التيار الإسلامي وحلم الإصلاح وبناء الدولة: رؤية للعبور للمستقبل (1)
بقلم أحمد عيسى
مقدمة:
اجتمعت على الأمة الإسلامية، وفي القلب منها الأمة العربية، عوامل داخلية وأخرى خارجية، أدت إلى دخولها في نفق التيه السحيق الذي تغوص فيه منذ أمد قد طال، إلا من استثناءات بسيطة. والحق أنه لولا شدة الضياع والتيه الذاتي لدينا، ما كان للعوامل الخارجية ذلك الأثر الكبير، والذي اعتادت أمتنا العربية والإسلامية أن تلقِي عليه اللوم كله، إراحة كاذبة واهمة للعقل وللضمير. فاللوم الأعظم حقا إنما هو من نصيبنا نحن تجاه أنفسنا أولا، وتجاه العالم الذي ندعي رغبتنا وعزمنا على هدايته سواء السبيل.
والسبب الأكبر في ذلك من وجهة نظري، هو ضبابية أو حتى ضياع بوصلتنا الفكرية، فحتى في زمن صحوتنا، كما اصطلح على تسميتها، والذي أتى بعد طول انتظار في سبعينات وثمانينات القرن الماضي وامتدادهما، كانت رؤوسنا ملتفة وأعناقنا ملتوية لماضينا، والذي لم نكن نعرف غيره، وظللنا على هذا الانحراف إلى يومنا هذا. فشتان بين النظر للماضي لأخذ العِبَر والدروس والخبرات والعظات، لنمضي بها للمستقبل، وبين التعلق بالماضي حد التيه والفقدان.
هذا، وقد ظللنا نحاول لقرابة قرن من الزمان جلب الماضي إلى الحاضر، بكامل شكله وتمام هيئته، دون جدوى، ودون أن نفطن لخطأ فرضياتنا، وإلى انحراف بوصلتنا، وبالتالي انعدام جدوى حراكاتنا وانفعالاتنا وتشنجاتنا ولو قضينا في ذلك الدهر كله.
نعم أيها السادة والسيدات، لدينا مشكلة في إدراك الواقع مقارنة بالماضي، وبالتالي حسن التموضع، مهما اشتد الخطب، بما ينعكس على ذكاء إدراك اللحظة، زمانا ومكانا وبكل الأبعاد، ومن ثم صحة الانطلاق، المتفاعل والمتجدد مع الحياة دوما، في عمليات متزامنة متراكبة متكاملة متوالية متناغمة، لا ينتهي بعضها حتى يبدأ البعض الآخر.. عمليات تشمل وتحوي وتحتوي كل مكونات مجتمعاتنا، لا تذر أحدا ولا تترك شيئا على الإطلاق، وجل المسؤولية في كل ذلك إنما هي على عاتقنا نحن، وحدنا وقبل أي أحد، ودون أي تثبيط من أي عوامل أخرى مهما كانت.
بين سقوط الخلافة الإسلامية والحلم باستعادتها:
يدرك العقل العربي الواعي ما تعانيه أمتنا من أزمات وما تواجهه من تحديات، سعيا لإيجاد مخرج وحل، لإقالة عثرات الأمة، ولانطلاقها في طريقها لتصحيح المسار، واستعادة الأمجاد، من خلال الدراسة التحليلية والنقدية للتاريخ والقراءة الموضوعية للواقع، مما يساهم في اختيار أفضل السبل وأنجع الوسائل، للتغلب على المشاكل الداخلية، ومن ثم القدرة على مواجهة أعداء الخارج، وتحقيق الهدف المنشود، وهو استعادة القوة وأسباب المجد.
في عشرينات القرن الماضي، كان طبيعيا ألا يتقبل الكثيرون مجرد فكرة سقوط دولة الخلافة الإسلامية، تلك الخلافة التي ساهمت عبر أربعة عشر قرنا من الزمان في نشر الإسلام في ربوع الأرض، وتوحيد الأمة الإسلامية وتقوية روابطها، وحمايتها من الانحدار والتردي، وإن تخلل ذلك كثير من الأخطاء والعثرات والاختبارات الصعبة، إلا أن حبل الخلافة كان بمثابة حبل الحياة وطوق النجاة الذي لا تلبث الأمة أو بعضها يتعلق به، ويكون سببا في إقالة عثرة الأمة واستعادتها لعافيتها من جديد، ولا ينكر ذلك إلا جاحد أو جاهل بذلك التاريخ.
ولذلك كان الاعتقاد السائد في فكر هؤلاء بعد حل دولة الخلافة، أن السبيل “الأوحد” لنهضة الأمة من جديد هو “استعادة” الخلافة، وما ساعد على هذا الاعتقاد هو حرص المؤرخين على وصف فترة الخلافة بكل ما هو بطولي ومبهر، فلم يقفوا طويلا أمام الفتن والمشكلات والأخطاء الجسيمة وسفك الدماء، وصور الصراع المرير على السلطة في مناسبات كثيرة، مما ساهم في تشكيل الصورة الذهنية المثالية عن الخلافة لدى المهتمين بواقع ومستقبل الأمة حينها، وهو ما دفع الشاب حسن البنا لتأسيس جماعة الإخوان المسلمين التي استقطبت الكثيرين رجالا ونساء من مختلف الأعمار والطبقات، مندفعين بعاطفتهم الدينية والإنسانية النبيلة وراء حلم استعادة الخلافة الإسلامية الذي سيطر على القلوب والعقول، حتى صار ذلك هو الهدف الاستراتيجي “المقدس” لأبناء الحركات الإسلامية، على اختلاف مشاربهم ومفاهيمهم وقياداتهم، لدرجة أننا لو قلنا إن استعادة الخلافة صار الركن السادس من أركان الإسلام عند أبناء التيار الإسلامي كله، حسب لسان حالهم، ما أخطأنا على الإطلاق، والأعجب أن هذه القناعة قد عبرت إلى قارات العالم كلها عن وعي وقصد، وبدونهما أيضا!
هذا وقد اختلط النقل والعقل مع العاطفة الثائرة، في تشكيل وتجسيد وتوحيد الرؤية المتعلقة بحلم العودة “الحتمية” للخلافة الإسلامية عند أبناء التيار الإسلامي، وانتظار ذلك مهما طال الزمن، واعتبار ذلك هو الهدف الذي ينبغي السعي بل الجهاد لتحقيقه مهما كانت التكاليف.
ومع مرور الوقت، اختلف أبناء التيار الإسلامي اختلافا شديدا في وسيلة الوصول إلى تحقيق حلمهم في استعادة دولة الخلافة، بين مؤمن بإصلاح وبناء القاعدة الشعبية، والارتقاء التدريجي بها، حتى يصل الإصلاح والبناء إلى قمة هرم الدولة وكل قيادتها، وبين معتقد بأن تغيير القمة مباشرة هو الطريق، وأن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، وبين أولئك وهؤلاء آخرون كثيرون.
والمحصلة أنه بعد قرابة قرن من سقوط الخلافة، فهذا هو ما وصل إليه حال الأمة الإسلامية الآن، وكما يشهد عليه الجميع، من تردٍّ على مختلف المستويات، وتكريس للخلاف بين المنتمين للتيار الإسلامي الذين علقت الأمة آمالها عليهم، بل منهم من استخدم من قبل الأجهزة الأمنية الحاكمة لضرب التيار الإسلامي نفسه، ومنهم من استخدمت سذاجته لضرب الأمة الإسلامية كلها، وتسبب في ذلك وساعد عليه، وحالة الصدام الذي وصل حد العداء المستحكِم مع أنظمة الحكم القائمة في كثير من بلاد الإسلام، والتي لم تتوان في البطش والتنكيل بأتباع ذلك التيار، في صراع بقاء صفري مرير، وذلك لأسباب واضحة سيأتي ذكرها لاحقا بإذن الله.. وللحديث بقية بإذن الله.
(المصدر: عربي21)