طبائع الحكم مع ابن خلدون 4- السلطة تنتزع بالحرب
بقلم محمد إلهامي
لماذا تسيل الدماء عند كرسي الحكم؟!
أليس الحكم تكليفا لا تشريفا؟ ومسؤولية لا وساما؟!
لماذا يقول الزعماء هذه الجملة الثانية بينما لا يترددون في خوض الحرب بكل شراسة للظفر بالسلطة؟!
ألا من وسيلة أخرى إلى كرسي السلطة بغير وسيلة الدماء؟
”الملك منصب شريف ملذوذ يشتمل على جميع الخيرات الدّنيويّة والشّهوات البدنيّة والملاذّ النّفسانيّة فيقع فيه التّنافس غالبا وقلّ أن يسلّمه أحد لصاحبه إلّا إذا غلب عليه فتقع المنازعة وتفضي إلى الحرب والقتال والمغالبة”
السلطة أمر يجتمع فيه اللذة والضرورة، الضرورة أمرها واضح يعني لولا السلطان لم يجتمع الناس، لم يقم عمران، لم تحدث تجارة، لم يحدث تواصل طبيعي، الناس بطبيعتهم بحاجة لسلطان كما هم بحاجتهم إلى حياة، لأن السلطان يوفر لهم الأمن؛ حتى الكوارث الطبيعية، الكوارث الطبيعية مثل المطر الرياح الزلازل، كل هذا حين تكون هناك سلطة يستطيع الناس أن يواجهوا أو يتعافوا من آثار هذه الكوارث بشكل أفضل يحتاجون معها هذه السلطة، ولا يصلح أن يكونوا بغير سلطة، هذا فضلا عن الأعداء الخارجيين المدافعة لا تتم إلا بوجود سلطة، انتظام الأعمال والتجارات لا يتم إلا بوجود سلطة، سيدنا عبد الله بن مسعود يقول: ”لابد للأنام من وزعة، لأن الناس فيها نزعة تظالم” [الحَسَنِ لَمَّا وَليَ القضاءَ قَالَ: لَا بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ وَزَعةٍ – ابن منظور، لسان العرب –] [وقال ابن عون : سمعت الحسن (البصري) يقول وهو في مجلس قضائه لما رأى ما يصنع الناس قال : والله ما يصلح هؤلاء الناس إلا وزعة]؛ كما يقول المتنبي:
الظُلمُ مِن شِيَمِ النُفوسِ فَإِن تَجِد … ذا عِفَّةٍ فَلِعِلَّةٍ لا يَظلِمُ
الجاحظ مثلا يقول: ”لولا السلطان لأكل الناس بعضهم بعضا، كما انه لولا الراعي لأتت السباع على الماشية” فوجود السلطان في حد ذاته ضرورة لوجود حياة الناس، ومن هذا تعلم أن المسلمين أجمعوا على نصب الخليفة، المسلمين اجمعوا على نصب الخليفة، حتى أن فرقة من الخوارج خالفت في هذا فقالت: ”إذا تناصف الناس، فنصب الخليفة ليس بواجب”، وهذا شرط مستحيل لأن الناس بطبيعتهم لا يتناصفون، هذا هو قدر الضرورة أنه لابد من سلطان ليكون هناك عمران وحياة وتواصل وتجارة، وليحتمي الناس من أنفسهم ومن غيرهم؛ الأمر الثاني أن السلطان هو موضع اللذة، السلطان هو منتهى اللذائذ والغرائز، فلذلك السلطان هو أقوى شهوة، أقوى من النساء، وأقوى من المال، وأقوى من الشهرة، وكل هذه الأشياء معا وهو فوقها جميعا لذلك قيل: ”آخر ما يخرج من قلوب الصالحين حب الرئاسة” إنه أمر شديد، والإمام سفيان الثوري المحدث المعروف كان يقول: ”ما رأيت الزهد في شيء أقل منه في الرئاسة، ترى الرجل يزهد في المطعم والمشرب والمال والثياب، فإن نوزع الرئاسة حامى عليها وعادى”؛ فالسلطة بطبيعتها هي منتهى اللذائذ والغرائز، فلأجل هذا فالسلطان المتمكن عادة ينزع إلى الألوهية والربوبية، يعني فرعون لما تمكن قال : ﴿… أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ (24)﴾ وقال: ﴿… مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرِي … (38)﴾؛ منتهى اللذائذ البشرية حين يصل الإنسان إلى السلطة، يكون بيده كل شيء، ينزع إلى الخضوع الطوعي من الناس له، ينزع إلى أن يعبدوه، وأن يعبدوه ويطيعوه حبا ورغبة وكرامة، فهذا أمر ليس خاصا بفرعون، يعني بالمناسبة كل الحضارات كان الملوك والأباطرة فيها يصفون أنفسهم باعتبارهم من نسل الآلهة، أو أنهم أنصاف آلهة، أو أشباه آلهة، أو على الأقل أنهم تولوا موقعهم هذا بإرادة ورغبة الآلهة، وهذا أمر لا ينبغي أن ينازع فيه؛ فالسلطان هو منتهى اللذة البشرية، وبداية طموح الإنسان إلى هذا التأله والتسلط، فلأجل هذا تقع فيه المنافسة، وقلّ أن يسلمه أحد إلى صاحبه، إلا إذا غلب عليه؛ والسلطان لا يقبل الشركة، حتى إنه سيدنا عمر رضي الله عنه في سقيفة بني ساعدة لما قال حباب بن المنذر رضي الله عنه: ”مِنَّا أمِيرٌ، ومِنكُم أمِيرٌ” سيدنا عمر قال: ”سيفان في غمد لا يجتمعان”، وقالت العرب: ”مَنْ مَلَكَ اسْتَأثَرَ”، حتى أنه البيت الشعري المشهور لـ عمر بن أبي ربيعة وهو يقول:
وَاِستَبَدَّت مَـــرَّةً واحِـدَةً … إِنَّما العـاجِزُ مَن لا يَستَبِدْ
السلطان بطبيعته موجب لهذه الأثرة، ولذلك قالت العرب: ”الملك عقيم”، والتاريخ مليء بأخبار انقلاب الأبناء على الآباء، وقتل الآباء للأبناء، والنزاع بين الإخوة وأبناء العم في سبيل السلطان، فهي مسألة السلطان مسألة فوق كل اعتبارات أخرى، لذلك السلطة لا تنتزع إلا بالحرب، السلطة لا تنتزع إلى بالحرب لأنه لا أحد يسلمها لصاحبه، قد يسأل واحد ويقول ولكن نحن نرى في أوروبا وفي غير أوروبا حتى في الدول الملكية ربما ينتقل الملك من واحد إلى آخر بدون حصول فوضى، يعني ليس كل ملك حصل على هذه السلطة بالفوضى وبعد الحرب؛ لهذا يقول ابن خلدون الآتي:
”وهذا الأمر بعيد عن أفهام الجمهور بالجملة ومتناسون له لأنّهم نسوا عهد تمهيد الدّولة منذ أوّلها وطال أمد مرباهم في الحضارة وتعاقبهم فيها جيلا بعد جيل فلا يعرفون ما فعل الله أوّل الدّولة إنّما يدركون أصحاب الدّولة وقد استحكمت صبغتهم ووقع التّسليم لهم والاستغناء عن العصبيّة في تمهيد أمرهم ولا يعرفون كيف كان الأمر من أوّله وما لقي أوّلهم من المتاعب دونه”
هنا يلفت ابن خلدون النظر إلى التفريق بين زمنين، زمن إنشاء الدولة وزمن تمهد وتمكن أمر الدولة، ”السلطة تنتزع بالحرب” أي النظام، النظام الذي يحكم لابد أنه صنع هذه الدولة، صنع حكم هذا النظام بالقوة، بعد حرب بعد انقلاب عسكري بعد احتلال بعد ثورة وهكذا، هذا لابد أن يكون بالحرب؛ إنما إذا تمهد أمر هذا النظام، الغالبون الأوائل الذين غلبوا بالحرب يضعون نظام انتقال السلطة بالسلم، ولأجل هذا صحيح ليس كل ملك وصل إلى السلطة بالحرب، ولكن كل دولة كل نظام كل حكم قام في أصله على الحرب، وهؤلاء المنتصرون في الحرب هم الذين وضعوا قواعد هذا الانتقال، فلأجل هذا يغفل الناس عن رؤية هذا المظهر البراق للحضارة الغربية، الحضارة الغربية التي تتم فيها تداول السلطة بشكل يبدوا سلميا وسلسا، لا ينتبه الناس لأن هذا النظام إنما تأسس وتمهد في البداية بعد ثورات وبعد ثورات دموية وبعد حروب أهلية وبعد تحرر من الاحتلال، وأمور ضخمة خاض فيها المجتمع الغربي وخاضت فيها هذه البلاد حتى لما تمكن لهم الأمر صاروا يستطيعون أن يتداولوا في هذه السلطة سلميا، وهم في هذا بالمناسبة لا يختلفون كثيرا في المعنى العام عن الدول الملكية والدكتاتورية، لأن الدول الملكية والدكتاتورية أيضا ينتقل فيها الحكم من ملك إلى الذي يليه إلى الذي يليه ببساطة طالما أن الأمر مستقر، إنما الحديث هنا عن إنشاء عن تغيير النظم ومع ذلك فالغربيون أنفسهم أيضا لديهم شك في أن هذه الديموقراطية قد تكون حقيقية وفي أن هذا التداول السلمي للسلطة هو تداول حقيقي، وفي هذا الباب يمكن أن نراجع كتاب مثل ”أفضل ديمقراطية يستطيع المال شراؤها” لصحفي اسمه جريج بالاست (Gregory Allyn Palast) وكتاب ”السيطرة الصامتة” للباحثة الانجليزية نورينا هيرتس (Noreena Hertz)، وغيرهم كثير إنما هذا المعنى يتحدثون عن أن الديموقراطية في الحقيقة يتحكم بها أصحاب النفوذ والأموال الذين يستطيعون أن يتحكموا بمسرح الديموقراطية، يستطيعون تمويل الحملات الإعلامية للمرشحين، وبالتالي يستطيعون تحديد المرشحين، ومن خلال نفوذهم في الأعمال والأموال يستطيعون أن يؤثروا في القوانين، القوانين التي تخدم مصالحهم، وبالتالي في الحقيقة ان مسرحية الديموقراطية هي مسرحية يشارك فيها الجمهور بينما اختياراته محددة سلفا، وحتى لو لم نصدق هذا، يعني حتى لو لم نصدق أن مراكز القوة الحقيقية في الغرب موجودة خلف الستار، دعنا لا نصدق هذا، حتى النظام الديموقراطي نفسه ليس اختيارا شعبيا، والدليل على ذلك كما ينظر كثير من الفلاسفة مثل كارل شميت (Carl Schmitt) في كتابه ”اللاهوت السياسي”، وجورجو أغامبين (Giorgio Agamben) في كتاب ”حالة الاستثناء”، النظام السياسي قائم على فكرة يظهر عواره في زمن حالة الاستثناء، يعني حالة الطوارئ، يقولون أنه في حالة الطوارئ السلطة تستبد بالأمر، تعلن حالة الطوارئ، تعلن الأحكام العرفية، وتتصرف بدون الرجوع للشعب، وتتصرف بدون التقيد بالقوانين التي وضعها ممثلوا الشعب ووافق عليها الشعب، وبالتالي السلطة طالما أن لديها القدرة والإمكانية أن تعلن حالة الطوارئ هي التي تحدد حالة الطوارئ، وهي التي تعلنها، وهي التي تتحكم متى تنهيها، فحيث أنه توجد سلطة لديها هذه القدرة على أن تحكم الناس حكما مطلقا، في الوقت الذي تريده وتحدده، وتتخذ الإجراءات التي تنفرد بها وتحتكرها، وهي التي تحدد متى تنتهي حالة الطوارئ، فالسلطة في الحقيقة هي التي تملك السيادة وليس الناس، لأن السلطة تتصرف تصرفا ذاتيا، فهنا المعنى المقصود أن هذه الصورة البراقة الموجودة في الحضارة الغربية أو حتى الموجودة في بعض الدول الدكتاتورية من أن الأمور مستقرة، والسلطة فيها تتداول بسلمية، إنما هذا هو في لحظة تمهيد وتمكن واستقرار هذا النظام، أما محاولة تغيير نظام إنشاء نظام فلا يكون هذا بغير الحرب، الدول والسلطة لا تنشأ ولا تنتزع بغير الحرب.
للشاعر أحمد شوقي قصيدة جميلة يمدح فيها رسول الله ﷺ، هي قصيدة مشهورة وفيها يقول عن النبي ﷺ:
وكان بيانُه للهدْيِ سُبْلاً
وكانت خَيْلُه للحق غابا
وعَلَّمنا بِناءَ المجْدِ، حتى
أخذنا إمْرَةَ الأرضِ اغتصابا
وما نيلُ المطالب بالتمنِّي
ولكن تؤخذُ الدنيا غِلابا
وما استعصى على قومِ مَنالٌ
إذا الإقدامُ كان لهم رِكابا
(المصدر: موقع البوصلة)