مركز التأصيل للدراسات والبحوث
عاش شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله تعالى- في فَترَةٍ كان التَتَرُ فيها قد دَخَلُوا عَاصِمةَ الدَّولةِ العَباسيَّةِ (بغداد)، وحَواضِرِ المسلمين في العِراقِ والشَّامِ، حتى كادوا أن يَصلِوا إلى مِصرَ. فدوَّنَ في مؤلفاته وفتاويه رؤيَتَه الخاصةَ لهذه الطَّائِفةِ مِن النَّاس، حيثُ أنَّه أَدرَك حقائِقَ مُعتقداتهم وسلوكياتهم، وما طَرأَ عليها مِن تحولاتٍ، مُنذُ اكتساحهم العالم الإسلامي مع مَطلعِ القرن السابع الهجري. فكان ابن تيمية بحَقٍّ عارِفًا بواقِعِه، واعِيًا بتفَاصيلِه ومُجريَاتِه، مُدرِكًا لطَبيعَةِ القُوى المتحركةِ فيه، وهو الذي خَاضَ غِمارَ الفِكرِ والدَّعوةِ والتَّعليمِ والفتيا والجهاد. فجاء حديثه عن التتر مستوعبا لطبيعتهم، ومسار تشكلهم، وحقيقة ما هم عليه، والتحولات التي طرأت عليهم. فلم يَنفَكَّ –رحمه الله- عن وَاقِعِ أُمَّتِه التي واجهت أَكبَر هَجمةٍ بربريةِ استهدفت وجودَها المعنوي والمادي. ولم يَنزَوِ عن مُعتَرَكِ الجهودِ الهَادِفةِ للتَّصدِّي لهذا التهديدِ وتَوعِيةِ الأُمَّة بمدى خُطورَته وما ينبغي إزَاءَه. فكان عالما ربانيًّا، وفقيها مُصلِحًا، ومُجدِّدًا مُجاهِدًا بفكره ولسانه وقلمه وسيفه.
وكان ابن تيمية يؤكِّدُ ابتداءً أنَّ ما تُواجِههُ الأُمَّةُ مِن التتر، قد أخبَرَ عنه الرسول –صلى الله عليه وسلم، كما ثَبتَ في الصحيحين عنه، مِن غَيرِ وَجهٍ، أنَّه قال: (لا تَقُومُ السَّاعةُ حتَّى تُقاتِلُوا التُّركَ، صِغارَ الأَعيُنِ، ذُلفَ الأُنُوفِ، حُمرَ الخُدُودِ، يَنتَعِلون الشَّعرَ، كأنَّ وجُوهَهم المجَانُ المطرقَةُ)؛ وذلك قَبلَ ظُهورهِم بنَحو سِتُّمَائَةِ سَنَةٍ.
ظهور التتر وغزوهم العالم الإسلامي:
ظهرت دولة التتر في سنة 603هـ، في منغوليا، شمال الصين، وكان مؤسسها وأول زعمائها “جنكيز خان”؛ وانطلقت في التوسع شرقا وغربا باتجاه الدولة الخوارزمية الإسلامية؛ وسقطت بأيديهم حواضر الإسلام كبخارى وسمرقند وبلخ ومَرو ونيسابور وهراة وغزنة، ولم تزل البلدان تسقط في أيديهم الواحدة تلو الأخرى حتى سنة سنة 624هـ، حيث توفي “جنكيز خان”، مخلفا مملكة عظمى تمتد من كوريا شرقا حتى أرض العراق والأناضول غربا.
عاد اكتساح التتر مجددا للعالم الإسلامي سنة 628هـ، بعد أن تولى زعامتهم “أوكيتاي”، الذي أعاد تنظيم شئون المملكة التترية وبناء قوتها العسكرية، وكلَّف “شورما جان” بقيادة الحملة الجديدة على العالم الإسلامي. فأخذوا معظم بلاد فارس واتجهوا شمالا فدخلوا روسيا وشرق أوروبا إلى حدود ألمانيا وكرواتيا.
وبعد وفاة “أوكيتاي” سنة 639هـ تولى ابنه “كيوك” ملك التتر فقرَّر إيقاف الحملات التوسعية، وتفرغ لتثبيت أركان مملكته مترامية الأطراف حتى سنة 646هـ، حيث توفي فيها. فشهدت هذه الفترة هدوءًا نسبيا. وتولت زوجته “أوغول قيميش” الحكم من بعده، لأنه خلَّفَ ثلاثة أولاد صغار، واستمرت في الحكم مدة ثلاث سنوات، فقد نُصِّبَ “منكو خان” حاكما للتتر سنة 649هـ.
أعَدَّ “منكو خان” أخاه “هولاكو” ليتولى إقليم “فارس” وما حوله، ووجهه لتجهيز حملة تستهدف إسقاط الخلافة الإسلامية والاستيلاء على العراق والشام ومصر. وبالفعل قاد “هولاكو” جيشا ضخما سنة 656هـ وحاصر عاصمة الخلافة العباسية (بغداد)، حتى دخلها عنوة، فاستباح فيها القتل والسبي والنهب أربعين يوما، حتى قتل أكثر من مليون نفس! ثم سقطت مُدُن حَلبٍ وحَمَاةٍ تباعا، وكادت دمشق أن تُسلَّم إليه دون مُقاومَةٍ تُذكر لولا بُلوغِ خَبرِ وفَاةِ “منكو خان” إلى “هولاكو”، ما دَفَعَه أن يَعُودَ أَدرَاجَه.
استمرت مُدُن الشَّامِ تسقُطُ في يَدِّ التتر بزعامة “كتبغا نوين”، القائد الذي نصبه “هولاكو” على جيشه في المنطقة خلفا له. فدخلت الشَّامُ ولبنانُ وأَجزَاءٌ مِن فلسطين في حُكمِهم. ودَخلَ كثيرٌ مِن ولاةِ وأُمراءِ هذه الحواضر والمدن في طَاعةِ التتر، والقتال في جيوشهم، وخيانة أمتهم ومعاونة التتر عليها!
وبدأ التتر يضعون عينهم على مصر، بما فيها من نعم وخيرات. فأرسل “هولاكو” إلى سيفِ الدِّين قُطز، حاكمِ مِصرَ المملوكي، رسالةً يُهدِّدُه ويتَوعَّدُه فيها، كي يُسلِّم له مِصرَ، دون قتال، ومخاطبا إياه باسم “مَلِكِ الملوكِ شَرقًا وغَربًا القان الأعظم”، ويقول فيها: “إنَّنا جُندُ الله في أَرضِه، خَلَقَنا مِن سَخَطِه، وسَلَّطَنا على مَن أَحَلَّ به غَضَبه، فسَلِّمُوا إلينا أَمرَكم تَسلَمُوا، قَبلَ أن يَنكَشِفَ الغِطاءُ فتَندَمُوا، وقد سَمعتُم أنَّنا فَتحنا البِلادَ وقَتَلنَا العِبادَ، فعليكم مِنَّا الهَرَب، ولنا خَلفَكم الطَّلَبُ، فما لكم من سُيوفِنا خَلاصٌ، خُيولُنا سَوابقٌ وسِهامُنا خَوارِقٌ، وسُيوفُنا قَواطِعٌ، وقُلوبُنا كالجبَالِ، وعَدَدُنا كالرِّمَالِ، ومَن طَلَبَ حَربَنا نَدِمَ، ومن قَصَدَ أَمَانَنا سَلِمَ، فإن أنتم لشَرطِنا ولأَمرِنا أَطعَتم فلكم ما لنا، وعليكم ما علينا، وإن خَالَفتم هَلَكتم، فلا تُهلِكُوا أَنفُسَكم بأَيدِيكم، فقد حَذَّر مَن أَنذَرَ، وقد ثَبَتَ عندكم أنَّنا الكَفرَةُ، وثَبَتَ عندنا أنَّكم الفَجرَةُ، فأسرعوا إلينا بالجوابِ قَبلَ أن تَضرِمَ الحربُ نَارَها وتَرمِيكم بشرارِها، فلا يَبقَى لكم جَاهٌ ولا عِزٌّ، ولا يَعصِمُكم مِنَّا حِصنٌ، ونَترُكَ الأَرضَ مِنكم خَالِيةً، فقد أَيقَظنَاكم إذ حَذَّرنَاكم، فمَا بَقيَّ لنا مَقصِدٌ سِواكم، والسَّلامُ علينا وعليكم وعلى مَن أطَاعَ الهدى، وخَشيَّ عَواقِبَ الردَى، وأطَاعَ الملكَ الأعلى”[1].
فعزم قطز على مواجهتهم، فأعدَّ العُدَّةَ وخرج على رأسِ جَيشٍ كَبِيرٍ مُتوجِّها للقائهم في الشَّام، فالتقى بهم في (عين جالوت) بفلسطين، في 25 رمضان 658هـ. وقد تمكن من هزيمتهم شرَّ هزيمة، فتَقدَم إلى مُدنِ الشَّامِ، ودَخَلَ دمشق. وعَادَت أَرضُ الإسلامِ تَتَحرَّرُ بلدًا بلدًا.
من هم التتر؟ ولماذا تغلبوا على المسلمين؟
يطلق اسم التتر على الأقوام الذين يقطنون شماليَّ الصين، في صحراء “جوبي”، وهم أصل القبائل التي انطلقت من هذه المنطقة شرقا وغربا. وهي قبائل ترُكيَّةٌ بالأصل، وتَضُمُّ قبائِلَ أُخرَى مثل السَّلاجِقةِ، والمغول الذين ينتسب إليهم “جنكيز خان”. ويؤكد ابن تيمية أنَّ التتر هم “الترك الأعراب”[2]. لأنَّ “لَفظَ الأَعرابِ هو في الأَصلِ: اسمٌ لبادِيةِ العَربِ، فإنَّ كُلَّ أُمَّةٍ لها حَاضِرةٌ وبَادِيةٌ، فبَاديةُ العَربِ: الأَعرابُ، ويقال: إنَّ بَاديةَ الرُّومِ: الأَرمَنُ ونحوهم، وبَاديةَ الفُرسِ: الأَكرادُ ونحوهم، وبَاديةَ التُّركِ التتر. وهذا -والله أعلم- هو الأصل، وإن كان قد يَقعُ فيه زِيادَةٌ ونُقصَانٌ”[3]. لذلك فهو تارة يطلق عليهم “الترك التتر”، وتارة “الترك المغول”.
ومعلوم أنَّ أوَّل ظهور التتر كانوا قوما مشركين، لذلك يقول ابن تيمية: “لمـَّا ظَهرَ المشركون مِن التُّركِ مِن التَتَر وأتبَاعِهم كان مِن أَعظَمِ مَن انضَمَّ إليهم مِن المنافقين هُم الملاحِدَةُ”[4]. ويقولُ عنهم في عِدَّةِ مَواطِن مِن كُتُبِه في وَصفِهم بَادِئَ أَمرِهم: “الـمُشرِكين مِن التُّركِ التتر”.
ولم يُغفِل ابن تيمية في مؤلفاته أن يشير إلى الأسباب والعوامل التي ساهمت في تَغلُّبِ التترِ على المسلمين، كعادته –رحمه الله- في استقراء السُّننِ الاجتماعيةِ ورَبطِ الأَحداثِ بمسبباتها. فقد رَبطَ ظُهورَهم بعِدةِ أَسبابٍ داخليةٍ في العالم الإسلامي، بعيدا عن عُقدَةِ المؤامرةِ التي ترمي المسئولية على الخارج؛ ومن أبرز هذه الأسباب التي أشار إليها:
– انتشار المذهب الحلولي الاتحادي الصوفي: فقد عَمِلَ فَلاسِفةُ الصُّوفيةِ الملاحِدَةِ على نَشرِ عَقيدَةِ الحُلولِ والاتحَادِ في العالم الإسلامي، وتمييع حقيقة دين الإسلام؛ ما مَكَّن للزنادقة مِن تمريرِ العقائدِ الكُفريَّةِ والشِركيَّةِ للعَامَّة. يقول شيخ الإسلام عنهم: “أمَّا مُحقِّقُوهم وجُمهُورُهم [أي مَلاحِدَةُ الصُّوفيةِ الاتحاديَّةِ] فيَجوزُ عندَهم التَّهودُ والتَّنصُّرُ والإسلامُ والإشراكُ، لا يُحرِّمُون شيئاً مِن ذلك، بل المحقِّقُ عندَهم لا يُحرِّمُ عليه شَيءٌ ولا يَجبُ عليه شَيءٌ. ومَعلُومٌ أنَّ التتر الكُفَّارَ خَيرٌ مِن هَؤلاءِ، فإنَّ هؤَلاءِ مُرتدُّون عن الإسلامِ مِن أَقبح ِأَهلِ الرِّدةِ، والمرتَدُّ شَرٌّ مِن الكَافِر الأَصلي مِن وُجُوهٍ كثيرةٍ”[5]. ويقول: “كثيراً ما كُنتُ أَظُنُّ أنَّ ظُهورَ مِثلِ هَؤلاءِ أَكبَرُ أَسبَابِ ظُهورِ التتر، واندراسِ شَريعَةِ الإِسلامِ، وأنَّ هؤلاءِ مُقدِّمَةُ الدَّجالِ الأَعورِ الكذَّابِ الذي يَزعُمُ أنَّه هو الله، فإنَّ هؤلاءِ عِندَهم كُلُّ شَيءٍ هو الله”[6].”فإنَّ هؤلاءِ أَفسَدوا على النَّاسِ عُقُولَهم وأَديانَهم، وهُم يكثُرون ويَظهَرُون فيما يُنَاسِبهم مِن الدُّول الجَاهِليةِ، كدَولَةِ القرامطةِ البَاطِنيةِ العُبيدِيةِ، ودَولةِ التتر، ونحوهم مِن أَهلِ الجهلِ والضَّلالِ، وفي دُولِ أَهلِ الرِّدةِ والنِّفاقِ. وذلك أنَّ هؤلاء أَعظَمُ جَهلًا وضَلالًا مِن اليَهودِ والنَّصارَى والمجُوسِ ومُشرِكي العَربِ والهندِ والتُّركِ وكَثيرٍ مِن الصابئين[7]”.
– تعاطي الحشيش المخدر، وما يمثله من ضياعٍ للعقولِ وخروجٍ عن الوعي: “وهذه الحَشِيشَةُ.. أَوَّلُ ما بَلغَنا أَنَّها ظَهَرَت بين المسلمين في أَواخِرِ المائَةِ السَّادِسَةِ وأَوائِلِ السَّابِعَةِ، حيثُ ظَهرَت دَولَةُ التتر، وكان ظُهورُها مَع ظُهورِ سَيفِ جنكيز خان، لمـَّا أَظهَر النَّاسُ ما نهاهم الله ورسُولُه عنه مِن الذُّنوبِ سَلَّطَ اللهُ عليهم العُدو، وكانت هذه الحشِيشَةَ الملعُونَةَ مِن أَعظَمِ المنكَراتِ، وهي شَرٌّ مِن الشَّرابِ المسكِرِ مِن بَعضِ الوجوه، والمسكِرُ شَرٌّ مِنها مِن وَجهٍ آخر، فإنَّها مع أنَّها تُسكِرُ آكِلَها حتى يَبقَى مَصطُولًا تُورِثُ التَّخنِيثَ والدُّيُوثَةَ، وتُفسِدُ المزَاجَ فتَجعَلُ الكبيرَ كالسَّفتجَةِ، وتُوجِبُ كَثرَةَ الأَكلِ، وتُورِثُ الجُنونَ وكَثيرٌ مِن النَّاس صَارَ مجنونًا بَسبَبِ أَكلِها”[8]. ويقول: “والحَشِيشَةُ ممَّا يشتَهيها آكِلُوها، ويمتَنِعُون عن تَركِها. ونُصُوصُ التَّحريمِ في الكِتَّابِ والسُّنَّةِ على مَن يتَناوَلها كما يَتنَاولُ غَيرَ ذلك، وإنَّما ظَهرَ في النَّاسِ أَكلُها قَريبًا مِن نحو ظُهورِ التتر؛ فإنَّها خَرجَت وخَرجَ معها سَيفُ التتر”[9].
– ظهور الرافضة وتعاونهم مع التتر: وما قاموا به من خيانه للأمة. فهو يقول: “ومِن العَجبِ مِن هؤلاءِ الرَّافِضةِ أنَّهم يدَّعُون تَعظيمَ آل محمد -عليه أَفضَلُ الصَّلاةِ والسَّلام- وهُم سَعَوا في مجيءِ التَترِ الكُفَّارِ إلى بغداد دَارِ الخِلافَةِ، حتى قَتَلَ الكُفَّارُ مِن المسلمين مَا لا يُحصيه إلا الله تعالى مِن بني هاشم وغيرهم، وقَتَلوا بجهات بغداد أَلفَ أَلفَ وثمانمائةَ أَلفَ ونَيفًا وسَبعينَ أَلفًا، وقَتلَوا الخَليفَةَ العباسي، وسَبَوا النِّساءَ الهاشميات وصِبيانَ الهاشميين”[10]. ويقول: “وأمَّا إعانتَهم لهولاكو -ابن ابنه- لمـَّا جَاءَ إلى خُراسَان والعِراقَ والشَّامَ، فهذا أَظهَرُ وأَشهَرُ مِن أن يخفَى على أَحَدٍ. فكانوا بالعِراقِ وخُراسَان مِن أَعظَم أَنصَاره ظَاهِرًا وبَاطِنًا. وكان وزَيرُ الخليفةِ ببغداد، الذي يُقالُ له ابن العَلقَمي مِنهم، فلم يَزَل يَمكُرُ بالخليفةِ والمسلمين، ويَسعَى في قَطعِ أرزاقِ عَسكَرِ المسلمين وضَعفِهم، ويَنهَى العَامَّةَ عن قِتَالهم، ويَكيدُ أنواعا مِن الكيد، حتى دخلوا فقتلوا مِن المسلمين ما يُقال إنَّه بَضعَةَ عَشرَ أَلفَ أَلفَ إنسان، أو أكثر أو أقل، ولم يُرَ في الإسلامِ مَلحَمَةً مِثلَ مَلحَمَةِ التُّركِ الكُفَّاِر، المسمَّين بالتتر، وقَتلَوا الهاشميين وسبوا نساءهم من العباسيين وغير العباسيين، فهل يكون مواليا لآل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مَن يُسلِّطُ الكُفَّارَ على قَتلِهم وسَبيهم وعلى سائر المسلمين؟!”[11]. ويقول عن الرَّافضَةِ أيضا: “وهم كانوا مِن أَعظَمِ الأَسبَابِ في دُخُولِ التتر قَبلَ إسلامِهم إلى أَرضِ المشرِقِ بخُراسان والعِراقَ والشَّامَ، وكانوا مِن أَعظمِ النَّاس مُعاوَنةً لهم على أَخذِهم لبِلادِ الإسلامِ وقَتلِ المسلمين وسَبي حَريِمهم. وقضية ابن العلقمي وأمثاله مع الخليفة، وقضيتهم في حَلَب مع صَاحِبِ حَلَب، مشهورة يعرفها عمومُ النَّاسِ”[12].
– دور المنافقين المندسين في الصفوف، والحريصين على التحريش بين العلماء وولاة أمور المسلمين: فها هو يَتَحدَّثُ عن فِتنَةٍ وَقعَت له، بسبب وشاية قام بها بعض المنافقين بينه وبين ولاة أمور المسلمين، فيقول: “فإنَّ الذين أَثارَوها مِن أَعدَاءِ الإسلام، الذين يُبغِضُونه ويُبغِضُون أَوليَاءَه والمجاهِدين عنه، ويختَارُون انتِصَارَ أعدَائِه مِن التترِ ونحوهم، هُم دَبَّرُوا عليكم حِيلَةً يُفسِدُون بها مِلَّتَكم ودُولَتَكم. وقد ذَهَبَ بَعضُهم إلى بُلدَانِ التترِ، وبَعضُهم مُقِيمٌ بالشَّامِ وغيره. ولهذه القَضيَّةِ أَسرَارٌ لا يُمكِنُني أن أَذكُرَها، ولا أُسمِّي مَن دَخَلَ في ذلك حتَّى تُشَاورُوا نَائِبَ السُّلطانِ، فإن أَذِنَ في ذلك ذَكَرتُ لك ذلك، وإلَّا فلا يُقالُ ذلك له. وما أَقُولُه فاكشِفُوه أنتم. فاسَتَعجَبُ مِن ذلك. وقال يا مولانا: ألا تُسمِّي لي أنت أَحَدًا؟ فقلت: وأنا لا أَفعَلُ ذلك، فإنَّ هذا لا يَصلُحُ. لكن تَعرِفُون مِن حَيثُ الجُملَةِ أنَّهم قَصَدوا فَسَادَ دِينِكم ودُنيَاكم، وجَعَلوني إمَامًا تَستُّرًا، لَعِلمِهم بأنَّي أُوَالِيكم وأَسعَى في صَلاحِ دِينِكم ودُنيَاكم، وسَوفَ -إن شَاءَ الله- يَنكَشِفُ الأَمرُ”[13]. ويضيف: “وإنَّما الخَوفُ عليكم إذا ذَهَبَ ما أَنتُم فيه مِن الرِّياسَةِ والمالِ، وفَسَدَ دِينُكم الذي تَنَالون به سَعَادَةَ الدُّنيا والآخِرَة. وهذا كان مَقصُودُ العَدُو الذي أَثَارَ هذه الفِتنَةَ. وقُلتُ: هؤلاءِ الذين بمصرَ مِن الأُمرَاءِ والقُضَاةِ والمشَايخِ إخوَاني وأَصحَابي؛ أنا ما أَسَأتُ إلى أَحَدٍ مِنهم قَطُّ، ومازِلتُ مُحسِنًا إليهم، فأيُّ شَيءٍ بَيني وبَينَهم، ولكن لَبَّسَ عليهم المنَافِقون أَعدَاءُ الإسلام”[14]. “وقُلتُ له: هذه القَضِيَّةُ أَكبَرُ مما في نُفُوسِكم؛ فإنَّ طَائِفَةً مِن هؤَلاءِ الأَعدَاءِ ذَهبُوا إلى بِلادِ التتر. فقال: إلى بلادِ التتر؟ فقلتُ: نعم، هُم مِن أَحرَصِ النَّاسِ على تَحريكِ الشَّرِ عليكم إلى أُمورٍ أُخرَى لا يَصلُحُ أن أَذكُرَها لك”[15].
– الاختلاف والتفرق على المسائل الاجتهادية التي يسوغ فيها الخلاف: والتعصب بين أتباع المذاهب، والولاء والبراء على هذه الآراء إلى حدٍّ يَخرُجُ عن الشَّرع. يقول عن ذلك: “وَثَبَت عنه في الصحيحين: أَنَّه عَلَّمَ أَبَا محذورَةَ الإِقَامَةَ شَفعًا شَفعًا، كالأَذان. فمَن شَفَّعَ الإِقَامةَ فقد أَحسَن، ومَن أَفرَدها فقد أَحسَن، ومَن أَوجَب هذا دُون هذا فهو مُخطِئٌ ضَالٌّ، ومَن وَالى مَن يَفعَلُ هذا دُون هذا بمُجرَّدِ ذلك فهو مُخطِئٌ ضَالٌّ، وبِلادُ الشَرقِ مِن أَسبَابِ تَسلِيطِ اللهِ التترَ عليها كَثرَةُ التَّفرُّقِ والفِتنِ بينَهم في المذاهِبِ وغَيرِها؛ حتَّى تَجِدَ المنتَسِبَ إلى الشَّافعي يتَعصَّبُ لمذهبه على مَذهَب أبي حَنِيفَة حتى يَخرُجَ عن الدِّين، والمنتَسِبَ إلى أَبي حَنِيفَة يتَعصَّبُ لمذهبه على مَذهَب الشَّافعي وغيره حتَّى يَخرُجَ عن الدِّين، والمنتَسِبَ إلى أَحمَد يتَعصَّبُ لمذهبه على مَذهَب هذا أو هذا، وفي المغرِبِ تَجِدُ المنتَسِبَ إلى مَالِكٍ يتَعصَّبُ لمذهبه على هذا أو هذا. وكُلُّ هذا مِن التَّفرُّقِ والاختلافِ الذي نهى اللهُ ورَسُولُه عنه. وكُلُّ هؤُلاءِ المتعصِّبِين بالبَاطِل، المتَّبعِين الظَّنَ وما تهوى الأَنفُس، المتَّبعِين لأَهوائِهم بغَيرِ هُدى مِن الله، مُستَحقُّون للذَّم والعِقابِ”، ثم يقول: “فإنَّ الاعتِصامَ بالجَماعَةِ والائِتلافِ مِن أُصُولِ الدِّين، والفَرعُ المتَنَازَعِ فيه مِن الفُروعِ الخَفيَّةِ، فكيف يُقدَحُ في الأَصلِ بحِفظِ الفَرعِ، وجُمهُورُ المتعصبين لا يَعرِفُون مِن الكِتَابِ والسُّنَّةِ إلا ما شَاءَ الله، بل يَتَمسَّكون بأَحَادِيثٍ ضَعِيفَةٍ، أو آرَاءٍ فَاسِدَةٍ، أو حِكَايَاتٍ عن بَعضِ العُلمَاءِ والشُّيوخِ قد تَكون صِدقًا وقد تَكون كِذبًا، وإن كانت صِدقًا فليس صَاحِبُها مَعصُومًا، يَتَمسَّكُون بنَقلٍ غَيرِ مُصدَّقٍ، عن قَائِلٍ غَيرِ مَعصُومٍ، ويَدَعُون النَّقَلَ المصَدَّقَ عن القَائِلِ المعَصُومِ، وهو ما نَقلَه الثِّقَاتُ الأَثبَاتُ مِن أَهلِ العِلمِ، ودَوَّنُوه في الكُتُبِ الصِّحَاحِ، عن النَّبي -صلى الله عليه وسلم”[16].
————————————————–
[1] نزهة الأنام في تاريخ الإسلام، لصارم الدين إبراهيم بن محمد بن أيدمر العلائي، تحقيق د. سمير طبارة، المكتبة العصرية للطباعة والنشر، بيروت- لبنان، ط1/1420هـ- 1999م: ج1/261.
[2] بيان تلبيس الجهمية: ج5/216.
[3] اقتضاء الصراط المستقيم: ج1/418.
[4] بيان تلبيس الجهمية: ج5/408.
[5] مجموع الرسائل والمسائل: ج4/39.
[6] مجموع الرسائل والمسائل: ج1/179- 180.
[7] الصفدية: ج1/236.
[8] مجموع الفتاوى: ج34/205.
[9] الفتاوى الكبرى: ج3/426.
[10] منهاج السنة النبوية: ج4/592.
[11] منهاج السنة: ج5/155.
[12] الفتاوى الكبرى: ج3/546.
[13] مجموع الفتاوى: ج3/215.
[14] مجموع الفتاوى: ج3/216.
[15] مجموع الفتاوى: ج3/217.
[16] الفتاوى الكبرى: ج2/109.