مقالاتمقالات مختارة

دراسة لمخطوط المصحف المحفوظ بمكتبة دار العلوم برقم (88012) – ديوبند بالهند

دراسة لمخطوط المصحف المحفوظ بمكتبة دار العلوم برقم (88012) – ديوبند بالهند

بقلم عبد العاطي الشرقاوي

كتابُ الله -عز وجل- هو خير ما شُدَّت رحالُ الهمم إليه، وضُرِبَت مطايا العزائم إليه، فجادت قرائحُ الألباب بما جدَّ في النفوس، وزادت لوائح الكُتّاب بما صحّ في الدروس، فتناولته عقول الأفذاذ بالتدبّر والفهم، وأيدي النُّسَّاخ بالمَشْق والرسم، فصار لكلّ فنٍّ مذاهب ورجال، ومدارس وأقوال، فكما شَرحَت أفئدةُ المفسِّرين أسرارَه ومعانيه، رَشَحَت أقلامُ الناسخين حروفَه ومبانيه.

 فأينعت جهودُهم إرثًا من النُّسَخ عظيمًا حتى فاضت المكتبات بها، واختلفَت بين نادر ونفيس، وبين أيدينا نسخة من نُسَخِه الشريفة، سنحاول في هذه المقالة أن نكشف عن مظاهرها ونحدّد علائم ظواهرها، من الجانبين: المادي والعلمي.

أولًا: الجانب المادي:

1- بيانات الحفظ والورق والحجم:

هذه النسخة الجليلة من محفوظات مكتبة دار العلوم، بديوبند، الهند، تحت قيد رقم (88012) في «ديوبند» من الديار الهندية، توزّعت على خمسمائة واثنتين وسبعين صفحةً متصلة بلا انقطاع، دلّ على ذلك التعقيبة المرفقة في آخر الصفحة، بأربعة عشر سطرًا للصفحة الواحدة.

2- الخط والمِداد:

كُتِبَت هذه النسخة بخطّ النسخ المجوّد، المتوسط الحجم، الواضح الشكل، المضبوط بالحركات ضبطًا تامًّا، المنقطة حروفه بعلامات الإعجام المستقر على العمل بها، المرسومة كلّها بالخط العثماني المستقَى من مصحف عثمان بن عفان كما صرّح في نهاية النسخة، وكُتبت الهوامش بخط نسخ معتاد صغير، إلا الألفاظ القرآنية فكُتبت كالمتن.

واستُخدم اللون الأسود في تلوين حروف النصّ القرآني، والأحمر والأزرق لأسماء السور والألفاظ القرآنية في الهامش وبعض علامات الوقف والمدود.

3- الزخرفة والتذهيب:

على النسخة لوحات استهلالية، ضَمَّت الأولى الفاتحة وأوائل البقرة، والثانية أواخر الكهف، والأخيرة المعوِّذتَين.

زُخرفت اللوحة الاستهلالية بالشكل النباتي الهندسي المتداخل الـمُحَلّى بالذهب واللازورد، كُتب النصّ فيها على أرضية ذهبية مُطفأة، يحيط بسطوره خطوطٌ محنيّة محمَرّة على أرضية ذهبية مضيئة، يحيطه من جانبيه عمودان مُزركَشان بالزَّهر، ملوَّنان بالذهب والزُّرقة، يعلوه كتيبة مزيّنة بالزهر والأشكال البديعة على خلفية زرقاء محاطة بنسيج هندسي معشَّق في ألوان ثلاثة: محمرّ، ومذهّب، وأزرق. وكذا كتيبة تماثلها في أسفله، ثم على كلّ وجه من هذه اللوحات ثلاثة رؤوس؛ من أعلاها وأسفلها وجانبها، على شكلِ تيجان مقبَّبة مزركشة بالذهب والزُّرقة. كلّ ذلك على مستطيل محاط بإطار من الذّهب والحُمرة، مزركَش بقلائد ذهبية ملوَّن ما بينها بالزرقة.

ثم الورقة الثانية من سورة البقرة، ومثلها عدّة ورقات في النسخة زُركش ما بين سطورها بالمذهب، وأُطِّرَت -كما في كلّ الأوراق- بإطارات ثلاثة: أحمر وأزرق دقيق وبينهما مُذَهَّب سميك، ثم امتلأ بياض باقي الورقة بالأشكال النباتية البديعة، بينها أزهار مسدسة الشكل، مُحَلَّاة بالذّهب والخضرة والحمرة، ثم أُطّرَت باقي الأوراق بإطارات مشجرة نباتية، وأُطِّر النصّ بالذّهب والألوان، ويعلوه اسم السورة ورقم الورقة.

واختلفت أشكال العُشور والخُموس والأجزاء والأحزاب وأنصافها ورؤوس الآيات والسجدات على شكل قلائد ومثمَّنات مزيّنة، ودوائر كبيرة وصغيرة مطموسة بالذهب مجنَّحة.

4- حالة النسخة:

هذه النسخة تامّة غير ناقصة، أُصيبَت في كثيرٍ من أجزائها بالتمزق والتفكك والأرَضَة خصوصًا في أولها، مما استدعى ترميمًا غطّى بعض أجزائها، كما أصابها البلل والرطوبة التي أثّرت على بعض أطرافها من غير تأثير على مادة النسخة وحبرها على الجملة.

5- الناسخ وتاريخ النسخ:

انتهى مَشْق هذه النسخة الشريفة في التاريخ المدوّن بآخرها وهو ثاني أيام التشريق من السنة الثالثة بعد أربعين وألف من سِني الهجرة الشريفة. بيد الشيخ فتح محمد عبد العزيز السيواسي الحسني بأرض سِيواس[1].

وقد ذكر سلسلة النَّسْخ عقِب التاريخ، فأسند -في آخر نسخته هذه- المصحف الذي خطَّه بيمينه إلى مصحف الشيخ المربِّي شمس الدين المغربي، الذي نقله بدوره من مصحف حاجي الحرمين الشريفين حاجي إبراهيم المصري، الذي كتبه من المصحف الإمام مصحف أمير المؤمنين سيدنا عثمان بن عفان -رضي الله عنه- في مكة المكرمة.

ثانيًا: الجانب العلمي:

1- الزوائد والفوائد الواردة على هوامش النسخة:

تميَّزت هذه النسخة أن التعليقات التي على حواشيها مفيدة جدًّا في مسألة القراءات؛ حيث جرَّد الألفاظ التي فيها الخلاف بين القرّاء وفصَّل فيها القول على الهامش؛ فجعل يذكر وجوه القراءة في اللفظة وكلّ وجه يُنسَب لأيّ قارئ، وجعل لكلّ قارئ رمزًا ولونًا كي لا تختلط الوجوه بعضها ببعض، فرمَز في المتن الكلمة المرادة وألحقَ الرمز بالشرح على الحاشية، ولذلك أمثلة كثيرة، منها: ما ورد في الآية (97-98) من سورة البقرة: {لجَبْرِيل} «د» {لجَبْرَئِل} «ص» {لجَبْرَئِيل} «ف ر خلف». لكلّ رمز منها اسم يدلّ عليه.

وجعل لكلّ تلك الرموز كشّافًا في أول النسخة، وجعل له توطئةً لكي يَفهم القارئُ ما يريد من ذلك الرمز، فأشار إلى أنّ «هذا المصحف مضبوط بالقراءات العشر؛ وأما القراءات السبع فعلى ما في الشاطبية وعلى رموزها إلا رواية ورش عن نافع من طريق الأصبهاني فمن الطيبة، وأما الثلاث الزائدة على السبع وهم: أبو جعفر ويعقوب وخلف ورواتهم فعلى ما في طيبة النشر لابن الجزري وعلى رموزها مميزًا عن رموز السبعة بالقلم اللاجوردي». وذكرَ طريقته في ترتيب الرموز وإلى ماذا تُشير كلّ منها وماذا يلحق بها.

وفي الهوامش أيضًا بعض الفوائد والتعليقات المنقولة من بعض كتب التفسير وغيرها، مثل: (مَدارك التنزيل)، و(غرائب التفسير وعجائب التأويل)، و(شرح عقائد السنوسي)، و(شرح الفقه الأكبر)، و(شرح أصول الصفّار) وغيرها.

وبعضها مما نُقل مِن كتُب بالتركية أو الفارسية بلغاتهم بقلمٍ مختلف عن قلم الناسخ. بل وتعدَّت الفوائد كونها في الهوامش، بل كان يذكر أحيانًا بعض الأحاديث المناسبة للسورة في الافتتاح؛ مثل سورة {هود}، فقد ذكر بعد أن تحدّث عن عدد آياتها واسمها ومكيّها من مدنيّها كتَب: «قال أبو بكر -رضي الله عنه-: شِبْتَ يا رسول الله! قال: شيَّبتْنِي هود والواقعة وعمّ يتساءلون».

2- أعداد الآيات وأسماء السور وترتيبها ونوعها:

في هذه النسخة التزم الناسخ بما اشتهر للسور من أسماء، وفي بعض السور كان يذكر اسمها والأسماء المسمّاة بها؛ كسورة {الإسراء}، ذكرَ أنها: «الإسراء، وتُسمَّى سورة بني إسرائيل وسورة سبحان»، و«سورة طه، وتسمى سورة التكليم وسورة موسى».

وأمّا عَدُّ الآيات فكان الناسخ يذكر في الاستفتاح أعداد الآيات، وبعد التتبُّع ظهر أنه يلتزم قولَ الكوفيين في عدِّهم إلا ما ندر.

ويذكر في افتتاح السورة فائدةً مهمّةً؛ وهي اسم السورة التالية للسورة التي يستفتحها بحسب التنزيل لا بحسب الترتيب في المصحف، فكان يذكر بيانات السورة في الاستفتاح، ثم يذكر أن بعدها سورة كذا.

فيذكر ههنا الناسخ مثلًا عند افتتاح سورة {القلم} أن عدد آياتها كذا ونوعها كذا، ويأتي بعدها {المزمل} وهي السورة التي تلتها في النزول، ولكنه التزم في الكتابة الترتيبَ المعروف، فشرع بعدها في رسم سورة {الحاقة}.

ثم يفيد في كلّ سورة نوعها من حيث كونها مكيةً أو مدنية، ويفصِّل القول في الآيات المتوزعة بين المكي والمدني، فيذكر ما يكون منها مكيًّا إلا موضع كذا وكذا، أو مدنيًّا إلا كذا وكذا، وذلك مما لم تجرِ عليه عادة نُسّاخ المصاحف، ومثاله: «سورة الرعد ثلاث وأربعون آيةً، مدنية بلا خلافٍ، قول قتادة، غير آيتين: {وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا} الآية، {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ} فإنهما نزلَتا بالمدينة، وقرأتُها مكية أو مدنية إلا {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ} نزلتا بمكة».

3- رحلة المخطوط:

هذه النسخة ليس عليها إلا ختم واحد غير واضح لا يفيد بيان حيازة، ولكن بأوّلها نصّ بخط حديث يُشير إلى أخذٍ وإعطاء، وهو: «أعطاني هذا المصحف الشريف الآية الشيخ محمد حنيف، الساكن ببشاور من مضافات [اجتمعان] سلَّمه الله، وأعطيتُه لمكتبة دار العلوم ديوبند المؤرخ يوم الجمعة يكم شوال سنة 1386هـ».

فهذا يعني أنها انتهت بسِيواس من يد ناسخها في سنة ألفٍ وثلاثٍ وأربعين ثم خفِي انتقالها لأحدٍ حتى استقرت بيد الشيخ محمد حنيف، ببشاور، ثم انتهت بمكتبة دار العلوم في الهند إلى الآن.

4- قيمة النسخة:

كُتبت هذه النسخة في القرن الحادي عشر، ولكنها نسخة نفيسة في بابها فقد أسندها ناسخها إلى مصحف عثمان بن عفان -رضي الله عنه-، وذَكر فيها اختلافات القرّاء مع الترميز لهم كما أسلَفْنا الذِّكْر، مما زاد في أهميتها، ورَفَع من قيمتها، فأورثها فائدةً علمية على فائدتها التوثيقية.

خاتمة:

تعدُّ هذه الدراسة المختصرة لهذه النسخة الشريفة بمثابة دليل يكشف بعض أسرارها، ويبثُّ اليسير من أخبارها، نوقِشَت من جانبيها: الفني؛ من حيث مكانها وحفظها وحالتها، والعلمي؛ من حيث اختلاف القراءات وأعداد الآيات وأسماء السور وترتيبها ورسمها ثم الحُكم على قيمتها.

والحمد لله رب العالمين


[1] سيواس: ضبط اسمها بكسر السين المهمل وياء مد وآخره سين مهمل، وهي من بلاد ملك العراق وأعظم ما له بهذا الإقليم من البلاد وبها منزل أمرائه وعماله، وهي مدينة حسنة العمارة واسعة الشوارع أسواقها غاصّة بالناس، وبها دار مثل المدرسة تسمى دار السيادة لا ينزلها إلا الشرفاء ونقيبهم ساكن بها وتجري لهم فيها مدة مقامهم الفرش والطعام والشمع. انظر: تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار، ابن بطوطة، الناشر: دار الشرق العربي، (1/ 227).

(المصدر: مركز تفسير للدراسات القرآنية)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى