مقالاتمقالات مختارة

تونس بين العلمنة القهرية والحداثة

تونس بين العلمنة القهرية والحداثة

بقلم الصّحبي الماجري

ليس مهمًا أن تدخل الحمير الجامعة. المهم هو ألا تخرج منها بشهادة جامعية. الدكتور سليمان حزين أول رئيس لجامعة أسيوط

تجرّأْ على أن تعرف! (Sapere aude) كنْ جريئًا في استعمال عقلك أنت! ذاك شعار الأنوار. كانط ما هي الأنوار؟

إن الحداثة التي تشكلت على المنهج الديكارتي الذي يدعو إلى الشكّ والنّقد واختبار (الشكوكية σκεπτικός من معانيها وضع كل شيء موضع اختبار وامتحان للتأكد من يقينيته فالشكوكي هو من يمتحن) صحّة المسلّمات باستدعائها أمام محكمة العقل، لا يمكن أن تُبرر حالة الوثوقية التي تحيط ببعض النخب التونسية حول مفهوم الحداثة وسبل تحقق التحديث في المجتمع التونسي والتي ارتفع صوتها مؤخرًا في بعض الفضاءات الإعلامية لتبشر بحداثة الاقصاء والتطهير لكل صوت مختلف في إدراكه لمعنى الحداثة أو في تمثلها لها خاصة في مستوى العلاقة مع الهوية. فالحداثة تحولت عند هؤلاء لوثوقية مدمرة تمنع كل إمكان لتحقيق نهضة فكرية وسياسية في المجتمع التونسي تؤسس لأفق التنوع والاختلاف داخل الوحدة (وحدة المجتمع ذاته). كما تحولت أيضًا لبوق دعاية مجانية للهيمنة الاستعمارية التي ظن الشعب التونسي أنه تحرر منها لحظة حصول تونس على الاستقلال سنة 1956، بل وصل الأمر حد دعوة المستعمرة القديمة لتونس للتدخل العسكري فيها حماية للشعب من أعداء الحداثة النموذجية التي يريد هؤلاء تكريسها طبقًا للنموذج الغربي الاستعماري، وليس النموذج الغربي الحداثي الأصيل الذي انحرف عنه الغرب الاستعماري وخاصة اللائكية الفرنسية التي تحولت لاستعمار متوحش لم يزل يمارس تلك الوحشية لليوم مانعًا كل الدول التي كانت تحت الاستعمار الفرنسي من الخروج من التبعية نحو التحرر الحقيقي وامتلاك الإرادة الذاتية في الفعل خارج الفلك الثقافي الفرنسي الذي يمثل اليد الطويلة للاستعمار الفرنسي الجديد.

إنهم أبناء الاستشراق وجنوده الطائعين، والاستشراق يخضع دومًا لاعتبارات تبعده عن الحيادية والموضوعية كالرغبة في السيطرة والاستعلاء أو التمركز حول الذات، إلى جانب الصور النمطية للشرق في العصور الوسطى التي يتداخل فيها الخيالي مع الواقعي. (بغداد شهرزاد ليست بغداد هارون الرشيد، بل هارون الرشيد ألف ليلة وليلة ليس نفسه هارون الرشيد شارلمان كما جسده الرسام يوليوس كوكرت عام 1864في لوحة استقبال سفراء شارلمان). فالاستشراق معرفة من أجل السيطرة والقدرة وهو تعبير عن القوة التي يمارسها الغرب للسيطرة على الشرق وما المؤسسات الاجتماعية والثقافية والسياسية الممولة من قبل الغرب إلا استمرار وتحقيق لتلك الرؤيا (نضيف المؤسسات التبشيرية التي تشتغل اليوم في تونس والجزائر (طرد بعضها من هناك) وغيرها والغريب أن فرنسا اللائكية تمولها). لذلك نجد النخب الحداثية الاستشراقية تدافع ببسالة لا نظير لها عن مصالح فرنسا في تونس مثلًا باعتبارها حامية قيم الحداثة عندهم (الحداثة الاستعمارية وليست الحداثة الحقيقية بما هي ثورة فكرية لتحرير العقل من كل أشكال التبعية). إنهم وكلاء الاستعمار الجديد.

إن العلمانية القهرية (ذات الطابع الشمولي) التي يدافع عنها هؤلاء لا علاقة لها بالعلمانية التي ظهرت مع الثورة الإنجليزية والأمريكية، والتي تدعو للفصل بين الكنيسة والدولة بسحب القداسة عن الدولة وإرجاع المشروعية والشرعية للإنسان حتى لا يكون الحاكم ظل الله على الأرض فيصعب محاسبته وسحب التفويض منه. (لقد اعتبر عمر بن الخطاب نفسه مستمدًا للشرعية من الناس وليس من الله، واعتبر أن عزله وبقائه بيد مواطنيه، وهم المؤمنون، ولذلك سمي أمير المؤمنين، وليس خليفة الله أو خليفة رسول الله) واعتبرت العلمانية الجزئية الدين شأن خاص له مكانته في الفضاء العام دون أن يتدخل فيه. أما العلمانية القهرية فتتبنى نموذج أحادي الخط للتطور البشري فمسار التاريخ بالنسبة لها واحد لكل الشعوب ويصل ذروته حين تتبنى كافة الشعوب النموذج الحضاري الغربي. فنهاية التاريخ تتطلب تحقق هذا التمشي التاريخي ولذلك تحاول السلفية العلمانية في المجتمع التونسي فرض النموذج السياسي، والثقافي، والاجتماعي، والاقتصادي الغربي (الفرنسي خاصة) بكل الطرق والوسائل، ولو أدى الأمر للسيطرة على السلطة بالقوة أو التحالف مع المستبد كما كان حاصل في فترة ما قبل الثورة حيث كان الكثير ممن سمعنا أصواتهم أخيرًا من الحداثيين أكبر منظري ومفكري الديكتاتور، بل إن كل لوائح مؤتمرات التجمع الدستوري الديمقراطي (الحزب الحاكم قبل الثورة) شاهدة على ذلك إلى جانب ترأسهم لأغلب الصحف التي كانت تبشر بفكر صانع التحول (مفهوم الصانع في الفلسفة الإسلامية يشير إلى الله – يمكن العودة لكتاب فصل المقال لابن رشد – ومعهم أصبح تأليه لصاحب السيادة بن علي). لقد نصبوا أنفسهم ولا يزالون أوصياء على الشعب الذي يصفونه بعد كل انتخابات بالجاهل ولأنه كذلك فهو بحاجة لوصايتهم عليه حتى يحققوا له التحديث والتنوير أو حسب شعارهم الأخير التحرير والتنوير ولكن بأي معنى؟

يقول تودوروف في كتابه روح الأنوار ص 10: «لقد قام هذا المشروع (يقصد الأنوار) على ثلاث أفكار ما انفكّت تنمو وتتطوّر أيضًا بحكم نتائجها التي لا تحصى وهي الاستقلالية والغائية الإنسانية لأفعالنا والكونية». فهل يمكن أن نتحدث عن الاستقلالية في ظل دعوة من يرفعون شعار التحرير والتنوير إلى العودة لدولة الاستبداد كنموذج للدولة الحداثية لسبب وحيد بالنسبة لهم وهو أنها دمرت الإسلام السياسي أو الإخوانجية على حد قولهم؟ ألا يتناقض ذلك مع جوهر الحداثة نفسها وجوهر التنوير الذي عرفه كانط باعتباره تحرر للعقل من كل سلطة من خلال قوله: «إن بلوغ الأنوار هو خروج الإنسان من القصور الذي هو مسؤول عنه، والذي يعني عجزه عن استعمال عقله دون إرشاد الغير». فهل يمكن لمن يبشر بالعودة للاستبداد أن يكون مبشرا بالتنوير فما بالك بالتحرير؟ إن النخب الحداثية بتحالفها مع دعاة العودة للاستبداد وضرب المشروع الديمقراطي في تونس، إنما يضعون أنفسهم في خط مواز للحداثة لا يمكنه أن يلتقي معها أبدًا. إن الأنوار والحداثة تحرير للإرادة الإنسانية من كل أشكال الهيمنة والسيطرة ودعوة لاستعمال العقل بشكل يرتقي بالإنسان في سلم الحرية دحرًا لكل استبداد واستغلال وهيمنة واستعباد.

لقد انحصرت الحداثة عند هؤلاء في معاداة صريحة للهوية الحضارية للشعب وخاصة للدّين بشكل مباشر وصريح حيث لم يتمكنوا من الفصل بين الحركات السياسية ذات المرجعية الدينية والدّين ذاته ولكن هل جاءت الحداثة لتنسف الدين من الجذور؟ يقول تودوروف في نفس الكتاب ص11: «لهذا ستوجّه أكبر الانتقادات إلى الدّين بالذات قصد فتح إمكان للبشرية حتّى تأخذ مصيرها بيدها. لكنّها انتقادات ذات هدف محدود ومضبوط مسبقًا فما كان النّاس يرفضونه بالتحديد هو أن يظلّ المجتمع والفرد خاضعين إلى قواعد تستمدّ مشروعيتها فقط من نسبة تقاليد معيّنة إلى الآلهة أو إلى الأجداد.. لقد كان النقد موجّها إلى بنية المجتمع لا إلى مضمون المعتقدات.. لقد انخرط مفكرو الأنوار في معاينة معتقدات العالم بأسره ووصفها، ولم يكن هدفهم من وراء ذلك رفض الأديان، بل هدْي النّاس إلى موقف يتّسم بالتسامح وحثّهم على الدفاع عن حرية المعتقد». يبدو أن مشروع التنوير لم يكن يومًا مشروعًا معاديًّا للدين، بل هدفه تحرير الدين من الاستغلال السياسي والفكري خدمة لأغراض من في السلطة. لقد تحول مفهوم العلمانية ذاته في علاقته بالدين مع الحوار الدائر بين الفلاسفة من جهة ورجال الدين من جهة أخرى وهو ما نجد صداه في كتاب: قوة الدين في المجال العام الذي يجمع حوارًا بين مجموعة من الفلاسفة أبرزهم تايلور وهابرماس كما يمكن العودة للعدد الثامن من مجلة الاستغراب حول ما بعد العلمانية.

إن الحداثة الأصلية تقوم على «فكرة الإنسانية المشتركة التي تؤكد فكرة المساواة، لكنها أيضًا تعترف بالاختلاف فثمة تنوع ضخم لكن داخل إطار الوحدة. كما أكد ذلك عبد الله المسيري في كتاب العلمانية، الحداثة والعولمة. فالوجود البشري ليس وجودًا متجانسًا، وإنما هو وجود قائم على التنوع والنسبية واللاتجانس واحترام الغير. وإذا لم تدرك النخب الحداثية التونسية ذلك فإن خطابها سيبقى خطابًا تدميريًّا يهدد وحدة المجتمع وانسجامه ويدعو للكراهية والحقد بحيث يبقيها في عزلة عن عموم الشعب الذي يريد أن يتواصل مشروع الدولة الديمقراطية؛ لأنه ليس وارد عنده أن يتخلى عن حريته. لقد حان وقت التحرر من الحداثة الاستعمارية نحو تشكيل حداثة تحررية. حان وقت التحرر من حداثة هؤلاء الذين قدموا ذات يوم «وأنشأوا المدارس ليعلمونا كيف نقول نعم بلغتهم» على حد عبارة بطل رواية موسم الهجرة للشمال لطيب صالح وهي النعم التي تعنى التبعية المطلقة لهم وأن نعوضها بلا ناقدة لوضعنا ولهيمنتهم.

(المصدر: ساسة بوست)

 

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى