مقالاتمقالات مختارة

د. وصفي عاشور أبو زيد يكتب: محددات النظر الشرعي لزيارة القدس تحت الاحتلال

د. وصفي عاشور أبو زيد يكتب: محددات النظر الشرعي لزيارة القدس تحت الاحتلال

حين احتلت فلسطين فلابد من تغير الأحكام كما حدث، وتغير الأولويات والاهتمامات، سواء داخل فلسطين أو خارجها، ومن هنا أفتى عدد كبير من العلماء بحرمة زيارة القدس لاعتبارات كثيرة.

القدس ليست مجرد مدينة وإنما هي عقيدة عند المسلمين؛ وذلك لاحتوائها على مقدسات إسلامية أبرزها المسجد الأقصى الذي يعد أحد أكبر مساجد العالم، وأحد المساجد الثلاثة التي يَشُدُّ المسلمون إليها الرحال، وهو أيضًا ثالث الحرمين، وأولى القبلتين في الإسلام.

موجبات وضع محددات النظر الشرعي

ولقد ثارت قضية زيارة القدس تحت الاحتلال بين الفقهاء قبل بضع سنوات بعدما استقرت الفتوى على حرمة الزيارة، وأثيرت اليوم بشكل حاد خاصة بعدما رأى الشيخ د. أحمد الريسوني، رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، في جواب عابر على أسئلة حوار مشاهد جواز الزيارة وأنه ليس كل من زار يعد مطبعًا، وانهالت الردود على الرأي بين مؤيد ومعارض مما يجعلنا نضع هذه النازلة تحت المجهر الشرعي لنرى كيف سنتناولها لا سيما في ظل ما يعرف الآن بـصفقة القرن التي بدأت إجراءات تنفيذها على الأرض، وكذلك لأن القضية تتضمن مسائل كثيرة تحتاج للرأي الشرعي، ومن ذلك أحكام: الزيارة لأهل الديار، والزيارة لغير أهل الديار، والاضطرار للتعامل مع العدو من حيث: العملة وصرفها، الضرائب، زيارة سفاراتهم للتأشيرة، التوقيع على الالتزام بقوانينهم، الانقياد لمسؤوليهم من ضباط شرطة وموظفين في دولتهم، التجار، الفنادق والمطاعم .. وكذلك بيان مدى الحق في استصحاب المال، والحق في التبرع لأهلنا في الداخل، والحق في زيارة المؤسسات الخيرية الفلسطينية والتعامل معها، والحق في شراء العقارات وترميمها وبنائها .. كل هذه الأمور وزيادة تشكل رأيا عاما يصب في المنتج الأخير والفتوى المعتبرة، وهو ما يجعلنا نجتهد في وضع محددات النظر الشرعي في هذه القضية على النحو الآتي:

أبرز المحددات

أولا: تقرير حكم الزيارة من حيث الأصل:

وهو الندب لزيارة المسجد الأقصى حالة كونه محررا، وأنه تشد إليه الرحال؛ وذلك للنصوص التي صحت في ذلك، منها: حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “وَلاَ تُشَدُّ الرِّحالُ إِلّا إِلى ثَلاَثَةِ مَساجِدَ: مَسْجِدِ الحَرامِ، وَمَسْجِدِي، وَمَسْجِدِ الأَقْصى”. رواه البخاري ومسلم.

وعن أم سلمة هند بنت أبي أمية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “من أهلَّ بحجةٍ أو عمرةٍ من مسجدِ الأقصى إلى المسجدِ الحرامِ غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبِه”. أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه.

وحديث معاذ بن جبل رضي الله عنه : في الحث على الرباط والسكنى في بيت المقدس أو أي مكان من سواحل الشام وإن ذلك الرباط يعد جهاداً في سبيل الله تعالى إلى يوم القيامة. فقد ذكر القاضي أبو اليمن مجيز الدين الحنبلي في كتابه الأنس الجليل عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : “يا معاذ إن الله عزّ وجل سيفتح عليكم الشام من بعدي من العريش إلى الفرات، رجالهم ونساؤهم وإماؤهم مرابطون إلى يوم القيامة، فمن اختار منكم ساحلاً من سواحل الشام أو بيت المقدس فهو في جهاد إلى يوم القيامة”. والحديث له شاهد صحيح من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه عند الطبراني في معجمه الكبير.

وعن عائشة أنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : “صلاة في مسجدي خير من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الأقصى”. وهو حديث صحيح أخرجه أحمد بن حنبل في مسنده.

وغير ذلك من النصوص في السنة النبوية؛ فضلا عن وجود عدد كبير من الآيات القرآنية تذكر الأرض المقدسة، والمسجد الأقصى، والأرض، والربوة، والساهرة، وغير ذلك مما يدل على مكانة بيت المقدس وأهميتها عند المسلمين في أحكام الدنيا وأحكام الآخرة.

ثانيا: بيان طروء الاحتلال وتغيير الأحكام:

وحين احتلت فلسطين فلابد من تغير الأحكام كما حدث، وتغير الأولويات والاهتمامات، سواء داخل فلسطين أو خارجها، ومن هنا أفتى عدد كبير من العلماء بحرمة زيارة القدس لاعتبارات كثيرة ذكر أبرزَها العلامة د. علي القره داغي في بحث له منشور، متابعا في ذلك فتوى العلامة الشيخ يوسف القرضاوي، وقد سبقهما عدد من علماء الأزهر مثل الشيخ العلامة عبد الحليم محمود والعلامة جاد الحق علي جاد الحق، وغيرهما.

ثالثا: الرجوع لأهل الداخل الفلسطيني:

من المحددات المهمة للاجتهاد في هذه القضية الرجوع لأهل الداخل وبخاصة العلماء والخبراء الذين يجب استطلاع رأيهم في ذلك، فأهل مكة أدرى بشعابها كما قيل، ولا ينبئك مثل خبير، وهم أقدر الناس على الإفتاء في مثل هذه الموضوعات وتقدير المصالح والمفاسد، فقولهم لهم اعتبار أيّ اعتبار، والفتوى عليه تدار، ويتبع هؤلاء زعماء الحركات الجهادية سواء أكانوا في الداخل أو الخارج، فهم كذلك يجب اعتبار قولهم واستطلاعه؛ لأنهم يعيشون للقضية ومتشبعون بها ويعلمون ما يصلحها وما يفسدها.

رابعا: الرجوع لأهل التخصصات الفنية ذات الصلة:

وهذا أيضا من المحددات المنهجية المهمة والخطيرة التي لا يجوز إهمالها، وهم علماء السياسة وخبراؤها، وعلماء الاقتصاد وخبراؤه، وعلماء القانون وخبراؤه، وخبراء التخطيط والعسكرية والاستراتيجية والأمور الأمنية، وغير ذلك من تخصصات؛ اعتبارا بقوله تعالى: “فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون” [النحل: 43].، وقوله: “فاسأل به خبيرا” [الفرقان: 59]. فهؤلاء جميعا يجب أن يجتمعوا ويروا رأيهم بشكل منهجي علمي ثم تنبني على تقارير هؤلاء الخبراء فتاوى العلماء.

خامسا: تقدير المصالح والمفاسد:

وهو من أبرز المحددات إن لم يكن أبرزها في هذه القضية؛ وذلك لأنه ليس فيها نص بالمنع، ويرجع الحكم فيها إلى تقدير المصالح ثم تقدير المفاسد ثم الموازنة بينها، فإذا كانت المصالح أكثر يفتى بالجواز، وإذا كانت المفاسد أكثر يفتى بالمنع، والذي يقدر هذه المصالح أو المفاسد ليس علماء الشرع وحدهم، وإنما قبلهم وأهم منهم أهل الثغور والخبرة من أهل الداخل لا سيما العلماء، وعلى وجه الخصوص أهل الميدان والرباط والثغور منهم، وكذلك علماء السياسة والاقتصاد والأمن والقانون وغير ذلك مما أسلفناه، والضابط الكبير لهذا كله هو تحقيق دحر العدو وإجلاؤه، وتحرير مقدسات المسلمين وأسراهم، فكل ما يحقق هذه المصالح بلا مفاسد تزيد عليها يصار إليه ويفتى به.

سادسا: بيان ماذا تغير الآن حتى تتغير الفتوى من المنع للجواز:

كذلك من محددات الاجتهاد في القضية بما هي خاضعة لميزان المصالح والمفاسد وتقديرهما لعدم وجود نص مانع: قياسُ هذا الميزان وتقديره باستمرار، وبيان ما الذي تغير الواقع الآن عنه فيما مضى؛ حيث كانت الفتوى مستقرة بالمنع، فهل زادت مصالح الزيارة عن مفاسد؟ وهل رأى أهل الداخل ذلك؟ وهل ذهب أهل الذكر من المختصين بالعلوم الأخرى أن كفة المصالح رجحت كفة المفاسد؟ وإذا كانت رجحت فهل ستظل راجحة في سياقات صفقة القرن والهرولة للتطبيع من النظام اللعربي الرسمي؟ كل هذا يجب البحث فيه والتنقيب الدقيق المنهجي العلمي الفني، وأنا من أنصار إعادة التقدير الدائم للمصالح والمفاسد في هذه القضية لعدم وجود نص شرعي يقضي بالمنع بل النصوص متضافرة من القرآن والسنة على استحباب الزيارة في الأصل حال التحرر وعدم وجود احتلال، وكذلك لأن عمدة القضية والفتوى فيها هو تقدير المصالح والمفاسد وفق ما قررناه.

سابعا: الفتوى الشرعية بناء على ما سبق:

يأتي في النهاية دور الفقيه المفتي الذي ستوضع أمامه كل هذه التقديرات المتنوعة: السياسية والاقتصادية والأمنية والقانونية والعسكرية، ورأي أهل الداخل، ثم ينظر الفقيه المتمكن الواعي بمآلات فتواه في كل هذا ويصدر فتواه على هدى ونور، وهذا – في نظري – هو المنهج الصحيح للإفتاء في هذه النازلة وما على شاكلتها من النوازل، ومن الصعوبة بمكان أن يتصدر فردٌ مهما كان قدره ليفتي في ذلك وحده دون الالتزام بهذه المحددات الفنية كي تكون الفتوى مصنوعة صناعة صحيحة تحقق مقاصد الشرع وتراعي مصالح الناس، والله أعلم.

(المصدر: الجزيرة مباشر)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى