بقلم محمد عمارة
في الوقت الذي يتعرض فيه تاريخنا الإسلامي لحملات شرسة ظالمة، وخاصة تاريخ الفتوحات الإسلامية، علينا أن نلفت الأنظار إلى الكتابات التي كتبها كتاب ومؤرخون غير مسلمين، والتي اتسمت بالموضوعية في رؤية هذا التاريخ.
ومن بين الكتب القبطية التي أنصفت تاريخ الفتوحات الإسلامية – وخاصة الفتح الإسلامي لمصر- كتاب “تاريخ الأمة القبطية” الذي كتبه المؤرخ القبطي “يعقوب نخلة روفيلة” (1847 – 1905م) والذي أعادت طبعه مؤسسة “مار مرقس” لدراسة التاريخ عام 2000م بمقدمة للدكتور جودت جبرة.
وفي هذا الكتاب، وصف للفتح العربي لمصر باعتباره تحريرا للأرض من الاستعمار والقهر الروماني الذي دام عشرة قرون، وتحريرا للعقائد الدينية التي شهدت أبشع ألوان الاضطهادات في ظل الحكم الروماني، وتحريرا اجتماعيا واقتصاديا من المظالم الرومانية التي كانت تفرض على كل مصري ثلاثين ضريبة، منها ضريبة التمتع باستنشاق الهواء!!.
ففي هذا الكتاب نقرأ: “ولما ثبت قدم العرب في مصر، شرع عمرو بن العاص في تطمين خواطر الأهلين، واستمالة قلوبهم إليه، واكتساب ثقتهم به، وتقريب سراة القوم وعقلائهم منه، وإجابة طلباتهم، وأول شيء فعله من هذا القبيل استدعاء البطرك “بنيامين” (39 هـ ، 641م) الذي سبق واختفى من أمام “هرقل” ملك الروم (615 – 641م)، فكتب أمانا وأرسله إلى جميع الجهات يدعو فيه البطريرك للحضور ولا خوف عليه ولا تثريب، ولما حضر وذهب لمقابلته ليشكره على هذا الصنيع أكرمه وأظهر له الولاء وأقسم له بالأمان على نفسه وعلى رعيته، وعزل البطريرك الروماني الذي كان أقامه “هرقل” ورد “بنيامين” إلى مركزه الأصلي معززا مكرما.
وهكذا عادت المياه إلى مجاريها بعد اختفائه مدة طويلة، قاسى فيها ما قاساه من الشدائد، وكان “بنيامين” هذا موصوفا بالعقل والمعرفة والحكمة حتى سماه البعض “بالحكيم”، وقيل إن “عمرو” لما تحقق ذلك منه قربه إليه، وصار يدعوه في بعض الأوقات ويستشيره في الأحوال المهمة المتعلقة بالبلاد، واستعان بفضلاء القبط وعقلائهم على تنظيم حكومة عادلة تضمن راحة الأهالي والوالي معا، فقسم البلاد إلى أقسام يرأس كل منها حاكم قبطي، له اختصاصات وحدود معينة، ينظر في قضايا الناس ويحكم بينهم، ورتب مجالس ابتدائية واستئنافية، مؤلفة من أعضاء ذوي نزاهة واستقامة، وعين نوابا مخصوصين من القبط ومنحهم حق التداخل في القضايا المختصة بالأقباط والحكم فيها بمقتضى شرائعهم الدينية والأهلية، فكانوا بذلك في نوع من الحرية والاستقلال المدني وهي ميزة كانوا قد جردوا منها أيام الدولة الرومانية.
وضرب “عمرو” الخراج على البلاد بطريقة عادلة، وجعله على أقساط في آجال معينة حتى لا يتضايق أهل البلاد، فلم يجب منهم من الأموال أكثر مما صولحوا عليه بغير زيادة أو نقص، ولا في غير آجال غير المضروبة لجمعها وتحصيلها، وصار عمال الدولة يكادون يكونون جميعا من المسيحيين.
وكان على زعماء الناس في القرى أن يجتمعوا لينظروا في حال الزراعة، ويجعلوا جباية المال مناسبة لذلك، فكانوا في ذلك بمثابة لجنة خاصة تجتمع لتقدير مقدار ما يجبى من الأموال، فإذا اجتمع من ذلك المال شيء فوق ما فرض على قريتهم أنفق في إصلاح أحوالها، وكانت تجعل في كل بلد قطعة من الأرض يخصص ريعها لإصلاح الأبنية العامة وصيانتها، وذلك مثل الكنائس والحمامات، وبالجملة فإن القبط نالوا في أيام عمرو بن العاص “راحة لم يروها من أزمان”.
تلك شهادة مؤرخ قبطي للفتح الإسلامي، ترد على افتراءات المفرتين على التاريخ الإسلامي.
(عربي 21)