المثقف الاستعمالي.. والدولة المدنية!
بقلم د. حلمي القاعود
يبرع المثقف الاستعمالي في اللعب بالمصطلحات المراوِغة لخدمة أفكار ورؤى وتصورات يُطلب منه أن يعبر عنها لغايات مخبوءة أو معلنة، وتُغلّف في كل الأحوال بشعارات فارغة أو ادعاءات فاسدة أو أكاذيب صارخة لدعم الاحتيال والتدليس والتضليل، ويبدو أن الغاية الأبرز في أدبيات المثقفين الاستعماليين ورعاتهم في القرنين الماضي والحالي؛ هي شطب الإسلام من الواقع العملي، وإتاحة المجال المفتوح لكل العقائد والملل والنحل عداه.
والسؤال: لماذا شطب الإسلام دون سواه من الحياة؟
الإجابة معروفة، وتتلخص في أنه يقف حائلاً دون الشر والانحراف، ويواجه الظلم والعدوان، ويفرض العدل ويحفظ الكرامة ويرفض القمع
والاستعباد، ويغطي بإنسانيته ورحمته خيمة البشرية.
المثقف الاستعمالي يَصمُ الإسلام بالإرهاب والتطرف والتشدّد، ورفض الآخر، واحتقار المرأة والعنصرية والطائفية، ويحرص في كل الأحوال أن يشي بمن يرون الإسلام ديناً ودنياً، وحياة وآخرة، وعقيدة وتطبيقاً، ورؤية وممارسة، ويستعدي السلطات المستبدة في داخل العالم العربي أو قوى الشر في العالم الخارجي التي يتقرب إليها بـ«النوافل» لينال من الفكرة الإسلامية، ويحطم وجودها، ولكن هيهات!
النماذج كثيرة للمثقف الاستعمالي الاستئصالي، وهي موجودة في معظم بلاد المسلمين إن لم يكن كلها، وهي صناعة غربية أو استبدادية، أو تطوعية، ويثاب المتطوع بوظيفة أو مكافأة أو ترقية.
ومن خصائص النموذج الاستعمالي أنه يتغير بزاوية مائة وثمانين درجة، ويتحول من شيطان مريد، إلى شيخ من شيوخ الفتوى والدعوة، والوعظ والإرشاد.
المثقف الاستعمالي الاستئصالي لا تعنيه الحرية ولا الكرامة ولا المساواة ولا العدل ولا قيم الحق والاستقامة، وإن تشدق كثيراً بهذه القيم، إنه ينظر إلى أعلى ليرى ماذا يُقال في أُفق مَنْ يملكون السلطة، فيردّده بسرعة البرق، ويزايد عليهم ليثبت أنه أكثر منهم حرصاً على ما يقولون، وأنه تحت أقدامهم إخلاصاً وولاء وانتماء، وهو ليس كذلك بالطبع!
شطب الإسلام
صارت بضاعة المثقفين الاستعماليين في مجال شطب الإسلام من الحياة معروفة، تشمل هذه البضاعة عدة أصناف يدور أكثرها حول العلمانية والحداثة والدولة المدنية والمواطنة وفصل الدين عن الدولة، والحجاب والنقاب، واضطهاد المرأة، وحقوق الإنسان المتمثلة في حقوق الشواذ (يسمونهم المثليّين)، وحق المرأة في الانطلاق لتعيش على هواها ومع من تحب، وتسلك السلوك الذي تراه صواباً ولو خالف الدين والأعراف والقيم.
هذه البضاعة الاستعمالية تعتمد على مرجعية الثقافة الغربية في أحطّ صورها وأسوأ تجلياتها، وتحمل ضمناً إدانة مسبقة للإسلام الذي يفترض -كما يدعي الاستعماليون- أنه ضد القيم الإنسانية! فضلاً عن تفسير الإسلام على هواهم دون اعتماد على مراجعه الأصيلة، وثوابته المعروفة، بل إن بعضهم لا يعترف أصلاً بالثوابت الإسلامية، ويراها منتجاً تاريخياً تراكمياً لا علاقة له بالوحي.
في الوقت الذي يبحث فيه بعض الأقوام (مثل اليهود) عن ثوابت وجذور وأصول تعزّز وجودهم، يضرب المثقفون الاستعماليون عرض الحائط بما لدى المسلمين من تراث حقيقي، ويطالبون بالانقطاع عن جذورنا العتيقة العريقة.
في الفترة الأخيرة، أثيرت بعض هذه القضايا بكثافة على صفحات الصحف والدوريات الرسمية في بعض البلدان العربية، وكأن قضايا الأمة التي تبحث عن توفير الخبز والدواء ومواجهة الغلاء واللصوص الكبار والصغار والظلم الاجتماعي والقمع الصارخ والطغيان القبيح، وبناء القوة الذاتية في مواجهة المخاطر الوجودية؛ أمور ثانوية أو هامشية لا تستحق الاهتمام والنقاش أمام الحديث عما يسمى الدولة الدينية والدولة المدنية، واتهام بعض الدساتير بأنها في تناقض مع ما تدعو إليه وما تتضمنه من مواد.
والتناقض من وجهة نظر الاستعماليين الاستئصاليين يتمثل في تضمين الدساتير مادة المرجعية الإسلامية التي تحكم النظام أو الأنظمة، ويصرح بعضهم أن مصطلح مدنية لا يختلف كثيراً عن مصطلح علمانية، لأنهما يتحدان في الدائرة الدلالية التي تشير إلى معنى واحد، هو فصل الدين عن الدولة، وتأكيد حقوق المواطنة لجميع المواطنين بالمساواة الكاملة بينهم بغض النظر عن عقائدهم أو مكانتهم الاجتماعية أو أصولهم العِرقية!
وكأن الإسلام يقوم على دولة كهنوتية تملك صكوك الحرمان والغفران، وتتحكم في إرادة الناس، وتظللهم بعنصرية مقيتة تميز بين المسلم وغيره، وينتفي فيها العدل والرحمة والمساواة.
وثيقة المدينة
يتجاهل هؤلاء أن الإسلام أقام أول دولة مدنية، كما تقول موسوعة «ويكيبيديا»، وأن أول وثيقة دستورية مدنية في التاريخ هي «وثيقة المدينة المنورة» التي وضعها الرسول صلى الله عليه وسلم بعد وصوله إليها مع المهاجرين؛ فقد قنّنت العلاقة بين المسلمين وغيرهم من سكان المدينة، وكتبت عنها موسوعة «ويكيبيديا»: «دستور المدينة أو صحيفة المدينة: أول دستور مدني في تاريخ الدولة الإسلامية، تمت كتابته فور هجرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة، وقد أطنب فيه المؤرخون والمستشرقون على مدار التاريخ الإسلامي، واعتبره أكثرهم مفخرة من مفاخر الحضارة الإسلامية، ومَعْلَماً من معالم مجدها السياسي والإنساني».
ويهدف دستور المدينة إلى تحسين العلاقات بين مختلف الطوائف والجماعات في المدينة، وعلى رأسها المهاجرون والأنصار واليهود وغيرهم، حتى يتمكنوا بمقتضاه من التصدي لأي عدوان خارجي على المدينة، وصارت المدينة المنورة دولة وفاقية رئيسها الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وصارت المرجعية العليا للشريعة الإسلامية، وصارت جميع الحقوق الإنسانية مكفولة؛ حرية الاعتقاد وممارسة الشعائر، والمساواة والعدل.
يقول المستشرق الروماني «جيورجيو»: «حوى هذا الدستور اثنين وخمسين بنداً، كلها من رأي رسول الله؛ خمسة وعشرون منها خاصة بأمور المسلمين، وسبعة وعشرون مرتبطة بالعلاقة بين المسلمين وأصحاب الأديان الأخرى، ولا سيما اليهود وعبدة الأوثان، وقد دُوّن هذا الدستور بشكل يسمح لأصحاب الأديان الأخرى بالعيش مع المسلمين بحرية، ولهم أن يقيموا شعائرهم حسب رغبتهم، ومن غير أن يتضايق أحد الفرقاء، وضع هذا الدستور في السنة الأولى للهجرة، أي عام 623م، ولكن في حال مهاجمة المدينة من قبل عدو عليهم أن يتحدوا لمجابهته وطرده».
مثقفونا الاستعماليون لا يطالعون هذا الكلام، أو يحجبونه عن القراء ليشطبوا الإسلام من الوجود الاجتماعي للدولة، ويجرّدوها من ملامحها الحضارية.
مدنية الدولة الإسلامية وقيامها على الشورى والعدل والمساواة وتوحد عناصرها المختلفة أمام الخطر الخارجي، هو الصورة التي تعيش عليها الدول التي يسمونها ديمقراطية، وتعد دولاً متقدمة بالقياس إلى غيرها.
كي لا يكون الكلام نظرياً ومجرداً، فإن قراءة الوثيقة قد تذكّر مثقفينا الاستعماليين بحقائق الإسلام وأباطيل خصومه، وتكشف عن مصادر القوة في التشريع الإسلامي، الذي يفوق تشريعات الغرب أو المركزية الأوروبية التي يضرب بها المثل في إنسانية التشريعات، مع أنها في الواقع تفيض عنصرية وبغضاً لكل جنس لا ينتمي إلى الجنس الأبيض.
نتائج مهمة
ومن يتأمل هذه الوثيقة (وثيقة المدينة) يخرج منها بمجموعة من النتائج المهمة، أبرزها:
1 – وحدة الأمة التي تعيش داخل المدينة.
2 – حرمة الدم بغير الحق.
3 – رفض الظلم في صوره كافة من أي طرف من الأطراف التي تعنيها الوثيقة.
4 – التضامن بين أهل المدينة في السراء والضراء.
5 – المشاركة في الدفاع عن المدينة ضد الأخطار الخارجية والداخلية.
6 – المدينة حرم آمن لأهل الصحيفة، ولا يجوز لطرف أن يخلّ بالأمن داخلها.
7 – المرجعية لله ورسوله؛ أي التشريع الإسلامي، ومحمد صلى الله عليه وسلم هو الرئيس الأعلى للمدينة.
وأظن أن
هذا النظام سبق أفضل نظام موجود على ظهر الأرض الآن، يضم جماعات متباينة عقدياً وفكرياً، ومختلفة في المقاصد والغايات الدينية والدنيوية، ولكن النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم وضع أساساً متيناً لعلاقة اجتماعية ترعى الحقوق والواجبات، وتحفظ الدم والعرض، والمال والثروات، وتحقق الأمن والسلام، وتواجه الخطر الخارجي يداً واحدة بالسلاح والمال. وترجع إلى الله ورسوله فيما يعترضها من متاعب أو عقبات.
هل هناك دولة في القديم أو الحديث وضعت مثل تلك الأسس الراسخة لوطن يأمن فيه الناس على معتقداتهم ودمائهم وأعراضهم وأموالهم؟ ثم يأتي من يزعم أن المرجعية الإسلامية تتناقض مع مدنية الدولة!
(المصدر: مجلة المجتمع)