مقالاتمقالات مختارة

الكتاب ومكانته عند العلماء الحلبيين

الكتاب ومكانته عند العلماء الحلبيين

بقلم محمد عدنان كاتبي

تأثرت كثيراً عندما جاءني الخبر بأن المجرمين قد احتلوا بيتي في حلب، ولكن ألمي وحزني كان أشد عندما أخبرت بأن هؤلاء المجرمين قد دمروا مكتبتي وأحرقوها، مكتبتي التي قضيت في جمعها والحرص عليها أكثر من نصف قرن والتي تضم أكثر من ألفي عنوان، وفيها من الكتب النادرة وبعض المخطوطات الثمينة التي بذلت في سبيل الحصول عليها كل غال ونفيس، ولا حول ولا قوة إلا بالله،

وكنت كتبت بحثاً عن حب الكتاب والحرص عليه عند العلماء عامة وعند العلماء الحلبيين خاصة وسأعيد نشرة تسلية لنفسي بما بذله العلماء من جهد في سبيل الحصول على الكتاب ثمّ ما لاقوه من حزن وألم عند فقده.

كانت مدينة حلب ومنذ الفتح الإسلامي مركزا للعلم وموئلاً للعلماء، ومحط رحال الرحالة والباحثين من العرب وغيرهم، وذلك لأن أهلها ومنذ أن دخلوا في هذا الدين وتمكن في قلوبهم، أحبوه وانصرفوا إلى التفقه به، وتعلم شرائعه وأحكامه، فكثر فيهم العلماء والفقهاء والمحدثون.

واشتهر منهم أناس لا يحصيهم العدُّ، كما كثرت في المدينة المدارس الشرعية، وحلقات العلم ومجالسه.

وكان الكتاب عدتهم وجليسهم، فازدهرت في المدينة مهنة الوراقين والنُسَّاخ، واهتم أهلها باقتناء الكتب وحفظها، وتفننوا في تجليدها وتزيينها والمحافظة عليها, وذلك لأن العلماء وطلبة العلم منهم رأوا فيها مجالا رحباً للعلم والفائدة التي يمكن تحصيلها من مطالعتها والنظر فيها، بينما يرى الأغنياء وذوو الجاه والسلطان فيها زينة لبيوتهم، ومجلبة للعلماء إليهم والتفافهم حولهم, ومدعاة لكثرة زوارهم من طلبة العلم الذين يحتاجون هذه الكتب، فيلجئوون إليهم لاستعارتها منهم، فيزيدهم هذا شرفا وقدرا لدى العامة من الناس، أما الفقراء ومتوسطو الحال فهم يعتقدون أن اقتناء الكتب يبعد عنهم الفقر ويورث الغنى.

لذلك لم يخلُّ بيت أو مدرسة أو مسجد أو جامع أو زاوية أو تكية من مكتبة تضم نفائس الكتب وذخائرها, وكانوا لا يبالون في بذل كل جهد أو دفع أي مبلغ من المال

في سبيل الحصول على مخطوط نادر أو كتاب نفيس يقتنونه أو يستنسخونه.

وهذا الاهتمام بالكتاب واقتنائه والمحافظة عليه إرث مجيد أخذه الحلبيون من السلف الصالح (رضوان الله عليهم) الذين بذلوا حياتهم وما يملكون من غال ورخيص في سبيل تحصيل العلم واقتناء كتبه، رغم ما كانوا يعانون من شدة ومشقة وشظف في العيش.

ومن يتتبع أخبار هؤلاء العلماء، يجد العجب العجاب من إصرار سلفنا الصالح على طلب العلم واقتناء كتبه والمحافظة عليها، وتقديمها على أموالهم وأولادهم وأزواجهم بل على حياتهم أيضا.

فهذا الإمام الشافعي يروي لنا كيف كان يحصل على ما يكتب فيه العلم فيقول: (ثمّ لمّا خرجت من الكُتَّاب،كنت التقط الخزف وكرب النخيل وأكتاف الجمال فأكتب فيها الحديث وأجيء إلى الدواوين فأستوهب الظهور وأكتب فيها، حتى ملأت حِباباًـ جراراًـ كانت لأمي من ذلك)(1).

وهذا أبو جعفر القصري الفقيه الصالح يقول: (لي أربعون سنة ما جفّ لي قلم ـ يعني من كثرة ما ينسخ ـ وكان ربما باع بعض ثيابه واشترى بثمنه كتاباً أو رقوقاً لنسخ كتاب)(2).

وروي عن ابن المقرئ الأصفهاني أنه قال:(مشيت بسبب نسخةُ ــ مجموعة من الأحاديث الشريفة ــ المفضل بن فضالة المصري سبعين مرحلة، ولو عُرِضت على خباز برغيف لم يقبلها، ودخلت بيت المقدس عشر مرّات)(3)

أما القاضي أبو الحسن علي بن عبد العزيز الجرجاني المتوفى سنة 392هـ، صاحب كتاب (الوساطة بين المتنبي وخصومه) فهو يجد لذة العيش ويطعَمُ متع الحياة في مصاحبة الكتاب فيقول:

ما تطعمت لذَّة العيش حتّى= صرت للبيت والكتاب جليسا

ليس عندي أعزّ من العلـ= ـم فما أبتغي سواه أنيسا

والعلماء الحلبيون لا يقلون عن هؤلاء السلف الصلح باهتمامهم بالكتاب وحرصهم عليه، وبذلهم الغالي والرخيص لاقتنائه، وحزنهم وألمهم الشديد إن هم لم يستطيعوا الحصول عليه.

فالقاضي جمال الدين القفطي الحلبي المتوفى سنة 646هـ، صاحب كتاب (إنباء الرواة على أنباء النحاة) كان يسعى كل السعي في شراء الكتب واقتنائها وإحضارها من البلدان البعيدة بخطوط مؤلفيها، أو بخطوط أكابر العلماء المشهورين حتى اجتمعت له مكتبة جامعة نادرة المثال، قدر ثمنها بخمسين ألف دينار(4).

وله حكايات عجيبة في غرامه بالكتب، وقصته في ضياع كتاب(الأنساب) لابن السمعاني منه وحزنه عليه، واستدعائه من يندب عليه كما يندب على الميت، فهي مما يثير الدهش.

وكان للشيخ أحمد الحجار العالم الفقيه المحدث المتوفى، سنة 1278هـ غرام عجيب بالكتب وجمعها واقتنائها, فقد بلغت قيمة مكتبته بعد موته أربعين ألفاً مع أنها بيعت بغير أثمانها (يروى أنه رأى كتاباً يباع ولم يكن معه دراهم، وكان عليه ثياب فنزع بعضها وباعه واشترى الكتاب في الحال) (5).

أما الشيخ عبد الفتاح أبو غدة العالم المحدث المتوفى سنة 1417هـ, فكان ينذر أن يصلي لله كذا وكذا ركعة إن هو حصل على كتاب يطلبه، وربما باع أغلى ما يملك في سبيل الحصول على كتاب يهمه يقول: (كنت في أيامي الطلب والتحصيل مملقاً كأكثر طلبة العلم، وكنت أشتري من الكتب ما أستطيع شرائه بالاقتطاع من نفقتي الضيقة، بالنقد الحاضر أو بالدين الآجل إذا أمكن، وعرضت لي يوماً بعض كتب نادرة تهمني جداً, ورغبت في اقتنائها, لكنني كنت في إملاقٍ شديدٍ, فلا سبيل إلى شرائها, وقلق قلبي وخاطري من جراء ذلك, فبعت (شالتي) التي ورثتها عن أبي – رحمه الله – في سوق (الحراج) واشتريت تلك الكتب, وأرحت قلبي وخاطري، وفرحت لاقتنائها ووصولي إليها فرحاً عظيماً أنساني فقد (الشالة) والحمد لله) (6).

أما قصته في الحصول على كتاب (فتح باب العناية بشرح كتاب النقاية) فهي من العجائب(7).

ولهذا فقد كان حزنهم على فقد كتبهم أو ضياعها أشدّ

من حزن الأم على فقد وحيدها، وربما فقد أحدهم عقله لفقدها(8) أو أنشد القصائد المؤثرة في رثائها.

فد كان للأديب الشاعر أبي الحسن علي بن أحمد الفالي المتوفى سنة 448هـ نسخة من كتاب (الجمهرة) لابن دريد في غاية الجودة، فدعته الحاجة إلى بيعها، فاشتراها منه الشريف المرتضى بستين ديناراً، ولما تصفحها وجد فيها أبيات بخط بائعها وهذه الأبيات هي:

أنست بها عشرين حولا وبعتها= لقد طال وجدي بعدها وحنيني

وما كان ظنّي أنني سأبيعهـــا= ولو خلّد تني في السجون ديوني

ولكن لضعف وافتقار وصبية= صغار عليهم تستهل شؤوني

فقلت ولم أملك سوابق عبرتي= مقالة مكويّ الفؤاد حزيـــــن

(وقد تخرج الحاجاتُ يا أمّ مالك= كرائم من ربّ بهنّ ضنيـن)

فأرجع له النسخة وترك الدنانير(9) (رحمهم الله جميعا فما أعظم من البائع إلا المشتري), وتذكر كتب التراجم والتاريخ الكثير من العلماء الحلبيين الذين كان لهم اعتناء خاص بالكتب وجمعها والاعتناء بها.

(1) مناقب الشافعي للبيهقي 1\95

(2) صفحات من صبر العلماء على شدائد العلم والتحصيل للشيخ عبد الفتاح أبو غدّة ص192

(3) المصدر نفسه ص 63

(4) إعلام النبلاء 4\387

(5) المصدر نفسه 7\298

(6) صفحات من صبر العلماء على شدائد العلم والتحصيل ص278

وقد كان للشيخ عبد الفتاح أبو غدة مكتبة عظيمة ربما وصل عدد الكتب فيها إلى أكثر من ثلاثين ألف مجلد (مجلة الداعيات العدد 22 شوال 1417هـ) وانظر ترجمته في كتاب علماء من حلب في القرن الرابع عشر للمؤلف

(7) انظر القصة في المصدر السابق ص 279 – 281

(8) انظر الجانب السادس في أخبارهم في فقد الكتب أو ضياعها

في المصدر السابق ص 256 – 279

(9) المصدر السابق ص 264

(المصدر: رابطة العلماء السوريين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى