كفتارو ومعركة الإفتاء في مواجهة الشّيخ حسن حبنّكة الميدانيّ
بقلم محمد خير موسى
في عام 1948م دخل الشّيخ أحمد كفتارو السّلك الرّسميّ في الدّولة من خلال تعيينه مدرّسًا دينيًّا في محافظة القنيطرة، وفي عام 1950م نقل ليكون مدرّسًا دينيًّا في محافظة دمشق؛ الأمر الذي فتح له الأبواب للترقّي في مناصب الدّولة الدّينيّة وهو الذي كان يوجّه مريديه إلى الانخراط في سلك العمل الرسميّ ليبلغوا مواقع القرار والتّأثير.
-
الطّريق إلى الإفتاء العام
البوابة الأولى لبلوغ الشّيخ كفتارو ما يطمح إليه كانت تكمن في دخوله مجلسَ الإفتاء الأعلى، وفعلًا تحصّل له ذلك عام 1951م إثر تعيينه مفتيًا للشّافعيّة في دمشق في الخامس عشر من شهر آذار “مارس” من ذلك العام ليكون بشكلٍ آليّ عضوًا في مجلس الإفتاء الأعلى.
بلغت درجة التقارب بين الشّيخ كفتارو والنّظام الحاكم في سوريا أوجها عام 1957م حين غدا جزءًا من التّحالف البعثي الشّيوعي التّقدمي الاشتراكيّ
وكان الشّيخ كفتارو على درجةٍ عالية من القبول لدى المسؤولين الرّسميين في الدّولة السّوريّة وحكّامها الذين كانوا على اختلافهم وفي مختلف فترات تعاقبهم على الانقلابات المتسارعة يتبنّون الخطاب القوميّ البعيد عن الدّين عمومًا، والسّبب الرّئيس في قبولهم كفتارو يكمن في نوع الخطاب الذي يقدّمه تجاه غير المسلمين، فقد كان من دعاة الحوار والإخاء الإسلامي المسيحي وكانت هذه النقطة محلّ انتقاد واستنكار من مختلف الجماعات الدّعويّة وبالمقابل محلّ ترحيبٍ وتبنّي من الرّؤساء ورؤساء الوزراء المتعاقبين في سوريا.
وبلغت درجة التقارب بين الشّيخ كفتارو والنّظام الحاكم في سوريا أوجها عام 1957م حين غدا جزءًا من التّحالف البعثي الشّيوعي التّقدمي الاشتراكيّ في مواجهة التيّار الإسلاميّ والمؤسّسة الدّينيّة؛ هذا التّحالف لم يحدث شرخًا في المؤسسة الدّينيّة فحسب بل أحدث استقطابًا مجتمعيًّا غير مسبوق، وكان هذا التّحالف ضروريًّا بين يدي التربّع على كرسيّ الإفتاء العام.
-
إرباكات على طريق الإفتاء
من أهمّ الإرباكات التي حدثت في طريق الشّيخ كفتارو لتسلّم منصب الإفتاء العام تحقيقُ الوحدة بين سوريا ومصر، وحلّ حزب البعث بناءً على اتّفاق الوحدة.
كان المفتي آنذاك الشّيخ الطّبيب أبو اليسر عابدين الذي دخل في مواجهةٍ حادّة مع جمال عبد النّاصر عام 1961م عقب صدور قانون التأميم في العشرين من شهر تموز “يوليو” من تلكم السّنة، إذ طلب عبد النّاصر من الشّيخ أبو اليسر عابدين إصدارَ فتوى يشرّع فيها قانون التّأميم، فرفض المفتي ذلك بشدّة، فأقاله عبد النّاصر من منصب الإفتاء العام، ليقع الانفصال بعد ذلك بين سوريا ومصر في الثّامن والعشرين من أيلول “سبتمبر” من عام 1961م، وبعد شهرٍ واحدٍ أي في الثّامن والعشرين من شهر تشرين الأول “أكتوبر” صدر مرسوم بإعادة الشّيخ أبو اليسر عابدين إلى منصب الإفتاء في محاولةٍ لردّ الاعتبار له.
ومع قيام البعث بانقلابه التاريخيّ في الثّامن من آذار “مارس” عام 1963م الذي نقل سوريا إلى مرحلة جديدة ما تزال ماكثةً فيها حتّى يومنا هذا تمّت إحالة المفتي أبو اليسر عابدين إلى التّقاعد بعد عشرين يومًا من الانقلاب، والإعلان عن التّحضير لإجراء انتخاباتٍ على منصب المفتي العام في الرّابع من شهر تشرين الثّاني “نوفمبر” من عام 1964م، وتمّ تعيين الشّيخ عبد الرّزاق الحمصي مفتيًا عامًّا بالوكالة في الأوّل من نسيان “إبريل” لتسيير الفترة الانتقاليّة التمهيديّة للانتخابات العامّة.
-
المرشّحون وآليّة الانتخاب
عقب الإعلان عن موعد انتخابات المفتي العام في سوريا بدأ الحراك المشيخي للتّرشيح، فاستقرّ الأمر على اثنين من المرشّحين هما، الشّيخ أحمد كفتارو المدعوم من حزب البعث الذي يمثّل السّلطة الحاكمة وبيده مختلف مؤسساتها، والشّيخ حسن حبنّكة الميداني، شيخ الميدان المشهور بموقفه الحادّ من البعث ومن الشّيخ كفتارو في الوقت نفسه، والذي يمثّلُ المؤسّسة الدّينيّة التي تعدّ رابطة علماء الشّام واجهتها في ذلك الوقت، ومن الجدير ذكرُه في هذا الإطار أنّ من أكثر الذين ألحّوا على الشّيخ حسن حبنّكة الميداني للمشاركة في الانتخابات الشّيخ ملّا رمضان البوطي والد الدّكتور محمّد سعيد رمضان البوطي، وقد كان على طرفي نقيض من الشّيخ كفتارو.
كان الذين يحقّ لهم الإدلاء بأصواتهم واختيار واحد من المرشّحَين في هذه الانتخابات هم المفتون في المحافظات في الجمهوريّة السورية والقضاة الشرعيّون وأعضاء مجلس الإفتاء الأعلى ونقيب الأشراف لا غير؛ ونقيبُ الأشراف منصب مستمر من عهد الدّولة العثمانيّة يتقلّده أشهر المنسوبين إلى النبيّ صلى الله عليه وسلّم وكان نقيب الأشراف حينها الشّيخ سعيد حمزاوي الذي تمّ تعيينه بمرسوم من الرّئيس تاج الدّين الحسني في الثّاني والعشرين من شهر آب “أغسطس” من عام 1942م وهو آخر نقيب للأشراف في سوريا؛ إذ تمّ إلغاء هذا المنصب بمرسوم رئاسيّ أصدره نور الدّين الأتاسي في السابع من نيسان “إبريل” من عام 1970م.
-
المعركة الانتخابيّة
كان العددُ الكليّ للذين يحقّ لهم الانتخاب خمسة وثلاثين رجلًا ولم يكن بينهم أيّ امرأة، وبدأت تحرّكات الشّيخين وجماعتهما وأنصارهما لكسب أصوات هؤلاء النّاخبين.
وقبل الولوج إلى ما جرى في حمأة هذه المعركة الانتخابيّة لا بدّ من التأكيد أنّ هناكَ فرقًا شاسعًا في القدرة العلميّة الشرعيّة بين الشّيخ أحمد كفتارو والشّيخ حسن حبنّكة، فقد كان حبنّكة عالمًا راسخ القدم في علوم الشّرع المختلفة، وبالمقابل كان كفتارو هو الأكثر انتشارًا وشعبيّةً عند القاعدة الجماهيريّة العامّة.
فالمعركة الانتخابيّة لم تكن ترشيحًا للأعلم والأجدر لهذا المنصب بل كانت لها حساباتها السّياسيّة من جهة وحسابات الانتماءات إلى الجماعات من جهةٍ أخرى.
بدأت المعركة تتبلور باكرًا منذ الإعلان عن الانتخابات الذي جاء متزامنًا مع بداية بسط حزب البعث نفوذه وقبضته الحديديّة على مفاصل الدّولة فقام بإقالة العديد من المفتين والقضاة الشرعيين وتعيين مفتين وقضاة شرعيين ولاؤهم المطلق لحزب البعث، وهذا يصبّ في مصلحة مرشّح البعث للإفتاء الشّيخ أحمد كفتارو.
كانت هذه الإقالات والتّعيينات صاحبة التأثير الفعليّ والحقيقيّ في نتائج الانتخابات، غير أن هذا لم يمنع المرشّحين من محاولة حشد الأصوات لصالحهما عبر الكولسة وعقد التّحالفات وبذل الوعود لمرحلة ما بعد الانتخابات.
كانت قدرة الشّيخ أحمد كفتارو أقوى في التّحشيد والتّواصل، وقبل موعد الانتخابات بثلاثة أيّام دعا كفتارو المفتين ومديري الأوقاف القادمين من المحافظات إلى مزرعته وقام بضيافتهم وإكرامهم بنفسه على مدار ثلاثة أيام مع جولات من “السَّيَارين” والنزهات في غوطة دمشق.
بالرّغم من أنّ الذي جرى يبدو معركةً انتخابيّة تعكسُ صورةً زاهيةً للديمقراطيّة في ذلك الوقت إلّا أنّها في الحقيقة لم تكن سوى صورة لمعركة انتخابيّة موهومة
وفي يوم الانتخابات كانت النتائج لصالح الشّيخ أحمد كفتارو بفارق صوتٍ واحد إذ حصل على ثمانية عشر صوتًا في حين حصل الشّيخ حسن حبنّكة على سبعة عشر صوتًا.
-
ملحوظات على المعركة الانتخابيّة
عقب انجلاء غبار هذه المعركة التي ألقت بظلالها على المجتمع همومًا نشيرُ إلى ثلاث ملحوظات:
الملحوظة الأولى: بالرّغم من أنّ الذي جرى يبدو معركةً انتخابيّة تعكسُ صورةً زاهيةً للديمقراطيّة في ذلك الوقت إلّا أنّها في الحقيقة لم تكن سوى صورة لمعركة انتخابيّة موهومة، معركة انتخابيّةٍ تحت تحكّم النّظام وإدارته وإرادته، والتّباهي بها على أنّها كانت تمثّل صورةً من صور الدّيمقراطيّة الزّاهية في سوريا والتّغني دومًا بأنّها “آخر انتخابات للمفتين في سوريا” ما هو إلّا شعورٌ وهميّ بالقدرة على الاختيار، تمامًا ككلّ الانتخابات التي جرت في ظلّ حكم البعث بعد ذلك، فهو تعيينٌ بثوب الانتخاب الدّيمقراطيّ.
الملحوظة الثّانية: في هذه الانتخابات استطاع البعثيّون جرّ التيّار الإسلاميّ إلى فخّ الهزيمة للمرّة الثّانيّة عقب هزيمتهم في الانتخابات التّكميليّة عام 1957م، وفي كلا المرّتين كان ذراعهم لإيقاع الهزيمة بالتيّار الإسلاميّ وضرب المؤسّسة الدّينيّة هو الشّيخ أحمد كفتارو، فهذه الانتخابات وإن كان الفائز الظّاهر فيها هو كفتارو إلّا أنّها تسجّل انتصارًا جديدًا للبعث بتصدُّر مرشّحه عقب انتصاره بفوز مرشّحه البرلمانيّ رياض المالكي.
الملحوظة الثّالثة: لقد أسهمت هذه الانتخابات في زيادة الشّرخ في المجتمع الدّمشقيّ خاصّةً والسوريّ عمومًا الذي شهد استقطابًا حادًا، كما أنّها أوصلت الافتراق في المؤسسة الدّينيّة إلى نقطة اللّاعودة، لا سيما أنّ أوّل ظهورٍ للمفتي العام الشّيخ أحمد كفتارو كان بعد أقلّ من ثلاثة أشهر على انتخابه لمنصب المفتي العام في الجامع الأمويّ بعد قرابة أسبوع من المجزرة التي ارتكبها سليم حاطوم باقتحام صحن الأموي بالدبابات ومهاجمة الاعتصام المنعقد فيه والتي راح ضحيتها العشرات من الشهداء والمئات من الجرحى والآلاف من المعتقلين، فكان الظهور الأول لكفتارو عند بوابة الأموي ودماء المصلين فيه لم تجف مستقبلًا الرّئيس أمين الحافظ لأداء صلاة الفطر.
وقد قاطع كلّ علماء دمشق يومها صلاة الفطر في المسجد الأموي احترامًا لدماء الشّهداء وغضبًا واستنكارًا لجريمة سليم حاطوم والرئيس أمين الحافظ، ولم يكن في استقباله يومها سوى عمامتين، الأولى يعتمرها الشّيخ أحمد كفتارو، والثّانية للشيخ عادل الدّادا مدير الجامع الأمويّ وكان أيضًا من جماعة الشّيخ كفتارو.
هذا الموقف أحدثَ تصنيفًا حادًا من المؤسسة الدّينيّة وعموم المجتمع الدّمشقي والسّوري الغاضب للشّيخ أحمد كفتارو بوصفه أحد أفراد تلك المنظومة التي ارتكبت المجازر بحقّ المصلّين في الجامع الأمويّ بدمشق ومن قبله بجامع السّلطان في حماة.
ولكن ماذا كان موقف الشّيخ أحمد كفتارو من انقلاب حافظ الأسد عام 1970م ومن معاركه مع المؤسسة الدّينيّة والتيّار الإسلاميّ؟ هذا ما سنبحثه ــ بإذن الله تعالى ــ في المقال المقبل.
(المصدر: سوريا تي في TV)