مقالاتمقالات مختارة

يا أبا جَندل .. اصبر واحتسب .. دروس من الحديبية

يا أبا جَندل .. اصبر واحتسب .. دروس من الحديبية

بقلم د. صفاء الضوي العدوي

الدعوة إلى الله تعالى، والقيام على ثغورها تعليماً ووعظاً، ودفاعاً عن قضايا الإسلام ورعاية لأبناء المسلمين من غوائل الغش والإفك والتضليل الذي يمارسه الإعلام الرسمي الخائن في بلاد المسلمين، عمل جليل، بل هو المسار الصحيح والأساس للعمل الإسلامي، لكن سطوة الظالمين وعنفهم، واستفزازهم المتواصل لعلماء الإسلام ودعاته استلزم أن ينهض فريق من أبناء المسلمين لدفع ذلك الجزار الهائج الباغي عن أمة مقهورة ضعيفة يريد ذبحها.

هل رأى الناس في التاريخ الإنساني أمة تفشت فيها الأمراض، وفتكت بها الأوبئة، داهم أولياءُ أمورها الأطباءَ في بيوتهم ومستشفياتهم، وزجوا بهم في السجون لئلا يقوموا بواجبهم في علاج الأمراض ومكافحة الأوبئة؟!.

فإن كان هذا عجباً لم يسمع به الناس، فالأعجب منه أن يقوم هؤلاء الأولياء في هذه الأمة؛ مضرب المثل، فوق ما ذكرنا، بحقن الناس بمزيد من الأمراض، وتعبئة الأجواء بكثير من الأوبئة.

إنني _ أخي – لا أقص عليك خيالاً من ألف ليلة وليلة، لكنه الواقع الذي نعيشه في معظم بلاد المسلمين، فقد كانت الأمة تعيش في سالف زمانها في كامل قوتها، وتمام عافيتها، متمتعة لدى أعدائها بهيبة كبيرة، ومكانة بين الأمم عظيمة، كانت أمة مسلمة مجاهدة، يشعر أبناؤها؛ حكاماً ومحكومين بالمسئولية العظمى في صيانة الأمة وحماية الملة ودرء أي عدوان يهددها من الخارج، وسحق كل فتنة وشرّ ينبت فيها من الداخل.

ولهذا كان الجهاد، وكان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، خطيْن موازييين لنبض الإيمان في القلوب، وانطلاقة الأمة براية التوحيد والفتوحات في الأرض. فكانت المنابر وحلقات العلم، ونهوض العلماء بواجبهم في النصح للولاة، وتعليم المسلمين ووعظهم، وإشاعة الحق والخير والعدل في المجتمع المسلم، ويقظة الجميع تجاه الأخطار التي تهدد هذا الخير من الداخل أو الخارج، كان كل ذلك من أهم معالم الخيرية في أمة الإسلام، ذلك الوصف الذي استحقته عن جدارة من القرآن الكريم في قول الله تعالى { كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله } .

وبقيت هذه الخيرية زمناً طويلاً، ثم خلف من بعد هؤلاء الأخيار من أجدادنا خَلْف أضاعوا الدين واتبعوا الشهوات، فقلت فينا الخيرية واضمحلت، بمقدار ما اضمحل فينا العمل لهذا الدين العظيم، وغاب عنا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فدب الوهن، وزاد الضَّعف، وسقطت الهمم، فتغلب العدو، فأشعل في ديارنا الحرائق التي راحت تأكل الأخلاق والفضائل التي كنا بها خير الأمم، ولما قام منا أخيار من أهل العلم ورجالات الإسلام يطفئون تلك النيران، ويستنهضون الهمم، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، لم تستجب الأمة بالقدر الكافي، وتباطأت .. ، فاستضعف الطغاةُ هؤلاء الصالحين فقتلوهم وسجنوهم وكبلوا الدعوة في كثير من بلاد المسلمين، وأطلقوا أعداءها في حملات طاغية تهدد أصول الدين وفروعه، وتخدر المجتمع كله، وتسوقه إلى الجهل والرذائل.

وكانت الصحوة الإسلامية المباركة التي أدرك نفر من أبنائها البررة أن السكوت على هذا الاجتياح الخطير لقيم الإسلام وشريعته وعقيدته خيانة للدين، فقاموا يدعون إلى الله، ويعلمون الناس أمور دينهم، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويصلحون ما استطاعوا ما أفسد الطغاة، لكن الطغاة استعملوا ضدهم كل ألوان العسف والظلم، ونفد صبر البعض، فرأوا – متعجلين _ أن الدعوة المحاصرة والمكبلة غير قادرة وحدها على تخليص الأمة من هذا الطوفان الجارف الذي أغرق البلاد بالفساد والزندقة، ورأوا كذلك – مجتهدين متعجلين – أنه لابد أن تخرج بعض السيوف من غمدها لتدفع عن نفسها العدوان، أو تثأر لدم أريق ظلماً أو كرامة انتهكت عدواناً، وكان الصراع الدامي غير المتكافىء، وكانت سلبية الأمة في مناصرة هذه السيوف التي اجتهدت وخرجت من غمدها قبل أوانها، وكان شيء من الخذلان – عجيب– من بعض العاملين للإسلام، وغصّت السجون بالمؤمنين، ولم يقف الطغاة عند هذا الحد، بل تجاوز طغيانهم كل حد.

كان على العاملين للإسلام أن يدركوا أنهم في ميدان الصراع مع أعداء الدعوة وأعداء الإسلام بمثابة جيش تعددت كتائبه، وأن القدر جرى في زمننا على هذا الجيش أن تقطعت الروابط بين هذه الكتائب، وضُربت غرفة العمليات وخطوط الإمداد والاتصال، لكن العجيب أن تُناكد كتيبةٌ من جيش الإيمان هذا وتناجز وتهاجم كتيبةً أخرى فيه لخطأ ارتكبته، هذا في المنطق العسكري خبل لا يتصور، لكنه في منطق بعضنا وجهة نظر!!.

لا أدري كيف يستقيم عند البعض أن العمل الإسلامي لا يحتمل إلا الدعوة إلى الله، أي في الدروس والخطب والكتابة، وأن الانخراط في جماعة سلفية المعتقد والمنهج والدعوة، حدث أن تصادَم الباطلُ معها يوماً، فألجأها إلى أن تدفع عن نفسها بغيَه، وأنها صاولته زمناً، فأصابتها جراح دامية، اقتضت من عقلاء المسلمين وفضلائهم ونبلائهم الشفقة والمواساة، والعونَ بما يأسون به جراحهم، لا أدري كيف يكون مثل هذا الانخراط انحرافاً يجب رفضه ودفعه ومهاجمته.

أفهم أنه يجب على أهل العلم والبصيرة، من العاملين الصادقين النصح والتوجيه، وأن على هؤلاء الجند الرجوع إلى أولئك العلماء ليسترشدوا بعلمهم، ويستنيروا بخبرتهم، لكن الذي لا أتصوره، ولا أظن أن فاضلاً من علماء المسلمين يطيقه أن يتواصل التثريب واللوم والهجوم والتنفير من عمل أولئك المجاهدين الذين تعجلوا في مصاولة الباطل الجريء الفج المتوقح في بلدانهم، حيث أرادوا الخير، وقصدوا الدفاع عن دينهم، فهل من العقل أن نستسلم لأبواق الإعلام الفاسد حتى نصف إخواننا بأنهم منحرفون.

وأدع التلويح إلى التصريح فأقول: هذا الذي سُقته يخرج منه أولئك الغلاة الذين سقطوا في مستنقع التكفير للمسلمين، واستحلوا دماءهم، وشوهوا سيرة المسيرة الطيبة للمجاهدين الذين لم يكن لهم أعداء سوى أعداء دينهم وعملائهم من الطغاة.

لقد كان هؤلاء الإخوة الذين نثَرِّب عليهم الآن هم أول من طار إلى ساحات الجهاد حين سمعوا النداء “حي على الجهاد” تركوا أوطانهم وجامعاتهم وتجاراتهم ووظائفهم وأبناءهم وزوجاتهم، وهناك في ساحات الشرف والعزة والكرامة سالت دماؤهم، وسقط شهداؤهم، فسطروا بإيمانهم ملاحم جهادية أعادت إلينا صوراً من الماضي الزاهر لأمتنا المسلمة الكريمة.

رأيناهم في أفغانستان وفي كشمير وفي الشيشان وفي البوسنة رجالاً يطلبون الشهادة، ويلتمسون سبيل العزة لأمتهم. رأيناهم يبحثون عن سبيل يمكنهم من الوصول إلى اليهود في فلسطين الحبيبة، بيد أن حُرَّاسها من أنظمتنا العربية تُحكم الحراسة، لكن الطريق حتماً يوما بإذن الله سيفتح، يوم يخرس الغرقد وينطق الشجر والحجر: يا عبد الله يا مسلم: هذا يهودي ورائي فتعال فاقتله.

لقد فزع الغرب الطامع فينا لتنامي روح الجهاد في الأمة، وانخراط أفواج من الشباب في هذا الطريق.

فزع لأنه يعلم أن هذا الطريق هو الطريق الذي لا يستطيع أن يلقانا فيه، أو كما يقول الأستاذ محمود شاكر رحمه الله في رسالته الفذة “في الطريق إلى ثقافتنا” : لقد علموا أن معركة السلاح مع المسلمين لن تغني عنهم شيئا.

ولعلنا نذكر ولا ننسى مقولة ريجان رئيس أمريكا السابق في خطاب المواساة للشعب الأمريكي حين فجّر مقاتل مسلم نفسه بسيارة مفخخة في عملية استشهادية معسكراً للقوات الأمريكية الخاصة في لبنان فقتل منهم المئات: قال: إن أمريكا قوية، وتستطيع أن تضرب في كل مكان، لكن ماذا عسانا أن نفعل مع أناس يُقبلون على الموت.

لقد فزع الغرب لا سيما أمريكا حين طار هؤلاء المجاهدون إلى الصومال ليفسدوا على أمريكا خطتها في ترتيب أوراق المنطقة وزرع عملائها هناك، وتطويق الأمة المسلمة العربية من الجنوب لصالح أهداف إسرائيل، لقد وصل المجاهدون وأذاقوا جنود الأمريكان طعم الرعب، وجرعوهم كؤوس الذل مترعة، فخرجوا على الفور خزايا منكسرين، إنهم يفهمون معنى الجهاد عند المسلمين، يفهمونه جيداً، يفهمونه أكثر من كثير منا، ولهذا فهم يملأون الدنيا ضجيجاً ضد هذا الطريق، وضد هؤلاء المجاهدين، يصيحون من كل الأبواق، أوقفوا الإرهاب، اسحقوا الإرهاب، وإن الترجمة الدقيقة لصيحاتهم هي: أيها الأصدقاء في الغرب والشرق، ساعدونا في القضاء على هذا الخطر الكبير المتمثل في الجهاد، حاصروه معنا، اقتلوه معنا، إن لنا آمالاً عريضة في العالم، إن مستقبلنا الواعد يكتنفه بسبب الجهاد عقبات ومصاعب، إن المسلمين هم الخطر الأكبر، بل الخطر الوحيد، سيبقى الإسلام قوياُ عزيزاً ما بقيت في المسلمين هذه الروح، ساعدونا على إماتتها … !! هكذا

لقد فزعوا حتى إنهم ليفرضون الحصار على بعض الدول من أجل أن تسلم لهم مجاهداً، أجل مجاهد واحد، صحيح أنه أضحى رمزاً للجهاد الذي يفزعهم شبحه، لكنه رجل واحد اجتمع حوله من إخوانه المجاهدين ثلة من الأبطال، فماذا لو كان عددهم عشرات الآلاف، وماذا لو كانوا مئات الآلاف، أتقدر أمريكا أن تفرض على بلدان المسلمين ما تفرضه من إتاوات، وما نراه ونشاهده من الصغار والذل الذي يتّسم به قادة أنظمتنا الأشاوس.

قبل شهور حاصت الدول الغنية في المنطقة حيصة الغزلان داهمتها السباع، وذلك حين فوجئت باقتراح من الكونجرس أن تدفع تلك الدول المبلغ الذي تطلبه إسرائيل لقاء انسحابها من الجولان، وذلك لنقل أنظمة الصواريخ المتقدمة، والمنتشرة هناك، وقال أصحاب الاقتراح: إن دول الخليج الغنية هي التي ستنعم بالاستقرار في المنطقة بعد السلام ولهذا فعليها أن تدفع هذا الثمن، المبلغ المطلوب (من سبعين إلى ثمانين مليار دولار) ، وخرجت الصحف تحتج غاضبة على هذا الطلب، وتتسائل باستنكار يغطيه الذل والضعف والاستعطاف المهين: لماذا يطلب منا نحن كل هذا؟، إنها ثروات الشعوب، وقوت الأجيال!!.

أرأيتم لو كان لكم رجال يحبون الموت كما تحبون الحياة أكان يمكن أن يفعل بكم ذلك؟!، لا والله.

يقول المحللون: إنهم يحتجّون، لكنهم في النهاية سيدفعون!!

إن هؤلاء المجاهدين يستحقون من أمتهم الواعية كل تقدير وتكريم، فما من أرض يدور عليها صراع بين الكفر والإيمان إلا تعرفهم … تشربت من دمائهم، وسعدت بركوعهم وسجودهم.

صحيح أنهم نُكبوا وقتلوا وجرحوا وسجنوا وشردوا، وكان كل ذلك منهم في ذات الإله الحق سبحانه، أفيكون جزاؤهم من أمتهم الجحود والنكران والحملة الشعواء كأنهم أعداء.

إن الأمة لن تقدرهم إلا إذا كانت أمة حية واعية خيّرة، ولن تلفظهم وتجافيهم وتخاصمهم إلا إذا كانت شبه حية، غافلة، قليلة الخير!

فيا أيها المجاهدون .. طيبوا نفساً، واثبتوا على طريقكم السامي الشريف، ولئن قلّ المعين، وضعف الناصر من المسلمين، فرب الأرض والسماء لكم خير معين وهو حسبكم ونعم النصير.

وأنتم أيها الدعاة ..

تعلمون قصة الحديبية وما فيها من دروس فقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه لما جاء أبو جندل إلى النبي صلى الله عليه وسلم … هاربا من الكفار يرسف في قيوده قام إليه أبوه فلطمه وجعل يرده، قال عمر فقمت إلى جانب أبي جندل فقلت إنهم الكفار وإنما دم أحدهم دم كلب وجعلت أدني منه قائم السيف لعله أن يأخذه “فلئن عزّ فينا – بسبب الضعف – من يدني قائم السيف لأبي جندل، يعرِّض له به كما عرَّض به الفاروق عمر رضي الله عنه بسبب العهد، فلا أقل من أن نستقبل تلك اللفتة النبوية الحانية العميقة وهو يقول لأبي جندل:” يا أبا جَندل اصبر واحتسب فإن الله تعالى جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجاً “.

وقوله صلى الله عليه وسلم في أبي بصير حين انطلق وقعد للمشركين على طريقهم فروّعهم:” مسعر حرب لو كان له أحد “أي ينصره ويعاضده ويناصره، وفي رواية الأوزاعي لو كان له رجال، قال الخطابي فيما نقله عنه الحافظ في الفتح (٥/ ٣٥٠) : فلقنها أبو بصير فانطلق، وفيه إشارة إليه بالفرار لئلا يرده إلى المشركين، ورمز إلى من بلغه ذلك من المسلمين أن يلحقوا به” . اهـ

إن هؤلاء المجاهدين هم جند الله وسيوف الإسلام، وتالله، ما بعد كسر السيوف – لا قدر الله _ إلا العار.

فلتمض القافلة الكبيرة المباركة من الدعاة الواعين في طريق الدعوة والإصلاح، أما أنتم أبا بصير وأبا جندل ومن معكما من جند الله، فالله لكم، ولتوقنوا أن في المسلمين من لقِنوا الإشارة، وفقهوا الرمز، وأحلوكم من نفوسهم محل المجاهدين الصادقين، ونسأل الله تعالى أن يلهمكم رشدكم، ويسدد رميكم، وأن يؤنس وحشتكم في غربتكم، وأن يوفقنا في أن نخلفكم في أبنائكم بخير.

(المصدر: رابطة علماء المسلمين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى