كتب وبحوث

نشأة القوميَّة العربيَّة ودورها في إسقاط الخلافة الإسلاميَّة 3من 7

نشأة القوميَّة العربيَّة ودورها في إسقاط الخلافة الإسلاميَّة 3من 7

إعداد د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن

دور الدَّولة العثمانيَّة في حماية الهويَّة الإسلاميَّة

يفرد محمَّد جلال كشك مساحة كبيرة في مؤلَّفه للحديث عن نشأة الدَّولة العثمانيَّة أواخر القرن الثالث عشر الميلادي، واكتسابها مقام الخلافة عام 1517م، بعد دخول جنودها مصر، واقتيادها آخر خلفاء بني العبَّاس، الذي كانت مصر مقرَّ خلافته منذ عام 659ه/1260م، إلى إسطنبول للتَّنازل عن الخلافة لصالح السُّلطان سليم الأوَّل ليكون أوَّل سلطان عثماني يتقلَّد مقام خليفة المسلمين. ويعتبر كشك أنَّ التعامل بإنصاف مع تاريخ الدَّولة العثمانيَّة يقتضي دراسته بمنأى عن المصادر الأوروبيَّة التي تناولته، محدِّدًا بإيجاز أهمَّ إيجابيَّات الدَّولة العثمانيَّة، وهي أنَّها “كانت آخر حاجز إسلامي في وجه صليبيَّة أوروبا، وأنَّها هي التي منعت الغزو الصَّليبي للعالم الإسلامي، على الأقل من بوَّابته الأماميَّة، طوال ثلاثة قرون، وهي التي حالت دون احتلال الوطن العربي أربعة قرون كاملة، فمنعت فناءه القومي” (صـ109). ولكثرة تناوُل تاريخ نشأة الدَّولة العثمانيَّة وتعاظُمها ثم سقوطها بفعل مؤامرات أعداء الإسلام، خاصَّة في الدِّراسة بعنوان “الشَّريعة الإلهيَّة والدِّيموقراطيَّة الليبراليَّة: أيُّهما أحقُّ أن تقوم عليه دولة العدل؟“، فلا يوجد جديد في الإشارة إلى ما ذكره كشك في هذا السِّياق، ولعلَّ في الفقرة التَّالية ما يوجز رأيه في أسباب تشويه المؤرِّخين الغربيين تاريخ الدَّولة العثمانيَّة ونفي صفة الخلافة عنها (صـ110):

كان من الطَّبيعي أن يبرّر هؤلاء الذّئاب حرْصهم على تحطيم الدَّولة العثمانيَّة واقتطاع أجزائها…تبرير بدافع إنساني وتقدُّمي…لا بدَّ أن تكون الفرية رجعيَّة وكريهة وجديرة بالبقاء حتَّى تغدو عمليَّة غزوها إنسانيَّة رحيمة، ومن أجل تقدُّم البشريَّة وتحرير الشُّعوب البائسة من النَّير التُّركي…رسالة الرَّجل الأبيض الَّذي حمَّلته الأقدار مسؤوليَّة تحرير كلّ الجنس البشري.

وردًّا على مزاعم أنَّ العنصر التُّركي، غير العربي، كان وراء تخلُّف الأمَّة العربيَّة وسرُّ كبوتها، يستعرض المفكِّر الإسلامي دور المسلمين من غير العرب في حماية العالم العربي، ضاربًا المثل بالبطل الكُردي صلاح الدِّين الأيُّوبي، الذي خلَع العاضد، آخر خلفاء الدَّولة الفاطميَّة، وتولَّى مهمَّة التصدِّي للخطر الصَّليبي، الذي تواطأ الفاطميون معه نكاية في أهل السُّنَّة من العرب. ومن بعد صلاح الدِّين، تولَّى مماليك دولته الأيُّوبيَّة، وهم من التُّرك والقوقازيين، مهمَّة التصدِّي للزَّحف المغولي ودحْر باقي الحملات الصَّليبيَّة، منذ نهاية الدَّولة الأيُّوبيَّة عام 1250م، واستمرَّت دولة المماليك حتَّى دبَّ فيها الضَّعف، لتسقط عام 1517م على يد العثمانيين، الذين تولُّوا بدورهم مهمَّة حماية العرب من “الإبادة الشَّاملة التي جُرِّبت مع العرب في الأندلس، ثمَّ مع السُّكَّان الأصليين في العالم الجديد” (صـ168). يعيد كشك ويشدِّد على أنَّ سيطرة العثمانيين، مع اعترافه بـ “تخلُّفهم وجرائمهم وظلمهم”، على مقاليد الأمور في العالم الإسلامي “ضرورة تاريخيَّة” اقتضت انتقال السُّلطة إلى قوَّة عسكريَّة فتيَّة من أبناء الإسلام “لصدِّ خطر الإفناء الصَّليبي الذي صاحَب نهضة الإفرنج واكتشاف رأس الرَّجاء الصَّالح، وبداية عصر الكشف والنَّهب الاستعماري” (صـ175). ويشير كشك إلى ما سبقت الإشارة إليه في دراسة “الشَّريعة الإلهيَّة والدِّيموقراطيَّة الليبراليَّة: أيُّهما أحقُّ أن تقوم عليه دولة العدل؟“، من تسبُّب التفوُّق التقني الغربي في تطوير الأسلحة في تراجُع القوَّة العثمانيَّة وخسارتها المتواصلة لأراضيها، التي تعرَّضت منذ النِّصف الثاني للقرن التَّاسع عشر للاستعمار الغربي.

نشأة مفهوم القوميَّة في آخر سنوات الدَّولة العثمانيَّة

كانت دعوة أعضاء حركتي تركيا الفتاة والاتحاد والتَّرقي إلى إحياء القوميَّة الطُّورانيَّة وتطبيق العلمانيَّة بالاحتكام إلى دستور وضعي، إيذان بانهيار دولة الخلافة وتعبير عن تلاعُب أيادي الغرب الخبيثة بمصير الأمَّة المسلمة. وقد صَاحَب تلك الدَّعوة دعوةٌ مماثلة لنشر الفكر القومي العروبي في الولايات العربيَّة التَّابعة لدولة الخلافة على يد عملاء بريطانيا. غير أنَّ تلك النَّزعة للقوميَّة غير الإسلاميَّة قاومتها نزعة مضادَّة للعودة إلى الإرث الإسلامي المشترك وتأسيس رابطة للعالم الإسلامي. وقد حرص السُّلطان عبد الحميد الثَّاني (1876-1909م) في أواخر عهده على تأسيس “جامعة إسلاميَّة” تحمل شعار “يا مسلمي العالم اتَّحدوا”؛ ولعلَّ في ذلك ما أخَّر سقوط دولته بضعة عقود (صـ192). ويختصر كشك رأيه في عبد الحميد الثَّاني بقوله (صـ201):

رحم الله عبد الحميد…

كان ملكًا مستبدًّا…يقيم حُكمه على الجواسيس، ويدير ساسته شرُّ حكومات الأرض…رشوة…وخيانة وتجسُّس وعمالة لشتَّى دول أوروبا.

كان في بلاطه وفي حكومته عملاء لقيصر روسيا وحكومة فرنسا…وحشْد هائل من عملاء المخابرات البريطانيَّة…بل وإيطاليا والنَّمسا وألمانيا…وكان في جيشه وحاشيته وحكومته أكثر من عميل للصُّهيونيَّة…وبل يهود يخفون ديانتهم للتَّآمر.

وجدت فكرة الجامعة الإسلاميَّة مقاومةً من داخل ديار الإسلام، على يد معتنقي الفكر الغربي، من مبتعثيّ الأزهر الشَّريف إلى الجامعات الأوروبيَّة والمنبهرين بالمنجزات الحضاريَّة الغربيَّة والرَّاغبين في مسايرة الغرب للوصول إلى ما أنجره من تقدُّم مادِّي. ويأتي على رأس “الذين عادوا الإسلام والجامعة الإسلاميَّة”، وبالتَّالي “لم يخلصوا للعروبة، بل كانوا بردًا وسلامًا على الغزو الاستعماري للوطن العربي” جمال الدِّين الأفغاني ورشيد رضا ورفاعة الطَّهطاوي ومحمَّد عبده وشكيب أرسلان، وغيرهم من أعلام الفكر العربي مطلع القرن العشرين، ممَّن هاجموا الدَّولة العثمانيَّة و “بحجَّة مقاومة السِّيادة العثمانيَّة الوهميَّة تعاونوا مع المحتل لبلادهم” (صـ207). ومع استشعار الغرب خطورة البعث الإسلامي، استُخدمت حركة تركيا الفتاة، التي كان من بين مؤسسيها وكبار أعضائها يهود الدُّونمية وعملاء الغرب وأعضاء المحافل الماسونيَّة، من الخلف في إشعال ما عُرف بـ “ثورة تركيا الفتاة” عام 1908م، للمطالبة بالعمل بالدُّستور الوضعي الذي أوقف السُّلطان عبد الحميد الثَّاني العمل به عام 1878م، لتنتهي تلك الثَّورة بخلع عبد الحميد الثَّاني عام 1909م، وتحديد إقامته في منزل متواضع في مدينة سلانيك، ثاني أهم معقل ليهود الدُّونمة بعد إزمير، حتَّى لقي ربَّه عام 1918م. وبرغم تعهُّد السُّلطان محمَّد الخامس، أخ عبد الحميد الثَّاني وخليفته، بمراعاة الشَّريعة الإسلاميَّة في سياسة الحُكم، في خطاب تنصيبه عام 1909م، فقد تراجَع عن عهده، وطبَّق نظامًا دستوريًّا قادة أعضاء جمعيَّة الاتحاد والتَّرقي، آخر البلاد إلى الهاوية.

نشأة الحركات القوميَّة العربيَّة

عبثًا حاول المخلصون لدولة الخلافة الإسلاميَّة إنقاذها من خلال الانقلاب على أرباب السُّلطة من أعضاء جمعيَّة الاتحاد والتَّرقي، أو الاتحاديين، أو تأسيس حزب معارض يقوم على اللامركزيَّة في الحُكم، بحيث تُرفع يد الاتحاديين عن الولايات العربيَّة التَّابعة للدولة العثمانيَّة. لم يكن العرب يفكِّرون في الانفصال عن دولة الخلافة إلَّا بعد نشْر الفكر القومي، في تركيا ذاتها قبل الولايات العربيَّة، وكان هدفهم حماية العالم العربي من الزَّحف الاستعماري الغربي، الذي لم يأتِ لنشر قيم التحرُّر والعدالة والتقدُّميَّة؛ إنَّما لإخراج المسلمين من ملَّتهم وإلحاقهم بالغرب الصَّليبي. وكان لحُكم الاتحاديين دوره في دفْع العرب إلى المطالبة بالانفصال عن الدَّولة العثمانيَّة، بما مارسوه من بطْش منهجي؛ فصار المستعمر الأوروبي كما المنقذ. كان من الطَّبيعي أن يفكر العرب في تنظيم انتفاضة إسلاميَّة على الأوضاع الجائرة في السَّنوات الأخيرة للدَّولة العثمانيَّة، ولكن لم تكن مخابرات الاستعمار الغربي لتترك تلك الانتفاضة تؤدِّي دورها المأمول؛ فما كان من أيدي العبث إلَّا أن تتَّخذ خطوتين في سبيل إجهاض الثَّورة العربيَّة. أمَّا عن الخطوة الأولى، كما يرى كشك، فهي اتِّخاذ هويَّة للعالم العربي غير الهويَّة الإسلاميَّة “باختراع القوميَّة العلمانيَّة…وتحويل الثَّورة ضدَّ الاتحاديين إلى ثورة ضدَّ الدَّولة العثمانيَّة، ضدَّ الخلافة، وبالتَّالي معاداة الإسلام أو الانفصال عنه” (صـ277). وأمَّا عن الثَّانية، فهي حصر حركة الانفصال عن الدَّولة العثمانيَّة في الجانب الآسيوي من العالم العربي؛ فالجانب الإفريقي كان قد احتُلَّ بالفعل، وكانت عمليَّة العلمنة تجري فيه على قدم وساق من خلال التَّبشير والدَّعوة إلى مدنيَّة الدَّولة بإبطال الشَّريعة والاحتكام إلى القوانين الوضعيَّة. لن ننسى كذلك أنَّ الجانب الأسيوي كان يضمُّ المقدَّسات الإسلامية، وعلى رأسها الحرمين الشَّريفين في الحجاز والمسجد الأقصى في الأرض المقدَّسة، وكان المخطط المعلن حينها هو إخضاع تلك المنطقة لسُلطان الشَّريف الحسين بن عليّ، الذي أوهمه الاستعمار البريطاني بأنَّه أولى بالخلافة من الأتراك.

نشطت في العقد الأوَّل من القرن العشرين حركات قوميَّة يصفها كشك بـ “المشبوهة” كان مقرُّها العواصم الأوروبيَّة، وينقل عن إلياس مرقص ما أورده في كتابه نقد الفكر القومي (1966م)، عن أنَّ عمل تلك الحركات وما شنَّته من هجوم على العثمانيين كان بتحريض من الدُّول الاستعماريَّة الكبرى. وكان لفرنسا الدَّور الأكبر في تحريض المعترضين على الأوضاع داخل الدَّولة العثمانيَّة، وكان أكثر هؤلاء من المسيحيين. وكما يذكر الدُّكتور مدَّثر عبد الرَّحيم في مقاله “الإسلام والقوميَّة في الشَّرق الأوسط”، كانت باريس مقرَّ أوَّل مؤتمر عربي نادى بالقوميَّة تحت اسم “المؤتمر العربي الأوَّل”، في صيف عام 1913. ولعلَّ من أشهر مسيحيي العالم العربي الذي أسَّسوا حركات قوميَّة معادية للدَّولة العثمانيَّة انطلق من فرنسا، اللبناني نجيب العازوري، مؤسس جمعيَّة عصبة الوطن العربي، أو جامعة الوطن العربي، في باريس عام 1904م، وهو كذلك من أوائل دُعاة تقسيم الشَّام وفصل لبنان المسيحيَّة في دولة مستقلَّة. ولبثِّ أفكاره المسمومة الدَّاعية إلى إحياء القوميَّات وتمزيق وحدة دولة الخلافة، ألَّف العازوري كتابًا أطلق عليه يقظة الأمَّة العربيَّة عام 1907م، ويوحي اسمه بأنَّ هدفه هو إشعال الحس القومي لدى العرب لنبذ وحدتهم على أساس الدِّين وللمناداة بالانفصال عن دولة الخلافة؛ وقد أصدر المفكِّر اللبناني القومي مجلَّة تحت اسم “الاستقلال العربي” لخدمة الغرض ذاته. ويتأسَّف كشك على أنَّ المفكِّر القومي ساطع الحُصري اعتبر أنَّ نجيب العازوري بكتاباته يمثِّل بداية الفكر العروبي، مشيرًا إلى أنَّ إدوارد عطيَّه قد ذكر في كتابه العرب (1958م) أنَّ العازوري، الذي تغزَّل فيه ساطع الحُصري، قد دعا إلى عدم استقلال بريطانيا عن مصر، كما نفى عن مصر عروبتها. أمَّا عن أهداف “المؤتمر العربي الأوَّل”، فلم تكن التَّصدي للغزو الصَّليبي الأوروبي، إنَّما التآمر لإسقاط ما بقي من دولة الخلافة، قبيل الحرب العالميَّة الأولى.

تزامنًا مع اندلاع الثَّورة العربيَّة وانهزام القوَّات العثمانيَّة في الحرب العالميَّة الأولى، بدأ في العقد الثَّاني من القرن العشرين تيَّارٌ ينادي علنًا بفصل سوريا عن العالم العربي؛ فقد تأسَّست الجمعيَّة المركزيَّة السُّوريَّة عام 1917م في باريس، ونادت بإلحاق سوريا بالوصاية الفرنسيَّة، بدعوى أنَّ السُّوريين يميلون إلى فرنسا ويتجاوبون معها ثقافيًّا. ويذكر كشك أنَّ “بعض الجاليات السُّوريَّة المتطرِّفة في مصر وأمريكا وأستراليا” طالبت علنًا بفصل مسألة سوريا عن القضيَّة العربيَّة، زاعمين أنَّ سوريا “لا تمتُّ إلى العنصر العربي” (صـ290). ويعلِّق كشك على بداية الحركة القوميَّة المحسوبة على العرب بقوله (صـ290):

وهكذا نرى أنَّ الحركة قد بدأت دائرة مرسومة بعناية…تبعدها تمامًا عن مناطق الاحتلال الغربيَّة وتترك لها حريَّة الحركة المرسومة في المناطق الَّتي تحكمها تركيا…مع قطْع باتر لكلّ صلة بالممتلكات الأوروبيَّة، حتَّى ولو كانت قلْب العروبة ومن صميمها…بل ويسكنها غالبيَّة العرب…فلمَّا اصطدمت المصالح الفرنسيَّة والإنجليزيَّة حول تقسيم التّركة، بدأ شعار العروبة يتلوَّى ورايتها تنبسط وتنحسر وفقًا لاتّجاهات الرّيح الإنجليزيَّة أو الفرنسيَّة، وأخيرًا الأمريكيَّة والرُّوسيَّة.

بداية الحركة القوميَّة في مصر

كما سبقت الإشارة، كان للأزهريين المبتعَثين إلى فرنسا في عهد محمَّد علي (1805-1848م)، والي مصر العثماني الذي اكتسب حقَّ توريث حكمها في سلالته بمساعدة الغرب الصَّليبي، الدَّور الأكبر في نقل الفكر التَّقدُّمي إلى مصر حينها، واللعب على وتر الانتماء العروبي. غير أنَّ الانطلاقة الحقيقيَّة للحركة القوميَّة في مصر كانت على يد القائد العسكري والزَّعيم السياسي المصري، تركي الأصل، عزيز باشا المصري. تلقَّى المصري تعليمه العسكري في تركيا في أكاديميَّة الجيش التركي، وانضمَّ خلال إقامته في إسطنبول إلى جمعيَّة الاتحاد والتَّرقِّي، وشارك في خلْع السُّلطان عبد الحميد الثَّاني عام 1909م، ليؤسس بعد عودته إلى مصر جمعيَّة سريَّة تحت اسم جمعيَّة العهد، سارت على نهج الاتحاد والتَّرقِّي في نشْر الفكر القومي والدَّعوة إلى الانفصال على دولة الخلافة. لم يكن مستبعدًا أن يشارك عزيز المصري، بزعم التخلُّص من الاستبداد العثماني، الذي لم يُفرَّق بينه وبين استبداد المتسلِّطين من الاتحاديين، في تجهيز القوَّات المصريَّة المشاركة في الثَّورة العربيَّة بداية من عام 1916م. كما يذكر كشك، أراد عزيز المصري تأسيس دولة فيدراليَّة، أو اتحاديَّة، تضمُّ ولايات الدَّولة العثمانيَّة في كيان واحد، على أن تكون لكلٍ حكومتها مستقلَّة القرار، على أن تشمل تلك الدَّولة، إلى جانب التُّرك والعرب، كافَّة الولايات التي استقلَّت عن الدَّولة العثمانيَّة. غير أنَّ جهود المصري أُحبطت، وحُكم عليه بالإعدام، ليُخفَّف الحُكم إلى النَّفي، بعد مظاهرات حاشدة خرجت لأجله.

ثورة لورانس العرب وبداية القوميَّة العربيَّة

يذكِّر محمَّد جلال كشك بتدبير المخابرات البريطانيَّة، بأذرعها الممتدَّة في المؤسسات التبشيريَّة والتعليميَّة والثَّقافيَّة، ثورة تعصف بالدَّولة العثمانيَّة وتقضي على ما بقي من وحدة للشُّعوب المسلمة. ويتحسَّر المفكِّر الإسلامي على مشاركة الهاشميين في تلك المؤامرة على ديار المسلمين، التي كانت شرارة انطلاق ما يُعرف بـ “القوميَّة العربيَّة”. ويبرِّر الدِّبلوماسي البريطاني أنتوني ناتنج في كتابه العرب (1964م)، تأييد الحلفاء (المملكة المتَّحدة لبريطانيا العظمى وإيرلندا، وفرنسا والإمبراطورية الروسيَّة) استقلال الحجاز في دولة منفصلة عن الدَّولة العثمانيَّة، بأنَّ تلك الدَّولة الجديدة كان أوَّل كيان للعرب في العالم الدُّولي. وينقل كشك عن ناتنج قوله في مدْح الثَّورة العربيَّة (صـ303):

وفائدة الثَّورة العربيَّة الكبرى للعرب هي أنَّها بفضل انضمامها للحلفاء وتعاونها معهم وأخْذها عليهم العهود والمواثيق بالاستقلال…أنقذت بلاد العرب وأدخلتها في دائرة الشُّعوب المنتصرة الغالبة…وجعلت حكومتهم الجديدة في عداد الدُّول المؤسّسة لعصبة الأمم…وتلك كانت مزية كبرى أيضًا.

ويتعجَّب كشك من سبب تسمية “الثَّورة الهاشميَّة” بـ “الثَّورة العربيَّة الكبرى”، متحديًا ادِّعاء بعض القوميين أنَّ تلك الثَّورة استهدفت استقلال الأقطار العربيَّة تحت مظلَّة دولة عربيَّة كبرى تراعي الهويَّة العربيَّة المشتركة (ص305).  ومن المفارقات واجبة الذِّكر أنَّ دستور حزب البعث الذي أسَّسه المسيحي ميشيل عفلق، تنصُّ المادَّة التَّاسعة فيه على أنَّ “راية الدَّولة العربيَّة هي راية الثَّورة العربيَّة التي انفجرت عام 1916م، لتحرير الأمَّة العربيَّة وتوحيدها”، وهذا ما يثير دهشة كشك؛ لأنَّ تلك الثَّورة لم تحقِّق شيئًا ممَّا وعدت به. هذا وقد وقع الاتفاق بين بريطانيا وشريف مكَّة، الحسين بن عليّ، على أن يتعاون الأخير مع المستعمر البريطاني الأنغليكاني في إجلاء القوَّات العثمانيَّة عن جزيرة العرب والشَّام والعراق، على أن تعترف بريطانيا في المقابل باستقلال البلاد العربيَّة من أدنه الواقعة جنوب تركيا حتَّى الخليج الفارسي شمالًا، ومن إيران حتَّى خليج البصرة (الخليج العربي) شرقًا، ومن المحيط الهندي للجزيرة جنوبًا، باستثناء عدن، ومن البحر الأحمر والبحر المتوسِّط حتَّى سيناء غربًا. ووُعد الشَّريف الحسين، الذي خاطبه هنري مكماهون، المفوَّض السَّامي البريطاني في مصر، باعتباره “الحبيب النَّسيب، سلالة الأشراف وتاج الفخَّار، فرع الشَّجرة النَّبويَّة والدَّوحة القرشيَّة الأحمديَّة”، بأن يُعلن خليفةً للمسلمين بتأييد بريطانيا ومباركتها (صـ307). ويستنتج كشك أنَّ التقسيم الذي اتَّفق عليه الحسين ومكماهون ينزع صفة العروبة عن الجانب العربي من قارَّة إفريقيا والخليج والجنوب العربي. على ذلك، ينقل كشك عن رشيد رضا، وهو الذي يراه من دعاة التماهي مع الغرب، رأيه في الهاشميين كما يلي (صـ313):

إنَّ الهاشميين هم…كما وصَفهم رشيد رضا…الَّذين “فتحوا الباب لبريطانيا حتَّى تمدَّ سيطرتها على البلاد العربيَّة والمسلمة…بل على الدّيار المقدَّسة…وخدعوا السُّوريين بوعودهم وتطميناتهم في حين أنَّهم كانوا متَّفقين مع بريطانيا ومستعدّين لقبول انتداب فرنسا…وقد خانوا أيضًا قضيَّة فلسطين”.

(المصدر: رسالة بوست)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى