قراءة في كتاب (فقه الزكاة) للعلامة الدكتور يوسف القرضاوي
عرض عصام تليمة
تكثر الأسئلة في شهر رمضان عن فريضة الزكاة، سواء زكاة الفطر، أم الزكاة بكل أنواعها: الثروة المالية، والحيوانية، والزراعية، وغيرها، ومن أهم الكتب التي يرجع إليها المختصون في أحكام الزكاة، كتاب: (فقه الزكاة) للعلامة الدكتور يوسف القرضاوي، وهو كتاب لا يستغني عنه طالب علم يبحث في موضوع الزكاة، وما يتعلق بها، لأنه يجمع بين التأصيل الفقهي والتناول المعاصر للزكاة.
وقد صدر في جزأين كبيرين، وهو دراسة موسوعية مقارنة لأحكام الزكاة وأسرارها وآثارها في إصلاح المجتمع، في ضوء القرآن والسنة، ويعد من أبرز الأعمال الفقهية في عصرنا، ولو أن القرضاوي لم يؤلف في حياته كلها سوى كتابين: (فقه الزكاة) و(فقه الجهاد) لكفاه علميا أن يكتب اسمه في عداد الفقهاء الكبار.
وكان الدافع وراء اختياره الموضوع هو: خلو المكتبة الإسلامية عن كتاب معاصر عميق موسع عن الزكاة وأحكامها وفلسفتها، ورأي أن هذا الموضوع يحتاج إلى بحث، ومن ناحية أخرى وجد سوء فهم بين الكثيرين حول الزكاة، فقد ذكر الأستاذ خالد محمد خالد ـ رحمه الله ـ في كتابه “من هنا نبدأ” عن اشتراكية الصدقات ويرمز بهذا إلى الزكاة.
وكتب الصحفي المشهور أحمد بهاء الدين ـ رحمه الله ـ في صحيفة أخبار اليوم الأسبوعية قائلا: إن الزكاة لا تصلح في النظام الحديث لأن النظام الحديث يعتمد على العمل والإنتاج وليس على الصدقات، كأنه يرى أن الزكاة هذه للمتسولين ومعونة للكسالى والمتبطلين.. إلخ فهذا ما دفع الشيخ إلى اختيار هذا الموضوع.
قصة الكتاب:
لهذا الكتاب ـ خصوصا ـ قصة، فقد كان في الأصل الرسالة التي سينال بها الدكتوراه، ونذكرها للقارئ هنا لأهميتها يقول الشيخ عن قصة الكتاب:
كنت قد تقدمت بالموضوع على أساس أن يكون رسالتي في الأستاذية كما كانت تسمى آنذاك، بعد أن أنهيت السنوات الثلاث في كلية أصول الدين، وكان الموضوع عنوانه: “الزكاة في الإسلام وأثرها في حل المشاكل الاجتماعية” وأذكر أني حينما أصدرت كتابي: “الحلال والحرام في الإسلام”، وأهديت نسخة منه إلى مشرفي الشيخ أحمد علي ـ رحمه الله ـ في كلية أصول الدين، فقرأه وتصفحه ثم قال لي: لماذا تعجلت في إخراج هذا الكتاب؟ قلت: ولماذا؟ قال: كنت تُقدمه وتحصل عليه الأستاذية. قلت: أنا أريد أن أقدم بحثا ضخما وأبذل فيه جهدا. فقال: يا رجل، المطلوب الآن أن تأخذ رخصة حتى يكون اسمك الدكتور يوسف القرضاوي، وبعدها ألف ما تشاء.
وكان مخلصا ولم يتبين لي صدق كلامه وصوابه إلا بعد ما عانيت بعد ذلك في هذه الرسالة لأن مشايخ كلية أصول الدين أتعبوني جدا، وقالوا في بداية الأمر إن هذا فقه وهو أليق بكلية الشريعة وليس بكلية أصول الدين.
قلت: هذا فقه القرآن والسنة ونحن كليات القرآن والسنة ولا مانع من أن نشترك مع كلية الشريعة في بعض الأمور، أليست هناك آيات الأحكام تدرس في الكليتين وهناك فقه الحديث؟ كما أن هناك علم اختلاف الحديث وعلم الناسخ والمنسوخ هذه علوم من علوم الحديث، ومع ذلك تدرس في الكليتين فتعبت معهم وخاصة بعد وفاة الشيخ علي عام 1962م، فأصبحت حائرا بين المشرفين، وكنت آنذاك في قطر حيث جئت إليها مبعوثا من الأزهر الشريف لإدارة المعهد الديني عام 1961م.
وقد كان بعضهم متحفظا على التجديد الذي في الكتاب، حتى إن أحد المشايخ كتب إلى الشيخ عبد الحليم محمود عميد كلية أصول الدين، وذلك على ما أعتقد في سنة 1963م كتب إليه قائلا: أرجو أن تعفيني من الإشراف على رسالة الطالب يوسف القرضاوي، لأنها تتضمن آراء دينية خطيرة لا أستطيع تحمل مسؤوليتها. يقصد مسؤولية الآراء الاجتهادية فيها، هذا مع أن المشرف لا يتحمل آراء الطالب، فالطالب هو المسؤول عن آرائه.
ثم قدمت الموضوع للكلية سنة 1960م وبدأت العمل والكتابة فيه، وفي سنة 1961م جئت إلى قطر، وكان من المفروض أن أقدم الرسالة في عام 1964م للمناقشة، ولكن طبعا المشايخ لم يقبلوا ـ كما سبق ـ وفي سنة 1965م حدث ما حدث في مصر للإخوان، وكان من فضل الله علي أني بقيت أصول الكتاب عندي فقلبت فيه، وأعدت النظر في كثير من الأشياء، وأخذت أعمق البحث إلى سنة 1969م ولم أنزل إلى مصر طوال الفترة من سنة 1964م إلى سنة 1973م بسبب الظروف السياسية.
ثم نشر الشيخ القرضاوي كتابه: (فقه الزكاة)، بعد أن أصابه اليأس من حصوله على الدكتوراه في الموضوع، يقول القرضاوي: وفي سنة 1972م وهي أول مرة أخرج فيها من قطر للمؤتمرات في هذه السنة ذهبت إلى ليبيا، وبدأت هناك في مؤتمر التشريع الإسلامي والتقيت بالشيخ أبي زهرة والشيخ علي الخفيف وبعض مشايخ الأزهر، وقالوا: لماذا لا تأتي وتقدم في الأزهر، وكان الشيخ أبو زهرة قد اطلع على كتابي، وقال: أنت صاحب كتاب فقه الزكاة؟
وفي الحقيقة لم أكن قد قابلت الشيخ أبو زهرة وجها لوجه، لأنني بعد ما خرجت من المعتقل سنة 1956م بدأنا نحاول أن نعمل ولم نجد العمل المناسب، ولم يقدر لي أن أرى الشيخ أبا زهرة، المهم شجعني المشايخ على القدوم على مصر مرة ثانية، وجئت وشاء الله تعالى أن يُصْدِر الشيخ عبد الحليم محمود شيخ الأزهر في ذلك الوقت قرارا لتمديد فترة الرسالة إلى 12 سنة فشملني القرار، ونوقشت رسالتي والحمد لله، وهي عن (الزكاة) وقد استللتها من كتابي (فقه الزكاة). تلك قصة الكتاب كما حكاها القرضاوي لنا، وكتبها في مذكراته تفصيلا، وقد ذكرناها اختصارا.
شهد المختصون أنه لم يؤلف مثله في موضوعه في التراث الإسلامي، وقال عنه العلامة أبو الأعلى المودودي ـ رحمه الله ـ: إنه كتاب هذا القرن (أي الرابع عشر الهجري) في الفقه الإسلامي.
وقال عنه الأستاذ محمد بن المبارك في مقدمة كتابه عن (الاقتصاد) من سلسلة (نظام الإسلام): (… وهو عمل تنوء بمثله المجامع الفقهية، ويعتبر حدثا هاما في التأليف الفقهي). وقد قال أحد العلماء: لو لم يؤلف القرضاوي سوى (فقه الزكاة) للقي الله وقد قدم خدمة علمية للإسلام وأهله.
قام الشيخ القرضاوي في هذا الكتاب بجهد رائع، حيث جمع كل ـ أو جل ـ النصوص والأقوال والآراء التي في باب (الزكاة) ثم ناقش ونقح ورجح دون عصبية لرأي أو لمذهب، وقدم أسلوبا جديدا في الفقه، حيث يربط الحكم الفقهي بالفلسفة المكنونة وراء هذا الحكم.
ويبرز في الكتاب خاصية مهمة من خصائص القرضاوي الفقيه، وهي خاصية: الاجتهاد، فقد مارس في هذا الكتاب الاجتهاد بنوعيه: الإنشائي والانتقائي، كما يتضح ذلك في الكتاب، ولا مجال هنا لتناول القضايا التي تناولها الشيخ واجتهد فيها.
من الظلم للقرضاوي وموسوعته (فقه الزكاة) أن نشير إلى مواضع التجديد، أو مواضع الإبداع الفقهي، فلا يمكن لمقال مختصر أن يتسع لذلك، ولو مجرد ذكر العناوين، فالكتاب ناطق وشاهد بغزارة علمه، وتمكنه وتضلعه من الفقه الإسلامي بمدارسه الفقهية المختلفة، سواء السنية منها أم غير السنية، بل كذلك اطلاعه على كتاب المحاسبة والمالية والضرائب، والاقتصاد.
وقد سئل الشيخ حول كتابه (فقه الزكاة)، وهل غير من آرائه فيها، فأجاب: نعم، منها على سبيل المثال رأي في زكاة الأسهم، حيث أرى الآن أن الواجب إخراج العشر 10% من الأرباح الحقيقية، في حين كان رأيي غير ذلك وهذا الشيء طبيعي لكل فقيه قديما وحديثا، فكل الأئمة لهم آراء قديمة وآراء جديدة كما هو معروف. ولكن هذا قليل، ومعظم آرائي لا أزال متمسكا بها مقتنعا بضوابطها، وإن لم يوافقني الكثيرون عليها، شأن كل اجتهاد جديد.
يحتاج كتاب (فقه الزكاة) للقرضاوي، إلى نسخة مختصرة منه، كي يكون مناسبا للقارئ غير المختص، فكتاب في مجلدين كبيرين لا يستفيد أو يطلع عليهما سوى المختص، لكن لو تم اختصاره إلى كتاب في مائتي صفحة على الأكثر، يكون أكثر نفعا، وقد حدثني شيخنا أنه قام بالفعل باختصاره، ولكن الاختصار ضاع منه، من جملة ما ضاع من كتابات الشيخ للأسف، ولعل أحد تلامذته يقوم بهذا الاختصار النافع، كما قام بعضهم باختصار بعض كتبه، ومنها: (فقه الجهاد).
(المصدر: عربي21)