بقلم د. جاسر عودة
من الدروس القاسية التي تعلمناها من (الربيع) العربي في هذه المرحلة من (الشتاء) العاصف، درس مفاده أن الرهان على الشعوب شرقاً أو غرباً لكي تناصر الثورة وتؤيد التغيير وتحارب الاستبداد، خطأ استراتيجي فادح، خطأ ينم عن عدم وعي بموازين القوى على الأرض وبطبيعة البشر ودرس التاريخ. وهذا لم تظهره فقط وبوضوح صادم حلب ورابعة والفلوجة وأخواتهن، بل هو الدرس السوري والمصري والليبي واليمني وغيرهم في عمومه، بل هو درس التاريخ في صور لعلها أوضح وأبلغ: درس الحسين بن علي بن أبي طالب، وعبد الله بن الزبير، ومحمد النفس الزكية، رضي الله عنهم، وغيرهم كثير من الثوار والمصلحين والأئمة على مدار تاريخ الإسلام ممن ذبحوا بسكين العسكر قرباناً لنظم الاستبداد في بكاء أحياناً وصمت غالباً من الشعوب، والذين ارتكب من عوّل منهم ومن أنصارهم على الشعوب خطأ كبيراً، لأنه حين كشر الاستبداد عن أنيابه وبدأ في قتل الناس لم يثبت من الناس معهم إلا قليل، وقاتلوا جميعاً – كما قاتل الثوار بالأمس القريب في حلب – حتى النهاية المرّة. تقبلهم الله جميعاً في الشهداء، ولكن علينا أن نعي الدرس إن أردنا أن نعاود الكَرَّة أمام الاستبداد.
الدرس هو في طبيعة (الأغلبية الشعبية) أو (أكثر الناس) حسب التعبير القرآني، إذ قال تعالى: (أكثر الناس لا يؤمنون)، و(أكثر الناس لا يشكرون)، و(أكثر الناس لا يعلمون)، و(أبى أكثر الناس إلا كفورا)، و(ما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين)، و(أكثرهم يجهلون)، إلى آخره. خالق الناس يقول لنا إن أغلبية الناس ليست مقياساً للحق وليست عوناً عليه ولا تمتلك العلم ولا الوفاء ولا الإيمان ولا الوعي ولا تريد أن تمتلكه، بل يحكي لنا الرب الكريم قصصاً تبين بالمثال الواقعي كيف أن أغلبية الناس تقف في كل زمان مع الأقوى سلطة وإعلاماً واقتصاداً أياً كان، أي مع صاحب السيف وساحر الكلمة ومالك المال أياً كان. المصريون القدماء مثلاً لم يأتوا ليوم الزينة بنفسية مؤيدة لموسى صلى الله عليه وسلم، ولا حتى بنفسية محايدة، بل قالوا: (لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين). ثم إنهم رأوْا من موسى معجزات مادية هائلة لم يحدث مثلها في التاريخ، وظهر لهم عياناً بياناً صدق موسى وعظمة رسالته، وجبروت الفرعون وهامان وقارون وفسادهم وطغيانهم، ومع ذلك لم تخرج الأغلبية لتأييد موسى ولم تهتم بقتل المؤمنين ولا صلْبهم ولا تعذيبهم: (فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم)، وذرية أي عدد قليل من الشباب. والتاريخ يعيد نفسه في هذا العصر في بلاد الفراعنة وفي بلاد الشام وفي غيرهما.
آن لنا أن لا نُصدم حين نرى الشعوب راقصة تغني للاستبداد على دماء وأعراض وأشلاء أفضل وأنبل وأشرف من فيها، من أجل بقية من فُتات الخبز، وخوفاً من البطش، ورغبة في استمرار ما يعرفون من عادات، وما يكسبون من معايش، وما يمرون فيه من طرق مصبحين وممسين. كم قُتل من الأنبياء، وكم استُضعف من أتباعهم، و(قُتل أصحاب الأخدود)، والرهان على الشعوب رهان خاسر، فلسان حال الشعوب إلا من رحم الله يقول: فليبق الحال الذي نعرفه على ما هو عليه، وليذهب المصلحون إن كانوا ضعفاء إلى الجحيم، أو إلى الجنة إن شاء ربهم، ولتستمر الحياة وتحلو.
ومن صور الرهان الخاطئ على الشعوب الرهان على نتائج صناديق الاقتراع وتوهم أن الشعوب تحرص عليها. آن لنا أن نتعلم أن الديمقراطية قد تساعد في تداول السلطة سلمياً بين محترفي السياسة في المجتمعات المستقرة، تلك المجتمعات التي أنهكتها الحروب في التاريخ القريب وقتلت الملايين منهم، فقرروا أن يتداولوا السلطة بشكل محدود عن طريق (اللعبة الديمقراطية) – على حد تعبيرهم – كائناً ما كانت النتيجة. ولكن هذه (اللعبة الديمقراطية) في بلادنا ليست أبداً وسيلة لاكتساب سلطة حقيقية على الأرض، ولا شرعية سيخرج من أجلها الناس إلى الشوارع ليحافظوا عليها حين تستلب بالقوة. هذا وهم عريض، لأن الديمقراطية لا تعطي قوة على الأرض ولا شرعية حقيقية عند الناس. ولو حدث انقلاب عسكري في بلادنا على الديمقراطية وخرج بعض الناس للشارع كما في حدث في تركيا مؤخراً، فحسم الموقف لم يكن إلا في قوة النفوذ الحزبية في المؤسسات الأمنية والعسكرية، وليس في (إرادة الشعب) كما ادعى محترفو السياسة. ولكن الحقيقة المحض أنه إذا توحدت قوى العنف فعلاً ضد الشعب وسلطته المنتخبة لسحقوا الشعب وفرقوا التظاهرات، كما حدث مراراً من قبل في تركيا نفسها وفي مصر وفي غيرهما كثيراً. وحين خرج بعض الناس للشارع في الحالة المصرية في عامي 2011 و 2013 وفي غيرهما من (المليونيات) فإن المواقف لم تحسم إلا بيد أصحاب السلطة الخشنة، الذين ينسج لحسابهم سحرة الإعلام واقعاً جديداً من خيوط الوهم ويسوِّقونه بين الناس، ولكن أصحاب السلطة الخشنة على الأرض يستغلون كل فرصة سانحة من أجل القيام بانقلابات وتصفية حسابات داخلية بينهم كما حدث في عامي 2011 و 2013. وحين خرج الناس في الشوارع في سوريا مطالبين ببساطة وعفوية بالحرية والكرامة، ورغم كل ما حدث من الأحداث والتعقيدات، فإن المواقف إلى الآن لم يحسمها إلا الطغاة المستبدون، ولو باعوا الأرض والعرض من أجل السلاح، ولو زال الوطن حتى يبقوا هم في السلطة ولو اسمياً وشكلياً، وسيذكر التاريخ كم خرج أمس من أهل الشام حاملين صور قيصر روسيا المعاصر بعد أن خربت جيوشه بلادهم وقتلت أطفالهم واغتصبت نساءهم! وشر البلية ما يضحك.
ومن صور الرهان الخاطئ على الشعوب الرهان على الاقتصاد، بمعنى أن يراهن من يراهن واهماً على أن الاقتصاد في بلد ما إذا خرب فإن (ثورة الجياع) ستجتاح الاستبداد وتسقطه، وهذا وهم كبير أيضاً. فالتجارب التاريخية والمعاصرة تثبت لنا أن الشعوب التي اعتادت الاستبداد ونظام الطبقات الاجتماعية الظالمة عندها قدرة على تحمل الجوع إلى أبعاد عجيبة، وعلى تحمل خسارة العملة المحلية إلى عشرات بل ألوف الأضعاف، ولا يغير ذلك من الواقع شيئاً، إلا احتجاجات هنا أو هناك. وما دام الاستبداد محافظاً على الحد الأدنى من الذكاء فيرمي للناس عظاماً أو كسرات خبز هنا أو هناك حتى لا يموتوا جوعاً بالفعل، وما دام الاستبداد يشجع التصوف الكاذب حتى يخدر الناس ويحضهم على شكر المنعم (الذي هو المستبد وليس الله تعالى)، وما دام الاستبداد يقسم الناس شيعاً وطوائف حتى يشغل الناس ببعضهم وبصراعات إيديولوجية فارغة، وما دام الاستبداد يمجد الوطن والأرض والعَلَم ويوظف الفن والتعليم والرياضة في أن يعيش الناس أوهام المجد والفَخَار الفارغة، وما دام الاستبداد جاعلاً ممن يحاول الاعتراض عليه مُثْلة وعبرة لمن يعتبر، وما دام الفسق والإلحاد والمخدرات في كل مكان … فلا خطر ولا ثورة. والفرعون قديماً (استخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوماً فاسقين).
أما سؤال: إذن ماذا نفعل؟ وإلى ماذا نستند؟ فجوابه موضوع طويل عريض ولنا له عودة، ولكن خلاصة القول هو أن القرآن – ويؤيده مثال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم – يعلمنا أن التغيير الحقيقي لا يأتي من حراك الجماهير دون قيادة، قيادة واحدة مؤمنة قوية على الأرض وتمتلك استراتيجية واقعية وواعية وتوفيقاً إلهياً يحين وقته ويظهر رجاله، هي ثلة من الشباب تقودها قيادة رائعة من الكهول، ولكنهم شباب وكهول ذوي كفاءات وصفات ومؤهلات خاصة، ولهم استراتيجيات خاصة، وتصل قوتهم إلى كتلة حرجة – حقاً لا وهماً – تؤهلها لكي تغير الواقع وتنتصر، بل وتحافظ على النصر. (وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم). والحديث ذو شجون وله بقية إن شاء الله.
المصدر: الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.