بقلم د. محمد الأمين مقراوي الوغليسي
كثيرة هي المسائل التي تطرح عند التطرق إلى موضوع الوجود الإسلامي في بلاد الغرب، سواء أكان ذلك في الكتابات الصحفية والعلمية أو المؤتمرات والملتقيات، مثل: مسائل الهوية والاندماج الواعي، والمشاركة السياسية، وبناء المساجد، ومشكلات الحجاب والنقاب، إلّا أن مسألة الصورة التي عليها المسلم في الغرب، والصورة التي يجب أن يقدمها المسلم هناك، تبقى من المواضيع التي لم تنل حقها من المناقشة والكتابة بشكل كافٍ؛ خاصّة أن صورة نمطية سلبية قد تكوّنت عن شرائح المقيمين في بلاد الغرب.
لماذا أهملنا الحديث عن صورة المسلم في الغرب؟
وأسباب إهمال الحديث عن الصورة النمطية للمسلم في بلاد الغرب عديدة كثيرة، أبرزها:غلبة نفسية البحث عن الحقوق على نفسية الأداء لدى المسلمين المهتمين بدائرة الأقليات المسلمة، وضُعف نفسية الشغف بالواجبات والتفاني في تحقيقها، والغرق في نظرية تقديس الذات، وتدنيس الآخر في خطابات عدد غير يسير من الخائضين في هذا الموضوع الحسّاس.بالإضافة إلى ضعف العمل الدعوي هناك؛ بسبب التكتلات الضيّقة، والتصورات القاصرة عن الإلمام بحقيقة الدعوة في بلاد غير المسلمين، وتميّز مختلف التنظيمات بطابعها العرقي، ما يجعل الكثير منها يسعى جاهدا نحو إخفاء حقيقة ما يحدث على الأرض؛ حفاظا على صورة العرق والقومية التي تنتمي إليها، مع عدم الشعور بالحرج الكافي عند رؤية الضرر الذي يلحق الإسلام والمسلمين، كما تحاول بعض الجهات تغطية هذه المظاهر خوفا من فقدان الدعم والتمويل، وهذا خطأ غير مقبول، فالتعامل أولاً وآخرا مع الله سبحانه وتعالى، وهو المعطي وهو المانع، والضارّ والنّافع.
ومما سبق ذكره من الأسباب التي باتت تتستر على ظاهرة الإسلام المشوّه في الغرب؛ يمكن أن نفسر سببعدم إعطاء هذا الأمر الخطير حقه من التنبيه والكتابة والمحاضرة غالبا، وإلّا فإن في أوساط الجاليات المسلمة والقائمين على العمل الإسلامي رجال يحبون الله ورسوله–صلى الله عليه وسلّم – ويَصِلُون الليل بالنّهار لخدمة الإسلام، ويقدمون الغالي والنّفيس لنصرة دينه، ورفع رايته، وتحسين صورته، إلا أنّ هذا لا يمنع من تنبيه بعضنا البعض إلى العناية بهذه الظاهرة السلبية كتابة وتقريرا، نصحا للمسلمين، عامتهم وخاصّتهم.
ومن الإنصاف الحديث عن هذه الظاهرة – تناولها القرآن في عدة مواضع – التي باتت تعيق العمل الدعوي هناك، مع تحديد المجالات التي تضررت بفعل هذه الظاهرة، والسعي لمعالجتها، والبعد عن محاولة تغطيتها بالتركيز على تصرفات اليمين المتطرف في أوروبا فقط.
القرآن يحذر من تشويه الإسلام:
يعتقد البعض أنّ الحديث عن هذه الحالة غير مطلوب، وليتهم ذهبوا إلى هذا الطرح بناءً على دراسات تأصيلية رصينة، بدل الركون إلى تبني أفكار مشوّهة غير رصينة، أنتجها التفكير بالمزاج.وبالعودة إلىالقرآن الكريم فإننا نجده قد حذر من ارتكاب ما يصد النّاس عن دين الله تعالى؛ بسبب الضرر الشديد الذي يلحق رسالة الإسلام من وراء تصرفات المنفرين غير المسؤولة، يقول الله تعالى:” وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ” [سورة النّحل- الآية 94]،يقول ابن كثير – رحمه الله – في تفسير هذه الآيات: “ثمّ حذّر تعالى عبادهُ عن اتخاذ الأيمان دخلاً أي: خديعةً ومكرا؛ لئلا تزلّ قدم بعد ثبوتها: مَثَلٌ لمن كان على الاستقامة فحاد عنها وزلّ عن طريق الهدى، بسبب الأيمان الحانثة المشتملة على الصد عن سبيل الله؛ لأنّ الكافرَ إذا رأى أنّ المؤمنَ قد عاهدهُ ثم غدر به، لم يبق له وثوق بالدين، فانصدّ بسببه عن الدخول في الإسلام،ولهذا قال: ( وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله ولكم عذاب عظيم) “.
ولأننا نعيش عصر ثورة الاتصالات الضخمة، فإنّ الآلة الدعائية الغربية قادرة على تصوير أي خطأ يرتكبه مسلم غير مسؤول وكأنّه خطأ أمّة بأكملها، وأنّه نابع من مبادئ وأحكام الشريعة الإسلامية، وليت ذلك يقف على مساحة معيّنة، بل إن الإعلام الغربي قادرٌ على نشر أخطاء المسلمين على مستوى القارات الخمس، في أقصر مدة وأسرع وقت، وهذا لا يخدم الدعوة الإسلامية، ولا يدعم المسلمين المناضلين لنيل حقوقهم عبر العالم؛ و وهذا لا يخدم الدعوة الإسلامية، ولا يدعم المسلمين المناضلين لنيل حقوقهم عبر العالم؛ وإذا كان النبي عليه الصلاة والسلام قد ترك قتل المنافقين في زمنه؛ خوفاً على الدعوة من أن ينالها التشوية، فإنّ على المسلمين في مختلف أقطار الأرض استحضار ذلك؛ فقد خاف عليه الصلاة والسلام على سمعة الدعوة، رغم بطء انتشار الأخبار؛ لتباعد البلدان والحواضر والقرى، فكيف بنا اليوم، والخبر يخرج في لحظة من شرق الأرض ليعم غربها في لحظة واحدة؟ فليتأمّل أهل الشأن والمسلمون في بلاد الغرب وغيرها هذا الأمر وليستحضروا دوما أن الحفاظ على سُمعة الدّعوة مسؤولية الجميع، وأن المقصّر فيها عمدا قد ارتكب جرما عظيما في حق الإسلام والأمّة.
حين يغيب مفهوم الرسالية عن المسلم:
لقد باتت مشكلة غياب الرساليّة في حياة المهاجرين إلى ديار الغرب تحرج المسلمين في مختلف بقاع الأرض، بسبب التركيز الإعلامي العالمي على أخطاء وتصرفات المسلمين؛ من أجل التأكيد على أنّهم أصحاب سوابق سيئة، وأنّهم يشكلون خطرا وعبأً على المجتمع الغربي، مع العلم أنّ السيّء من الأمور أوفر حظا في نيل التغطيات الإعلامية المكثفة، مع تمتعه – السيّء – بأفضلية انتشار مذهلة.
وقد شهدت السنوات الأخيرة تقارير سلبية عن تصرفات بعض المسلمين في بلاد الغرب، وأكدت عديد التصريحات التي أطلقها القائمون على العمل الإسلامي في ديار الغرب خطورة هذه الأعمال السيئة على مستقبل المسلمين هناك، حتّى أن بعضها طرح مسألة تناقص عدد المعتنقين للإسلام بسبب التفجيرات التي باتت أوروبا مسرحا لها، وبسبب ما أشرنا إليه سابقا من غياب الرسالية إلى درجة انعدامها في بعض الأماكن. حتّى أن التقارير التي وصلت بعض وزارات الشؤون الإسلامية في بعض الدول العربية أشارت إلى أن معدل المعتنقين للإسلام في أوروبا كان عشرة أفراد يوميا، لينزل إلى معدل فرد واحد في ذروة التفجيرات التي شهدتها أوروبا، وقد سُئل مفتي الإدارة الدينية في أوكرانيا سعيد إسماعيلوف عن ضعف انتشار الإسلام في أوروبا الشرقية وأوكرانيا فقال: يرجع ذلك إلى القوانين المحلية، وإلى الصورة السيئة التي يقدمها المسلمون عن الإسلام، وهذا مؤشر خطير للغاية، يستدعي الالتفات إليه بما يناسبه من الإجراءات.
بين السابقين واللاحقين: ما الذي تغيّر؟
في السابقمن العصور الإسلامية نجح الكثير من التجار المسلمين في الوصول إلى دول بعيدة مثل: الفلبين وماليزيا وإندونيسيا، فاستقروا بها، وصاهروا أهلها، وساهموا في إنشاء تجارات رائدة، وأسواق ناجحة، ما أدّى في النهاية إلى دخول الملايين من السكان في دين الله أفواجا، وبقي هؤلاء وأحفادهم يذكرون الفاتحين -فتحوها بالأخلاق الحميدة- بكل خير، يتناقلون سيرتهم جيلاً عن جيل،لكن الواقع الحالي يظهر تناقضا خطيراًبين سُفراء الإسلام السابقين وبين المسلمين المهاجرين الحاليين؛ فبدل تقديم صورة ناصعة عن الإسلام كما فعل السابقون من أجدادنا، قدّم الكثيرون سورة نمطية غير محمودة الفعال والعواقب، فإن كان المسلمون السابقون قد تمكنوا من تسويق نظام الأسرة في أحسن صورة وأبهى سيرة، فإنّالمعاصرين قد أخفقوا في ذلك إخفاقا مشهوداً، فظهرت مشكلة الزواج الأبيض، والتي كان يلجأُ إليها الشبابُ المسلم من أجل الحصول على الإقامة والجنسية، وبعض الامتيازات،كما ظهرت قضايا التحايل على البنوك، والسّطو على أموال النّاس، بعد انتشار فتاوى فاسدة تجيز ذلك -أصدرها بعض الجهلة الذين لا يلمون بأبسط أبجديات الفتوى- وترى حِلّ أموال غير المسلمين؛ والعجيب أنّ هذا الرأي هو نفسه رأي اليهود في غيرهم، قال الله تعالى:” وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَّا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَٰلِكَ بِأَنَّهُم ْقَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ “[ سورة آل عمران – الآية 75] حيث كان اليهود يستحلون التعاملات المحرمة في دينهم عند تعاملهم مع باقي الأمم والشعوب، ويدّعون كذبا وزورا أنهم شعب الله المختار، وأنهم المؤمنون وغيرهم كفار، يستحقون الخداع والتضليل، فكيف يقع المسلم اليوم في صنيع وقع فيه اليهود، فجلب لهم السخط والغضب واللعنة؟ وكيف تصل بهم الجراءة إلى تبرير ذلك بنصوص الوحيين؟
ظاهرة الطلاق الإسلامي في ديار الغرب:
قد تختلف المجتمعات البشرية في الاهتمام بمواضيع السياسة والاقتصاد، لكنّها تتفق في الاهتمام بالمواضيع الاجتماعية، وعلى رأسها قضايا الزواج والطّلاق، وقد ظهرت في العقدين الأخيرين ظاهرة الزواج بنيّة الطلاق، التي أدت إلى حدوث شرخ كبير بين المجتمع الغربي وبين المسلمين، وأدّت إلى حدوث مشكلات حقيقية للدعاة في أوروبا، خاصّة في المناطق الصغيرة مثل: القرى، والتي يعرف فيها النّاس بعضهم بعضا.
فظاهرة الزواج بالغربيات – اللّاتي اعتنقن الإسلام – قديمة في هذا العصر، لكن المتابع لها يلحظ أنّ أغلب الزيجات التي تمت بين العرب والغربيات انتهت إلى الطلاق؛ لأسباب عديدة، نذكر منها:
تناقض تصرفات وأفعال المسلم مع أحكام الشريعة الإسلامية، ومنها أيضاً: محاولةُ الكثيرين فرض العادات العربية والتركية والقوقازية والمحليّة على المسلمات الغربيات، وإلباس هذه العادات لباس القدسية الدينية، كما يُعدّ رفض الأسر العربية لزواج ابنهم من العجم، من أهم أسباب الطلاق؛ ولا يوجد سبب مقبول ومعقول لذلك؛ بل هي العنصرية في أبشع تجلياتها، ومن أسباب انتشار الطلاق بين المسلمات الغربيات والعرب وحتى القوقازيين والأتراك، استغلال الشباب المسلم الزواج لتحقيق مآرب شخصية، مثل: البحث عن الحصول عن وثائق الإقامة، وبعض الامتيازات، ولو ذهبنا نُفَصِّلُ في المسألة لذكرنا ما يندى له الجبين.
وقد أدّت هذه الظاهرة الخطيرة إلى ارتداد عدد غير يسير من المسلمات، خاصّة في أوروبا الشرقية، كما أدّت إلى أخذ الأُسر الغربية للمسلمات صورة سلبية عن المسلم، أمّا في أوروبا الشرقية وبسبب صعوبة الحياة وارتفاع نسب الفُقر والعنصرية، فإنّ الكثيرات لجأن إلى التخلي عن الحجاب من أجل إعالة أنفسهن وأطفالهن؛ خاصة من كان لها أولاد من هذا الزواج الفاشل، الأمر الذي يتطلب وقفة حقيقة وصادقة من القائمين على العمل الدعوي في ديار الغرب، بدل الصمت عن ظاهرة باتت تمزق الصورة النّاصعة للإسلام.
أخيرا وليس آخراً:
لقد تعددت الصور السلبية التي بات المسلمون في الغرب يسوقونها عن أنفسهم ودينهم، ولو كانت هذه الصورة محدودة لهان الأمر، غير أن الأمر قد بات يشكل ظاهرة مقلقة للعاملين في الحقل الإسلامي، والمتابعين له؛ لذلك وجب تشريح هذا الوضع، بتفصيل أكبر، والإتيان على أخطر الصور التي باتت تهدد العمل الإسلامي في الغرب وغيره من البلاد التي تحتضن أقليات جاليات مسلمة؛ لأجل ذلك خصصنا الجزء الثاني من هذا المقال لرصد صور أخرى لا تقل خطورة عن الصور التي ذكرناها هنا، مع بيان الواجب الذي يتحتم علينا القيام به لمعالجة تداعيات هذه الظاهرة المتنامية.
المصدر: الاسلام اليوم.