مقالاتمقالات مختارة

نظرات وعبرات | المُطبّعون الجدد: (4) الاختراق الصهيوني الأكبر

نظرات وعبرات | المُطبّعون الجدد: (4) الاختراق الصهيوني الأكبر

بقلم محمود عبد الهادي

خطأ فادح جدا أن ننظر إلى موجة التطبيع الثالثة مع الكيان الصهيوني على أنها مجرد اتفاقيات سلام، تحكمها المصالح المتبادلة بينه وبين الدول العربية الموقعة معه، فهذه الموجة مؤشر خطير على حجم الاختراق الذي حققته الحركة الصهيونية في المنطقة العربية على مدى ربع القرن الماضي، لتحقيق مشروعها القديم في العالم العربي، فكيف حدث الاختراق؟ وما هو هذا المشروع؟ وما ركائزه وآلياته؟ ووفق أي شروط تتم مراحله؟ وما فرص نجاحه؟ وما التحديات التي تواجهه؟ وما النتائج المترتبة عليه؟

الأمة المأزومة التي تلهث طيلة الوقت وراء لقمة العيش وحبة الدواء وقلم الرصاص، المهزومة ماديا ونفسيا ومعنويا، الممزقة في صراعاتها الداخلية والبينية، هي أمة لا مكان لها أو اعتبار أو سيادة أمام الإرادات الفوقية المهيمنة، لا عند تخطيط المشروعات، ولا عند إعداد الاتفاقيات وصياغة الشروط والأحكام وفرض الإملاءات.

مشروع الحلم الكبير

لم تمنع الحروب العديدة بين الكيان الصهيوني والدول العربية من استمراره في تجديد الحلم بإقامة الشرق الأوسط الجديد، الذي يكون فيه الدولة المركزية المتحكمة في حركة المصالح المتبادلة بينها وبين شركائها في الإقليم، فمنذ السنوات الأولى لنشأة الكيان الصهيوني وقادته منشغلون في إستراتيجيات ضمان أمن دولته، فمن إستراتيجية التفوق العسكري النوعي، إلى إستراتيجية الردع الجغرافي، التي نُفذت في حرب النكسة عام 1967، إلى إستراتيجية الأمن من الخارج، إلى إستراتيجية الشرق الأوسط الجديد، التي بشر بها رئيس الكيان الصهيوني الأسبق شيمون بيريز في عام النكسة، متحدثا عن علاقة اقتصادية بين الكيان الصهيوني والدول العربية، ولم يلبث أن أصدر الكيان الصهيوني عام 1968 كتيبا بعنوان “الشرق الأوسط عام 2000” يتحدث فيه عن الشرق الأوسط الاقتصادي، الذي يكون فيه الكيان الصهيوني الدولة المركزية، وتوالت بعد ذلك عدة دراسات شارك فيها باحثون من الكيان الصهيوني مع آخرين من الولايات المتحدة، تدور حول الفكرة نفسها.

وعادت الفكرة لتطرح من جديد وبقوة، في مؤتمر مدريد للسلام عام 1991، مباشرة بعد نجاح الولايات المتحدة وقوات التحالف في تحرير الكويت، وقد وضعت المخططات اللازمة لذلك بين الشركاء الدوليين، وتشكلت العديد من اللجان المتخصصة في الدفاع والأمن والاقتصاد والطرق والاتصالات؛ إلا أنها سرعان ما توقفت بفعل تصاعد العمليات الفلسطينية داخل الكيان الصهيوني، والتداعيات الإقليمية والدولية، التي أعقبت الهجمات على برجي التجارة العالميين بنيويورك في سبتمبر/أيلول 2001.

في أعقاب مؤتمر مدريد، أصدر شيمون بيريز كتابه الشهير (الشرق الأوسط الجديد) عام 1993، مستغلا أجواء المفاوضات السرية التي كانت تدور منذ فترة، في العاصمة النرويجية أوسلو، بين الكيان الصهيوني ومنظمة التحرير الفلسطينية.

ADVERTISING

بعد الفشل الكبير الذي منيت به اتفاقية أوسلو، والبرود الذي غلّف اتفاقيتي السلام بين الكيان الصهيوني وكل من مصر والأردن، مرّت المنطقة العربية بأحداث ما يُعرف بـ(الربيع العربي)، وما تبعه من تفكيك كبير في البنية العربية أفقيا ورأسيا، فوجد الكيان الصهيوني الفرصة الذهبية لمواصلة الاختراق، وليعمل وحده -وبكل هدوء- على إعادة تشكيل المنطقة العربية بالطريقة التي تناسبه، لاستكمال مشروع حلمه القديم الجديد، فعلى مدى سنوات الفوضى الدرامية العارمة، التي أعقبت (الربيع العربي) لم تتوقف الاتصالات والتحركات واللقاءات والمؤتمرات بين الكيان الصهيوني وعدد من الدول العربية، حتى فوجئنا العام الماضي بموجة التطبيع الثالثة بصورة أكثر احترافا وإتقانا، وأكثر اختراقا للنظام العربي في كافة مجالاته.

سياق حدوث الاختراق

كان السياق العام الذي ساد المنطقة العربية على مدى العقد الماضي مناسبا جدا ليضرب الكيان الصهيوني ضربته الكبرى، التي طالما انتظرها لتحقيق حلمه القديم، فقد كان هذا السياق استثنائيا بصورة غير مسبوقة على الصعيد العربي، حتى في أحلك أوقاته على مدى قرن من الزمان، ويمكننا الوقوف سريعا على أبرز الكوارث التي لوّنت هذا السياق:

  • انهيار النظام العربي على مستوى جامعة الدول العربية ومؤسساتها.
  • انفلات النظام السياسي في العديد من الدول العربية (سوريا والعراق واليمن وليبيا والسودان ولبنان).
  • بروز محاور إقليمية جديدة زادت الاضطراب السياسي سوءاً (محور قطر تركيا، ومحور السعودية والإمارات ومصر، ومحور العراق واليمن وسوريا وإيران).
  • انفجار الصراعات المسلحة في عدد من الدول العربية (العراق وسوريا واليمن وليبيا) بصورة كارثية.
  • الحصار على قطر، وما ترتب عليه من خسائر سياسية واقتصادية واجتماعية ونفسية.
  • هيمنة الأنظمة الوراثية والجيش على السلطة السياسية في الدول العربية، وغياب أي دور حقيقي للشعوب والقوى السياسية والمدنية، في القضايا المصيرية الكبرى.
  • هيمنة الشمولية الفاشية على أنظمة الحكم في معظم الدول العربية الوراثية والعسكرية، وازدياد معدل البطش والقمع والاستبداد.
  • فشل المحاولات المتواضعة لإقامة أنظمة ديمقراطية حقيقية، التي رافقت ثورات ما يعرف بـ”الربيع العربي”.
  • انهيار الاقتصاد في معظم الدول العربية، حتى النفطية منها.
  • ارتفاع نسبة البطالة ومعدلات التضخم، وهكذا نجد السياق العربي الراهن، خاصة في العقد الأخير، مشحونا بالأزمات والصراعات والكوارث والدمار والمآسي والأوجاع، والأمة المأزومة التي تلهث طيلة الوقت وراء لقمة العيش وحبة الدواء وقلم الرصاص، المهزومة ماديا ونفسيا ومعنويا، الممزقة في صراعاتها الداخلية والبينية، هي أمة لا تعرف كيف تطعم جياعها، ولا كيف تخفف ألم مرضاها، ولا كيف تنظف دماء ضحاياها من أبنائها، ولا كيف تغلق سجونها، وليس لها مكان أو اعتبار أو سيادة، أمام الإرادات الفوقية المهيمنة، لا عند تخطيط المشروعات، ولا عند إعداد الاتفاقيات وصياغة الشروط والأحكام وفرض الإملاءات.

مرتكزات تنفيذ المشروع ووسائله

لذلك كانت الفرصة مواتية جدا وبصورة تاريخية، أمام الكيان الصهيوني ليستغل هذا السياق العربي، ويعمل على إحياء مشروعه، معتمدا على عدد من المرتكزات، ومستعينا بجملة من الوسائل والآليات التي تحقق له قدرا عاليا من السيطرة والتفوق.

لقد اعتمد الكيان الصهيوني على 4 مرتكزات أساسية هي:

1. الشريك الأميركي

بحيث تتم كافة الاتفاقيات بضغط ومباركة ودعم وشرعية الولايات المتحدة، بعيدا عن الأمم المتحدة وقراراتها التاريخية الخاصة بالقضية الفلسطينية المقيدة للطموح الصهيوني، والمعرقلة لمسيرة تنفيذ المشروع، وكذلك بعيدا عن المجتمع الدولي ولجانه الرباعية والخماسية والسداسية.

2. الأيديولوجيا الجديدة

التي تحل مكان أيديولوجيات الإسلام السياسي السائدة في المنطقة العربية منذ قرن من الزمان، والتي لا تعترف بالكيان الصهيوني، وتعتبر وجوده خطرا على المجتمع المسلم وأبنائه، وتمثل هذه الأيديولوجيا الجديدة السقف الذي تستظل به الدول الموقّعة على الاتفاقيات الثنائية، وتنشأ على مبادئها وقيمها الأجيال القادمة، وهذا ما تم إعداده على مدى 3 عقود، من الدراسات والمؤتمرات وورش العمل الإقليمية والدولية، وصولا إلى ما يعرف بـ”اتفاقيات إبراهام”، التي تعتبر شرطا أساسيا لكل الدول التي سيشملها المشروع.

3. العدو البديل

خلق العدو البديل الذي يعطي البراءة للكيان الصهيوني، ويفتح أمامه باب التعاون مع دول المنطقة للقضاء على العدو الجديد. وقد نجح الكيان الصهيوني في إيجاد المبررات القوية، التي تقنع دول المنطقة أن العدو الحقيقي الذي يهدد عروشها ويزعزع استقرارها، ليس هو الكيان الصهيوني، وإنما العدو الخارجي متمثلا في إيران، والعدو الداخلي متمثلا في حركات الإسلام السياسي، وعلى رأسها الإخوان المسلمون، مستشهدا بالنفوذ الإيراني في كل من العراق وسوريا ولبنان واليمن على وجه الخصوص، وبدور الإخوان المسلمين في ثورات الربيع العربي، وأبدى الكيان الصهيوني استعدادا جديا للتعاون العسكري والأمني مع دول المنطقة ضد إيران العدو المشترك لها جميعها، والدفاع عنها في كل ما تقوم به من انتهاكات ضد الإخوان المسلمين.

4. المصالح الاقتصادية

ربط الدول المشتركة مع الكيان الصهيوني في هذا المشروع بمصالح اقتصادية إستراتيجية عملاقة في الطاقة والصناعة والتكنولوجيا والاتصالات والزراعة والسياحة والطرق، وغيرها من المجالات، ومشروعات اقتصادية لا تستطيع الدول العربية الشريكة فيها، الفكاك منها أو التضحية بها.

آليات تنفيذ المشروع ووسائله

إضافة إلى المرتكزات السابقة، لجأ الكيان الصهيوني إلى العديد من الآليات والوسائل التي تسهل عليه عملية الاختراق، وإقناع الأطراف العربية المستهدفة بالدخول في المشروع، ومن ذلك على سبيل المثال:

  1.  إظهار جوانب التفوق النوعي السياسي العسكري والأمني والاقتصادي والتكنولوجي، الذي تفتقده الدول العربية.
  2. إبراز المصالح التي ستجنيها الدول العربية الشمولية من دخولها في مشروع الكيان الصهيوني.
  3. المحافظة على سرية المحادثات الثنائية بين الكيان الصهيوني والدول العربية التي يستهدف إدخالها في المشروع.
  4. استغلال أزمات الدول العربية، وإظهار القدرة العالية والنية الصادقة لمساعدتها في التغلب عليها.
  5. تقديم نماذج لأعمال ومشروعات وصفقات مضمونة النجاح سياسيا وأمنيا وتكنولوجيا.
  6. ترسيخ مفهوم الشراكة بين الكيان الصهيوني والدول العربية في مشروع الشرق الأوسط الجديد على قاعدة مصالح متبادلة ضخمة، بعيدا عن مصطلحات المعارك والحروب وما يترتب عليها من عداوات وثارات، خاصة مع الدول العربية الطموحة للقيام بأدوار قيادية في المنطقة.هذه الركائز والوسائل كانت تعتمد على توفير جملة من الشروط اللازمة لضمان نجاح المشروع في خطواته التنفيذية الكاملة، فما هذه الشروط؟ وهل تحققت؟ وهل تحققها سيمكن المشروع من التغلب على التحديات التي تواجهه؟ (يتبع)

(المصدر: الجزيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى