مقالاتمقالات مختارة

عدل ابن كثير وإنصافه مع الخصوم

عدل ابن كثير وإنصافه مع الخصوم

بقلم مبارك بن حمد الحامد الشريف

العدل هو شعار ابن كثير في تعامله مع غيره، حتى ولو كانوا خصومه وأعداءه، فيقول رحمه الله عند تفسير الآية: ﴿ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [المائدة: 2]: “أي لا يَحمِلَنَّكم بُغضُ أقوام على ترك العدل، فإن العدل واجبٌ على كل أحد، في كل أحد، في كل حال… والعدل به قامت السمواتُ والأرض”[1].

وهناك مواقفُ عمليَّة لابن كثير رحمه الله تدل على التزامه بمبدأ العدل، وانصافه به وإنصافه مع خصومه ومناوئيه؛ فمن ذلك مثلًا:

1- إنصافه مع ابن الزملكاني، وقد كان له موقف مناوئ مع ابن تيمية شيخِ ابن كثير الذي كان يُحِبُّه ويدافع عنه ويذُبُّ عنه، ومع ذلك لما ترجم له في وفَيَات سنة 727هـ قال: “شيخ الشافعية بالشام وغيرها، انتهت إليه رياسة المذهب تدريسًا وإفتاء ومناظرة… وبرع وحصَّل وساد أقرانه من أهل مذهبه، وحاز قصب السبق عليهم بذهنه الوقَّاد في تحصيل العلم، وأما دروسه في المحافل، فلم أسمع أحدًا من الناس درس أحسن منها، ولا أحلى من عبارته وحسن تقريره، وجودة احترازاته، وصحة ذهنه، وقوة قريحته، وحسن نظمه… ولا يهيله تعداد الدروس وكثرة الفقهاء والفضلاء، بل كلما كان الجمع أكثر، والفضلاء أكبر، كان الدرس أنضر وأبهر، وأحلى وأنصح وأفصح، ثم لما انتقل إلى قضاء حلب وما معه من المدارس العديدة عامله معاملة مثلها، وأوسع بالفضيلة جميع أهلها، وسمعوا من العلوم ما لم يسمعوا هم ولا آباؤهم، ثم طُلب إلى الديار المصرية لِيُولَّى الشاميةَ دارَ السُّنة النبوية، فعاجلته المنية قبل وصوله إليها…. وكان من نيته الخبيثة إذا رجع إلى الشام متوليًا أن يؤذي شيخ الإسلام ابن تيمية، فدعا عليه فلم يبلُغ أمله ومراده، فتوفي في سَحَر يوم الأربعاء”[2]، “فسار إليها صحبة البريد ليلة الأحد، وخرج الكبراء والأعيان لتوديعه وفي خدمته”[3].

2- إنصافه لقاضي القضاة تقي الدين السبكي، وذلك بردِّ الاتهام عنه والافتراء عليه بالتفريط في أموال اليتامى، وقد كان بين السبكي وابن كثير وشيخه ابن تيمية خصومةٌ فكريَّة، يقول ابن كثير في أحداث سنة 743هـ: “وكُتبت فتوى عليه بذلك في تغريمه، وداروا بها على المفتين…. وسُئلتُ في الإفتاء عليها، فامتنعت؛ لما فيها من التشويش على الحكام، وفي أول مرسوم نائب السلطان أن يتأمل المُفتُونَ هذا السؤالَ، ويُفتُوا بما يقتضيه حكم الشرع الشريف، وكانوا له في نية عجيبة، ففرج عنه بطلبه إلى الديار المصرية فسار إليها…” [4].

وكذلك مع ولده تاج الدين السبكي[5]، يقول ابن كثير: “ولما كان يوم الاثنين الرابع والعشرين من ربيع الثاني سنة 743هـ عُقِد مجلس حافل بدار السعادة؛ بسبب ما رُمي به قاضي القضاة تاج الدين الشافعي ابن قاضي القضاة تقي الدين السبكي، وكنت فمن طُلِب إليه، فحضَرتُه فيمن حضر.. وكان قد كُتب محضران متعاكسان، أحدهما له، والآخر عليه… وفيه عظائمُ وأشياء منكَرة جدًّا ينبو السمع عن استماعها، وفي الآخر خطوط جماعات من المذاهب بالثناء عليه، وفيه خطِّي بأني ما رأيت عليه إلا خيرًا”[6].

3- ولم يكن التزام ابن كثير رحمه الله بالعدل والإنصاف مع المسلمين وأهل مِلَّتِه فقط، بل كان أيضًا مع غير المسلمين، ويوضِّح ما نقوله موقفُه مع نصارى الشام، فحينما اعتدى الإفرنج على مدينة الإسكندرية عام 767هـ، وصدر المرسوم السلطاني بالانتقام من نصارى الشام ومصادرة أموالهم انتقامًا من الإفرنج، اعترض ابن كثير رحمه الله على ذلك، وأكد عدم جواز تطبيقه؛ لمخالفته للشرع.

يقول رحمه الله: “ووردت الأخبار بما وقع من الأمر الفظيع بمدينة الإسكندرية من الفرنج لعنهم الله… فدخلوها يوم الجمعة بكرة النهار بعدما حرقوا أبوابًا كثيرة منها، وعاثوا في أهلها فسادًا يقتُلون الرجال، ويأخذون الأموال، ويأسِرون النساء والأطفال، فالحكم لله العليِّ الكبير المتعال… ثم جاء المرسوم الشريف من الديار المصرية إلى نائب السلطنة بمسك النصارى من الشام جملة واحدة، وأن يُؤخذ منهم ربع أموالهم؛ لعمارة ما خرب من الإسكندرية، ولعمارة مراكب تغزو الإفرنج، فأهانوا النصارى، وطُلِبوا من بيوتهم وخافوا أن يُقْتلوا، ولم يفهموا ما يراد بهم، فهرَبوا كلَّ مَهرَبٍ، ولم تكن هذه الحركة شرعية، ولا يجوز اعتمادها شرعًا، وقد طُلبتُ يوم السبت السادس عشر من صفر إلى الميدان الأخضر للاجتماع بنائب السلطنة… فذكرت أن هذا لا يجوز اعتمادُه في النصارى، فقال: إن بعض فقهاء مصر أفتى للأمير الكبير بذلك، فقلت له: إن هذا مما لا يسوغ شرعًا، ولا يجوز لأحد أن يُفتي بهذا، ومتى كانوا باقين على الذِّمَّة يُؤدُّونَ إلينا الجِزيةَ مُلتزِمينَ بالذمة والصَّغَارِ، وأحكامُ المِلَّة قائمةٌ، لا يجوز أن يُؤخذ منهم الدرهمَ الواحد الفرد فوق ما يبذلونه من الجزية، ومثل هذا لا يخفى على الأمير…. فجعل يُعجِبُه هذا جدًّا، وذكر أن هذا كان في قلبه، وأني كاشفتُه بهذا”[7].

والعدل والإنصاف من الصفات المهمة للداعية؛ وذلك حتى يكون قدوة حسنة للمدعوِّين، ويكون محلَّ ثقة وتقدير واحترام بينهم، ومن كانت هذه صِفتَه من الدعاة فأحرى أن يقبل الناسُ دعْوتَه، ويتأثروا بقوله، وينقادوا له، ويسمعوا منه.

وأمر آخر، وهو أن الدعاة مطلوب منهم أن يُنصِفَ بعضهم بعضًا، ويعترف كل واحد بما عند الآخر من الفضل والخير، وأن يتعاونوا على البِرِّ والتقوى، وإذا قدِّر أن هناك خصومة وعداوة بين داعية وآخر، فلا يعني ذلك حصول الظلم والعداوة والبغضاء، بل يكون المنهج الذي سار عليه ابن كثير من الإنصاف والعدل مع الخصوم هو المنهج الذي يُحتذى به ويسار عليه، وكم أعرض كثير من الناس عن سماع بعض الدعاة والاستجابة لهم؛ بسبب ما يرونه من التنافس بينهم، وحصول البغضاء والشحناء والظلم وعدم الإنصاف.


[1] انظر تفسير القرآن العظيم 2/ 10.

[2] البداية والنهاية 18/ 286-288.

[3] المرجع نفسه 18/ 454.

[4] المرجع نفسه 18/ 454.

[5] عبدالوهاب بن علي بن عبدالكافي السبكي، أبو نصر، قاضي القضاة، المؤرخ الباحث، ولد في القاهرة، وانتقل إلى دمشق مع والده، فسكنها وتوفي بها، نسبه إلى سبك من أعمال المنوفية بمصر، وكان طلق اللسان، قوي الحجة، انتهى إليه قضاء القضاة في الشام، وعزل وتعصب عليه شيوخ عصره، من تصانيفه: طبقات الشافعية الكبرى، ومعيد النعم ومبيد النقم، والأشباه والنظائر، وغيرها، توفي سنة 771هـ، الأعلام 4/ 184.

[6] البداية والنهاية 18/ 708.

[7] البداية والنهاية 18/ 705 – 707.

وللمزيد من معرفة بعض المواقف التي تدل على عدل الإمام ابن كثير وإنصافه مع غيره انظر مثلًا: المرجع نفسه 7/ 463، 15/ 344، 15/ 583، 15/ 272، 16/ 476، 17/ 514، 17/ 15، 17/ 652، 18/ 571، 15/ 226، 15/ 483، 17/ 514، 18/ 708.

(المصدر: شبكة الألوكة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى