ذلك من تصريح أمريكي، على لسان وزير الخارجيَّة مايك بومبيو في 18 نوفمبر 2019م، بأن تأسيس إسرائيل مستوطنات في الضَّفَّة الغربيَّة لا يُعدُّ خرقًا للقانون الدُّولي، وما تلاه من إعلان إسرائيلي رسمي باعتزام الحكومة على ضمّ تلك المستوطنات إلى السّيادة الإسرائيليَّة، أصبحت المساحة الباقية للفلسطينيين، وهي 22 بالمائة من أرض فلسطين التَّاريخيَّة، مهدَّدة بالضَّياع. على ذلك، تتبادر إلى الذّهن عدَّة تساؤلات: مع اشتداد الأزمات على الفلسطينيين، ودعوة بعضهم، وبخاصَّة من المهاجرين إلى الغرب، إلى “التَّعايش المشترك القائم على المساواة”، هل يكمن حلُّ الصّراع الفلسطيني-الإسرائيلي في تأسيس علمانيَّة دولة ثنائيَّة القوميَّة تنحّي الانتماءات الدّينيَّة جانبًا؟ إذا كانت فئة من الفلسطينيين ترفض الانتماء إلى كيان علماني، فهل التَّشدُّد الدّيني المنسوب إلى الإسلام هو العائق أمام إحلال السَّلام في هذه الحالة؟ هل يمكن التَّعويل على وعود حكومة حزب الليكود، التَّابع لحركة الصهيونيَّة التصحيحيَّة الدَّاعية إلى إبادة العرب، والَّتي عارَض مؤسّسها زئيف جابوتينسكي اقتراح لجنة بيل عام 1937م تقسيم فلسطين بين اليهود والعرب؟ وكيف كان من الممكن في الماضي تصديق ادّعاء قبول اليهود تأسيس دولة عربيَّة على جزء من أرض فلسطين التَّاريخيَّة، وقد نُقش على عملة إسرائيل دولة تضمُّ أجزاءً من مصر والأردن وسوريا والعراق، إلى جانب فلسطين كاملةً؟
خارطة دولة إسرائيل الكبرى على عملة إسرائيل
1.رؤية معاصرة لملابسات حرب فلسطين 1948م وتأسيس إسرائيل
في محاولة لتبيان الحقائق وكشْف ملابسات نشأة دولة إسرائيل عام 1948م، بعد هزيمة الجيوش العربيَّة أمام القوَّات الصُّهيونيَّة وما سبق ذلك من تهجير للشَّعب الفلسطيني، نشَر المؤرِّخان الأمريكي ايوجين لورانس روجان، أستاذ تاريخ الشَّرق الأوسط في جامعة أوكسفورد البريطانيَّة، والإسرائيلي آفي شليم، أستاذ العلاقات الدُّوليَّة في الجامعة ذاتها، في عام 2001م، وتزامنًا مع اندلاع الانتفاضة الفلسطينيَّة الثانية أو انتفاضة الأقصى، كتاب The War for Palestine: Rewriting the History of 1948-حرب فلسطين: إعادة كتابة تاريخ 1948. يتكوَّن الكتاب من مجموعة من المقالات لعدد من المؤرِّخين المعاصرين يتبعون أكاديميَّات غربيَّة مختلفة، تتناول الحدث من عدَّة زوايا. وأصدرت مؤسَّسة روز اليوسف الصحافيَّة المصريَّة في ذات عام نشْر الكتاب ترجمة وافية، تحت عنوان حرب فلسطين: إعادة كتابة تاريخ 1948، من إعداد ناصر عفيفي، يُشار إلى مقتطفات منها فيما يلي.
تجدر الإشارة إلى أنَّ العقليَّة الإسرائيليَّة اعتبرت في حرب فلسطين عام 1948م معركة غير متكافئة بين داود الإسرائيلي وجُليات العربي، تأثُّرًا بما ورد في العهد القديم عن صراع بني إسرائيل مع الفلسطينيين القدماء عند تأسيس مملكة إسرائيل الأولى، ونجاح الطَّرف الأوَّل في اختراق صفوف الفلسطينيين وهزيمتهم بفضل بسالة داود وقتله زعيم العماليق من الفلسطينيين، كما جاء في “رَكَضَ دَاوُدُ وَوَقَفَ عَلَى الْفِلِسْطِينِيِّ (جُليات) وَأَخَذَ سَيْفَهُ وَاخْتَرَطَهُ مِنْ غِمْدِهِ وَقَتَلَهُ وَقَطَعَ بِهِ رَأْسَهُ. فَلَمَّا رَأَى الْفِلِسْطِينِيُّونَ أَنَّ جَبَّارَهُمْ قَدْ مَاتَ هَرَبُوا” (سفر صموئيل الأوَّل: إصحاح 17، آية 51). واتَّباعًا لنهجٍ ظهر في ثمانينات القرن الماضي على يد عدد من المؤرِّخين المعاصرين عمل على إعادة قراءة تاريخ نشأة إسرائيل ودحْض ما روِّج من مزاعم في هذا الشَّأن، يتحدَّى روجان وشليم “الرُّواية الإسرائيليَّة التَّقليديَّة” عن هزيمة العرب وانتصار المحتل، والَّتي تزعم أنَّ حُكَّام العرب أرسلوا جيوشًا “من أجل خنْق الدَّولة اليهوديَّة الوليدة في مهدها”، بينما كان موقف الفلسطينيين هو “ترْك بلدهم تبعًا لأوامر زعمائهم على أمل العودة المظفَّرة بعد تحقيق الانتصار” (ص5). يستهلُّ المؤرِّخان تقديمهما للكتاب بالإشارة إلى الدَّور الخطير الَّذي لعبته حرب عام 1948م، ليس فقط في إعادة تشكيل منطقة الشَّرق الأوسط بعد نشأة الدَّولة العبريَّة وتهديدها جيرانها العرب بمخطَّطاتها التَّوسُّعيَّة، إنَّما كذلك في زعزعة استقرار المنطقة بعد جرِّها إلى 6 حروب لم يكن للخصم العربي فيها سوى الهزيمة واستنزاف الأراضي. تقديرًا لدورها في تثبيت أقدام الاحتلال وإحكام سيطرته على فلسطين، أو الأرض المقدَّسة، كما تُعرف في الكُتب السَّماويَّة، أطلق اليهود على حرب عام 1948م اسم “حرب الاستقلال”؛ فيما عرَّفها العرب بـ “النَّكبة”.
في 29 نوفمبر من عام 1947م، صدر قرار الجمعيَّة العامَّة التَّابعة لهيئة الأمم المتحدة رقم 181، لينصَّ على تقسيم فلسطين إلى دولة عربيَّة بمساحة مساحتها حوالي 4,300 ميل مربع (11,000 كـم مربَّع، أي 42.3 بالمائة من مساحة فلسطين)، وأخرى يهوديَّة بمساحة حوالي 5,700 ميل مربع (15,000 كـم مربَّع، أي 57.7 بالمائة من فلسطين). حدَّد القرار 181 للجمعيَّة العامَّةالتَّابعة للأمم المتَّحدة موقع الدَّولة العربيَّة ليكون على الجليل الغربي، وتشمل مدينة عكا، والضفَّة الغربيَّة لنهر الأردن، والساحل الجنوبي الممتد من شمال مدينة أسدود وجنوبًا حتَّى رفح، مع جزء من الصحراء على طول الشَّريط الحدودي مع مصر. أمَّا موقع الدَّولة اليهوديَّة، فهو على السَّهل السَّاحلي من حيفا وحتَّى جنوب تل أبيب، والجليل الشَّرقي، ويشمل بحيرة طبريا وإصبع الجليل، والنَّقب، وصولًا إلى أم الرشراش، أو إيلات، الواقعة على الحدود مع مدينة العقبة الأردنيَّة من الشَّرق ومع بلدة طابا المصريَّة من الغرب. صدَّقت الجمعيَّة العامَّة على القرار بموافقة 33 دولة من الدُّول الأعضاء، ومن المفارقات أنَّ المملكة المتَّحدة، صاحبة الانتداب على أرض فلسطين منذ عام 1920م، أي بعد إنهاء الوجود العثماني في الشَّام وتقسيمه أراضيه بينها وبين فرنسا، امتنعت عن التَّصويت!
صَاحَب صدور قرار التَّقسيم في 29 نوفمبر 1947م انتفاضة شعبيَّة فلسطينيَّة، ربَّما تكون الشَّرارة الأولى لحرب فلسطين المندلعة فعليًّا في 15 مايو 1948م، تزامنًا مع إعلان الدَّولة اليهوديَّة، وقد استمرَّت أعمال المقاومة منذ صدور قرار التَّقسيم، وعلى مدار 20 شهرًا، وصولًا إلى اتّفاقيَّة الهدنة مع سوريا في يوليو 1949م. كان من أهمِّ تبعات هزيمة الجيوش العربيَّة في حرب 1948م اغتيال رئيسي وزراء مصر ولبنان، وكذلك ملك الأردن المؤسِّس، بالإضافة إلى حدوث انقلابين عسكريين في مصر وسوريا أطاحا بملك الأولى ورئيس الثَّانية، وعلاوة على نشأة المقاومة الفلسطينيَّة المسلَّحة. غير أنَّ من أهمِّ ما ترتَّب على هزيمة العرب أمام الزَّحف الصُّهيوني على منطقتهم هو العجز المتواصل لأتباع الفكر القومي الشُّعوبي من حُكام العرب عن “الارتقاء بأفعالهم إلى مستوى أقوالهم وإنقاذ فلسطين من الخطر الصُّهيوني” (ص11). ويرى كلٌّ من ايوجين روجان وآفي شليم أنَّ الرُّواية العربيَّة عن حرب فلسطين 1948م تعمَّدت إخفاء دور الحُكَّام في الهزيمة، مع الحرص على حشْد الشُّعوب ضدَّ إسرائيل؛ فيما فبركت الرُّواية الإسرائيليَّة أساطير لا صحَّة لها عن قدرات الجيش الصُّهيوني، متجاهلةً بعض النَّتائج السَّلبيَّة للحرب.
ويرجع السَّبب في إعادة كتابة تاريخ الحرب في الثَّمانينات إلى سعي حكومة حزب الليكود إلى “خلْق نوع من التَّواصل التَّاريخي” بين أعمالها وأعمال حزب ماباي بزعامة دافيد بن غوريون، أوَّل رئيس وزراء لإسرائيل، الَّذي رأى مناحيم بيغن، رئيس الحكومة الإسرائيليَّة من 1977م إلى 1983م (ص12). غير أنَّ بيغن رأى اختلافًا في سياسته عن سياسة بن غوريون، تمثَّل في أنَّه كان ينفِّذ مخطَّطاته التَّوسُّعيَّة علنًا، بينما كان بن غوريون يستخدم الحيلة في تنفيذ مخططاته لتفتيت الدُّول العربيَّة المحيطة، مدلِّلًا على ذلك بتخطيط بن غوريون لتأسيس دولة مسيحيَّة في لبنان، بالإضافة إلى “جهوده الَّتي لا تهدأ لمنع تأسيس دولة فلسطينيَّة” بعد تدمير القرى والأحياء العربيَّة خلال الحرب في سبيل “إقامة دولة يهوديَّة متجانسة” بعد طرْد السُّكان العرب الأصليين (ص12). استند روجان وشليم إلى الوثائق الحكوميَّة المفرج عنها بعد مرور 30 عامًا على الحرب، أي بعد عام 1978م، معتمدين على ما دحضه المؤرِّخ الإسرائيلي سمحا فلابان في كتابه الشَّهير ميلاد إسرائيل: الأساطير والحقائق (1987م)، من أساطير، أو خرافات ينفيها الواقع، عن حقيقة أحداث الحرب، وهي موافقة اليهود على قرار التَّقسيم وتأسيس دولة عربيَّة إلى جانب دولتهم، وإشعال العرب شرارة الحرب برفضهم التَّقسيم، ومغادرة الفلسطينيين أراضيهم دون إجبار آملين العودة بعد تدخُّل الجيوش العربيَّة، وصمود اليهود في مواجهة “جُليات العربي” مع جنوحهم للسَّلم وإصرار العرب على الحرب.
أدَّت الإطاحة بالأنظمة الملكيَّة، المتَّهمة بإضاعة فلسطين ونشأة أنظمة قوميَّة اشتراكيَّة على أنقاضها، إلى إعادة تشكيل سُبُل المقاومة واستعادة الأراضي المغتصَبة؛ فقد صارت القوميَّة العربيَّة بمثابة الأمل الوحيد للشُّعوب المهزومة، خاصَّة مع بزوغ نجم جمال عبد النَّاصر، القائد العسكري المصري المشارك في حرب فلسطين 1948م، والَّذي روي عن بسالته في مقاومة الاحتلال، وأغرته الهزيمة المنكرة بتأسيس تنظيم الضُّباط الأحرار، الَّذي أسقط الملكيَّة في مصر 23 يوليو 1952م. غير أنَّ الخُطب الرَّنَّانة والتَّصريحات النَّاريَّة والوعود البرَّاقة الَّتي أطلقها زعماء التَّيَّار القومي لم تجد لها وجودًا فعليًّا على أرض الواقع؛ ممَّا شجَّع على القول بأنَّه “لم يثبت القوميون العرب أنَّهم كثر فعَّاليَّة في تحرير فلسطين أو هزيمة إسرائيل من أسلافهم” (ص15). ويأخذ المشاركون في هذا المؤلَّف على عاتقهم تسليط الضَّوء على حقائق أحداث حرب 1948م، وتبيان أسباب الانتصار/الهزيمة، والتَّكهن عن مستقبل الأوضاع على أرض فلسطين.
(المصدر: رسالة بوست)