قراءة معاصرة في إرث الإمامين زيد بن علي وجعفر الصادق
قراءة رباب يحيى
الكتاب: أئمة الفقه التسعة
الكاتب: عبدالرحمن الشرقاوي
الناشر: دار الشروق، 2020
في إطار إصدارها للأعمال الكاملة للكاتب الكبير “عبد الرحمن الشرقاوي”، نشرت “دار الشروق” هذا الكتاب “أئمة الفقه التسعة”، الذي يتناول فيه الكاتب الكبير سيرة وتأثير تسعة من أهم فقهاء الإسلام الذين نشأوا في البلاد الإسلامية المختلفة، بعد أن توسعت الفتوحات وتعددت الأمصار وتراكمت مصالح البشر، وأوجب التاريخ أن يخرج من بطون هذه الأمصار من العلماء المجتهدين من يصوغ صورة الإسلام الحنيف الذي يستجيب لحاجات البشر ويراعي مصالح العباد. وبينهم أربعة من أصحاب المذاهب الأكبر والأكثر انتشاراً.
في “أئمة الفقه التسعة” يتناول الشرقاوي سير كل من الإمام زيد بن علي زين العابدين، والإمام جعفر الصادق، والإمام أبو حنيفة النعمان، والإمام مالك بن أنس، والإمام الليث بن سعد، والإمام الشافعي، والإمام أحمد بن حنبل، والإمام ابن حزم الأندلسي، والإمام العز بن عبد السلام.
أراد الكاتب أن يضع أمام القارئ الذي لا يستطيع أن يشتري الموسوعات، صورة من فقه هؤلاء الأئمة العظام، ومواقفهم من الحياة واقتحامهم الجسور، ونضالهم في سبيل حياة أفضل.
نجح الشرقاوي في تبسيط السير بصورة درامية، مع رسم الأحداث السياسية والاجتماعية في خلفية الأحداث، كما أنه لم يخض في الخلافات بشكل منفر بل مجرد رسم السطح الخارجي لما قد يكون حدث بين هؤلاء الأئمة من اختلاف بشكل مهذب.
الإمام زيد بن علي زين العابدين.. الفقيه الفارس
عاش في ذلك العصر المدوي بطبول الانتصارات، وصهيل الخيول الزاحفة، وصليل السيوف في أوج الفتوحات الإسلامية التي رفعت راية الإسلام على أسوار الصين في أقصى الشرق، إلى الأندلس في أقصى الغرب، وخفقت على جنوب فرنسا وعلى جزر البحر المتوسط، فارتفعت منارات الدين الجديد على الجزء الأكبر من العالم الذي عرفه إنسان ذلك الزمان.
كانت الدولة الأموية تواصل الفتوحات وترسي قواعد الإمبراطورية الإسلامية، لكن الخلفاء مع ذلك كانوا يضطهدون مخالفيهم ويتتبعون آل البيت ومن يتشيعون لهم ليقتلوهم.
يقول المؤلف في (صفحة 10): “ولد زين بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب في المدينة عام ثمانين للهجرة، ومازال رجع الأنين على الحسين شهيد كربلاء يملأ الآذان… حتى القصاص الذي ثار فيه بعض أشياع الحسين من كل من شاركوا في مقتل الشهيد العظيم وآل بيته لم يشف غيظ القلوب، استمر الاضطهاد، وسارت الدولة الأموية على إقصاء آل البيت وألزمتهم المدينة، فألزموها لا يبرحونها إلا إلى الحج، وكان عميد آل البيت بعد استشهاد الإمام الحسين هو إبنه علي زين العابدين”.
كان علي زين العابدين هو أصغر آل البيت في كربلاء، أنقذه مرضه واستماتة عمته السيدة زينب دفاعاً عنه، وكان القتلة قد ذبحوا آل البيت من الذكور ولم يرحموا أحداً حتى الأطفال.
رحل زيد بن علي زين العابدين إلى البصرة والكوفة، وهناك وجد مجتمعاً آخر غير مجتمع المدينة المنورة، ففي البصرة وجد خلافاً حاداً بين الفقهاء حول موقف مرتكب الكبيرة أكافر هو أم فاسق؟، وحاور عدداً من أفاضل العلماء منهم واصل بن عطاء وأبو حنيفة النعمان، وفي العراق عرف في من عرف فرقاً تتحاور فيما بينها حول القضاء والقدر، وحول الإنسان أمخير يختار ما يفعله، أم أنه مسير مقضي عليه بما يفعل بلا إرادة منه ولا اختيار؟
رأى الإمام زيد أن اقتراف الكبيرة منزلة بين الكفر والإيمان، ويسمى مرتكبها فاسقاً، ومرتكب الكبيرة عاص، لا يخلده الله في العذاب، بل يعذبه بقدر ذنبه. أما عن القضاء والقدر وحظ الإنسان من الجبر والاختيار، فالإمام زيد يعتبر الإنسان حراً مختاراً فيما يفعل وفيما يأخذ أو يدع من طاعة وعصيان، لأن المعصية ليست قهراً من الله، ولولا هذه الحرية لسقط التكليف، وسقط الثواب والعقاب.
كان الإمام زيد في كل هذا يدعو إلى إعمال العقل، فما من سبيل إلى حكم عادل إلا بإعمال العقل، وكان الحكام يحاولون أن يخنقوا الفكر والرأي، وأن يعطلوا عمل العقل، ليفرضوا على الأمة قبول ما يفعلون، زاعمين أنهم خلفاء الله في الأرض.
رأى الإمام زيد أن اقتراف الكبيرة منزلة بين الكفر والإيمان، ويسمى مرتكبها فاسقاً، ومرتكب الكبيرة عاص، لا يخلده الله في العذاب، بل يعذبه بقدر ذنبه. أما عن القضاء والقدر وحظ الإنسان من الجبر والاختيار، فالإمام زيد يعتبر الإنسان حراً مختاراً فيما يفعل وفيما يأخذ أو يدع من طاعة وعصيان، لأن المعصية ليست قهراً من الله،
ظل الإمام زيد يتجول في أنحاء العراق، فيرى صوراً من المظالم لم يرها من قبل وهو في المدينة، واستغاثات المظلومين تستنهضه، ليدفع عنهم البطش، وكان قد صرح برأيه في شروط الخلافة وجاهر بأن الخليفة لا يكون خليفة لرسول الله وأميراً للمؤمنين وإماماً للأمة إلا إذا توافرت له شروط ثلاثة:
1 ـ الشورى: ألا ينفرد بالرأي ويستبد بالحكم.
2 ـ والمبايعة: أن يختاره الناس بإرادة حرة غير مكرهين ولا خائفين أو تحت الإغراء، فهذا كله يعطل حرية الإرادة، التي لا تصح البيعة أو الاختيار إلا بها.
3 ـ العدل: فيقيم الخليفة المجتمع على قواعد الشرع، ويحقق المساواة بين الناس، ولا يحكم بهواه، بل يكون معيار المفاضلة بين الأفراد هو ما يقدمون من عمل حسن.
أدرك الخليفة هشام بن عبدالملك بن مروان أن هذا الرأي يهز عرشه، فحكمه كحكم أسلافه من بني مروان وبني سفيان وكل الأمويين لا يقوم على الشورى بأصولها الشرعية، والبيعة لم تصح شرعاً لأحد منهم لأنها ليست نتيجة إرادة حرة بل هي بيعة إكراه، ثم أنه لا يجري العدالة كما فرضتها الشريعة.
وقد تفجر تيار السخط ضد حكام بني أمية، وأخذ أحفاد الذين أسلموا الحسين وخذلوه يستعدون للنهوض، واعتبروا ثورتهم توبة إلى الله مما فعلوه بالحسين.
التف أتباع آل البيت، والفقهاء الصالحون، والزاهدون، والحالمون بالعدل والمجتمع الفاضل، حول الإمام زيد وأخذ بعضهم يطالب الإمام بأن يتقدم ليسترد الإمامة وليكون هو الخليفة.
يقول المؤلف في (صفحة 28): “.. جمع زيد من بقي من رؤوس مؤيديه، وأزمع الخروج كما وعدهم في أول صفر، غير أن والي العراق بعث إلى هؤلاء قبل الموعد المحدد بشهر فحبسهم بالمسجد الكبير بالكوفة، وأغلق أبواب الأسواق على من فيها، واختار أوسع أصحاب زيد نفوذاً فضرب عنقه على باب القصر، وفزع الباقون، وهكذا اضطر زيد إلى القتال قبل الموعد المحدد بشهر، وبث في الناس شعار القتال المتفق عليه: (يا منصور أمت)، فلم يجبه إلا نحو مائتين من الفقهاء والمثقفين الأحرار، وكان قد بايعه من قبل أربعون ألفاً.. وتذكر مأساة جده الحسين، قال: أخاف أن يكونوا قد فعلوها حسينية، أما والله أقاتلن حتى أموت”.
تقدم الإمام زيد الفقيه الفارس يقود نحو مائتين من فرسان الحقيقة، وهم بلا مدد، يقاتلون جيشاً كثيفاً موصول الإمداد، وانقض الآلاف من عسكر الأمويين يرمون زيداً وصحبه المائتين بالسهام حتى نالوا منهم، وقضوا عليهم، وكان أحد هذه السهام قد أصاب الإمام الفقيه في جبهته، فمات ودفن من بقي من صحبه جثمانه في ساقية وردموها، لكن الأمويين نبشوا القبر ومثلوا بجثمانه وصلبوه على جذع نخلة.
كانت هذه هي نهاية فقيد عظيم، كانت ثورته على الظلم والاستبداد هي ثورة الفقهاء المتقين، والمثقفين الأحرار المستنيرين.
وبعد أن استشهد زيد بن علي زين العابدين أصبح عميد آل البيت هو جعفر الصادق، الذي كان يحض الناس على نصرة عمه زيد، والذي تولى بعده عبء الإمامة.
الإمام جعفر الصادق.. المناضل بالكلمة
لم يجمع الناس على حب أحد في ذلك العصر كما أجمعوا على حب الإمام جعفر بن محمد الذي اشتهر فيهم باسم جعفر الصادق، وهو من العترة الطاهرة عترة رسول الله صلى الله عليه وسلم، جده لأمه هو أبو بكر الصديق وجده لأبيه هو الإمام علي بن أبي طالب، وهو نسب لم يجتمع لأحد غيره.
ولد في المدينة سنة 80 هـ ومات فيها سنة 148 هـ، وخلال هذا العمر المديد أغنى الحياة والفكر بحسن السيرة، والعلم الغزير، واستنباطه العقلي.
كان عصره عصر الفتوحات الرائعة، والفزع العظيم، وقد استشهد عمه زيد في مقتلة بشعة تشبه ما حدث لجده الحسين، وكان الإمام جعفر من بين آل البيت هو الإمام الذي تتطلع إليه الأنظار: أنظار الذين يكابدون استبداد الحكام، وأنظار الحكام على السواء، فالدولة الأموية تضع العيون على آل البيت منذ استشهاد الإمام الحسين في كربلاء، وهي تضطهدهم وتضطهد أنصارهم، وتخشى أن ينهض واحد منهم لينتزع الخلافة.
يقول المؤلف في (صفحة 34): “كان الإمام جعفر الصادق منذ رأى بطش الحكام بآل البيت وأنصارهم وبالباحثين عن الحقيقة وبمقاومي الاستبداد، كان قد أخذ بمبدأ التقية فلم يجهر بالعداء لبني أمية، إتقاء شرهم، وحذر الفتنة، فآثر أن يهب نفسه للعلم، وألا يفكر في النهوض والانقضاض على السلطان الجائر، حقناً لدماء المسلمين، ورأى أن خير ما يقاوم به البغي هو الكلمة المضيئة تنير للناس طريق الهداية، وتحركهم إلى الدفاع عن حقوق الإنسان التي شرعها الإسلام وإلى حماية مصالح الأمة التي هي هدف الشريعة”.
وهداه تفكيره إلى الاهتمام بعلوم الطبيعة والكيمياء والفلك والطب والنبات والأدوية لأنها علوم تحقق مصالح الناس، وتحرر الفكر، وتهديه الإيمان العميق الراسخ، وتتلمذ على يديه جابر بن حيان، وكان أبوه شيعياً قتل دفاعاً عن الحقيقة وفي حب آل البيت، فكفل الإمام محمد الباقر والد الإمام جعفر ذلك الفتى اليتيم، وفقهه في الدين حتى إذا ورث جعفر الأمانة أخذ بيد جابر بن حيان وتعهده وحثه على دراسة علوم الحياة وزوده بمعمل وأمره أن ييسر كتاباته لينتفع بها الناس.
وانتهى العصر.. وسقطت دولة بني أمية، وأرسل الثوار إلى جعفر الصادق رسالة يطالبونه فيها أن يقبل البيعة ليصبح هو الخليفة، لكنه رفض الخلافة، فقد كان يحلق في سماء المعرفة، ويشعر أنه أقوى من الملك، وانه باستمراره في دوره العلمي أنفع للناس، وكان يقول: “من طلب الرياسة هلك”.
وإذ رفض الخلافة، بايع الناس أبا العباس حفيد عبدالله بن عباس بن عبدالمطلب، وبنو العباس هم بنو عمومة العلويين، وتأمل الإمام الصادق في من يحيط بالخليفة الجديد؟، فإذ بالمنافقين الذين زينوا الاستبداد لبعض الأمويين وشرعوا لهم العدوان والطغيان يحيطون بأبي العباس مؤسس الدولة الجديدة.. الدولة العباسية.
ومات أبو العباس، وورثه الخليفة المنصور، وإذ بهؤلاء المنافقين يحيطون بالخليفة الثاني في العصر الجديد، ويوسوسون له بالآراء نفسها، وإذ بهم يوهمونه أنه فوق الحساب لأنه ظل الله في الأرض. ومضوا يدعون إلى التقشف باسم الإسلام ويحببون الفقر إلى الناس باسم الدين، لينصرف المستبدون إلى جمع المال، وينصرفوا هم إلى الارتزاق.
أفتى بأنه لا يحق للمسلم أن يدخر أكثر من قوت عام إذا كان في الأمة صاحب حاجة إلى طعام أو مسكن أو كساء أو علاج أو دواء، وأفتى بأن السارق إذا اضطر إلى السرقة لأنه لا يعمل، فولي الأمر هو المسؤول والآثم، فإذا سرق السارق لأنه لا يحصل على الأجر الذي يكفيه هو وعياله، فالذي يستغله أولى بقطع اليد.
لقد أرادوا من الأمة أن تواجه إسراف الطبقة الحاكمة لا باستخلاص الحق المعلوم الذي شرعه الله، بل بالزهد في كل شيء، والانصراف عن كل حق.
يقول المؤلف في (صفحة 43): “أخذ المنصور يتربص بالإمام جعفر، وعرف أن الإمام يحارب الزهاد، وكانت جماعات الزهاد تحبب إلى الناس الفقر، وتدعوهم إلى العزوف عن الدنيا، وإلى عدم التفكر في شئونهم.. ورأى الإمام جعفر أن هذه الدعوى تزيد الأغنياء غنى والفقراء فقراً، وأنها ليست من الله في شئ، فهي تزين للفرد ألا يهتم بمصلحة الأمة، وألا يحاسب الحكام، وتتيح للحكام أن يعطلوا الشورى وهي أساس الحكم في الإسلام… وكان الإمام الصادق يقول: إذا أقبلت الدنيا فأحق أهلها أبرارها لا فجارها، ومؤمنوها لا منافقوها”.
ومضى الإمام الصادق يناقش الزاهدين، فالزهد كما يفهمه هو “الاكتفاء بالحلال لا التجرد من الحلال”، ورأى المنصور في الدعوة ضد الزهد والفقر تحريضاً لعامة المسلمين على أن يستمتعوا بحقوقهم في المال، ودعوة إلى إثارة التمرد، لكنه سكت وظل يراقب الإمام جعفر بن محمد، ما عساه يصنع بعد؟، لعله يسكت.
لكن الإمام جعفر ظل يناضل بالكلمة دفاعاً عن كل آرائه وعن حرية العقل والإرادة وشرف المثقفين، وأخذ ينشر من فتاوى الإمام علي وأقضيته ما حرص الحكام على إخفائه، فأفتى بأنه لا يحق للمسلم أن يدخر أكثر من قوت عام إذا كان في الأمة صاحب حاجة إلى طعام أو مسكن أو كساء أو علاج أو دواء، وأفتى بأن السارق إذا اضطر إلى السرقة لأنه لا يعمل، فولي الأمر هو المسؤول والآثم، فإذا سرق السارق لأنه لا يحصل على الأجر الذي يكفيه هو وعياله، فالذي يستغله أولى بقطع اليد.
عاد الإمام الصادق إلى المدينة لا ليسكن، بل ليواصل دوره الثقافي الجليل، ومن عجب أن المنصور على الرغم من ضيقه بآراء الإمام ما كان يملك إلا أن يجله، ويقول عنه: “بحر مواج لا يدرك طرفه ولا يبلغ عمقه”.
وفي الثامنة والستين مات الإمام الصادق، إمام الشيعة وشيخ أهل السنة بعد أن ترك ثروة من الفقه والعلم والتأملات، وأنشأ في الحياة الفكرية تياراً جديداً خصباً أعلى فيه العقل والنظر والتأمل والعلم.
(المصدر: عربي21)