بمناسبة استقلال البوسنة.. رحلة “بيجوفيتش” لأسلمة المسلمين في يوغسلافيا
إعداد محمد سرحان
تحتفل جمهورية “البوسنة والهرسك” في الأول من مارس من كل عام بيوم الاستقلال، وهذا كان نتيجة للاستفتاء الشعبي الذي تم إجراؤه في 29 فبراير 1992م حول الاستقلال عن يوغسلافيا، والذي اختارت فيه الأغلبية الساحقة من المشاركين التصويت لصالح خيار الاستقلال.
كواليس الاستقلال
“البوسنة والهرسك” كانت إحدى الجمهوريات الستة المكونة ليوغسلافيا الاتحادية (صربيا، البوسنة، الجبل الأسود، مقدونيا، سلوفينيا، كرواتيا)، ويتألف سكان “البوسنة” من 3 قوميات، هي: البُشناق المسلمين، والصرب، والكروات، وكلها ترجع إلى العرق السلافي القديم، وهو عرق أوروبي هاجر من مناطق شمال البحر الأسود، واستوطنوا الجنوب وعرفوا بـ”السلاف الجنوبيين”، وهو معنى كلمة “يوغسلافيا”، فكلمة “يوغ” في اللغة البوسنية تعني الجنوب، تجمع بينهم لغة واحدة هي اللغة السلافية “الأم” انحدرت منها لهجات لكن بمقدور كل منهم فهم الآخر.
تأسيس الحزب
في عام 1990م أنشأ علي عزت بيجوفيتش مع زملائه حزب “العمل الديمقراطي”، وكان كل أملهم الفوز بـ10 مقاعد، لكن كانت المفاجأة وفاز الحزب بالأغلبية المطلقة 99 مقعدًا، وانتخب بيجوفيتش رئيساً للبوسنة في أواخر 1990م، وفي 29 فبراير أجري استفتاء شعبي في البوسنة على الاستقلال عن يوغسلافيا، صوّت غالبية المشاركين فيه لصالح خيار الاستقلال، وفي 6 أبريل اعترف الاتحاد الأوروبي بدولة البوسنة، والولايات المتحدة لحقته بعد يوم بذات الاعتراف، كما تم رفع علم البوسنة أمام مقر الأمم المتحدة في شهر مايو 1992م، لكن هذه النتيجة لم يقبل بها صرب البوسنة أو نظراؤهم ممن تبقوا في يوغسلافيا، فشنوا حرب إبادة ضد المسلمين.
رحلة بيجوفيتش
لا ينكر أحد دور ورحلة جهاد ونضال “علي عزت بيجوفيتش” وزملائه مثل (عمر بهمن، وعصمت قاسوماغيتش” وغيرهم من أجل المسلمين في يوغسلافيا ولاسيما البوسنة، فهو “علي عزت بيجوفيتش” من مواليد 1925 لأسرة عريقة، جاءت من بلجراد، كانت والدته دوما تستيقظ لصلاة الفجر وتجعله يذهب لصلاة الفجر بمسجد “حجيسكا”، حتى أنه يحكي أنه استوحى فكرة كتابه الشهير “الإسلام بين الشرق والغرب” من هذه الأيام وهو لا يزال صغيرًا، وذهب إلى الكُتّاب وهو في سن الخامسة، كما أن والدته يرحمها الله توفيت وهي ساجدة، وكان بيجوفيتش ورغم صغر سنه كان يقرأ في كل المجالات، وفي مدارس الفلسفة المتنوعة.
انضم إلى “جمعية الشباب المسلم” وكان من أنشط أبنائها ويحدث الناس عن الإسلام ويشارك في فعاليات الجمعية، إذ أعجبه الطرح الجديد المختلف عما تعلمه في الكتاتيب، ولاسيما في العلاقة بين الشكل والمضمون والجوهر في طرح الإسلام بعكس أغلب المشايخ الذين اهتموا بالطقوس والشكليات بعيدا عن جوهر الإسلام، لاسيما في هذه الأوقات كان المسلمون في البوسنة يعانون جرائم تستهدف تصفيتهم أو تهجيرهم، وحتى تنصيرهم، وفي هذه الأوقات انضم مجموعة من الشباب المسلم ومنهم بيجوفيتش إلى مجموعة من المشايخ الذين ربطوا بين الشكل والجوهر للإسلام، من جمعية العلماء “الهداية” التي كان يرأسها آنذاك الشيخ “محمد هانجيتش” فكانت “جمعية الشباب المسلم” عام 1941م، التي يعد أبرز مؤسسوها كل من (أسعد كاراجوزوفيتش، طارف مفتيتش، وعساف سرداريفيتش) وكانت فكرة تأسيس الجمعية حاضرة معهم وهم لا يزالون وقتها في المرحلة الثانوية إذ كانوا على درجة عالية من الثقافة والوعي ولديهم حرص على العمل الإسلامي، كما يروي “عصمت قاسوماغيتش” وهو من المؤسسين ورفيق عزت بيجوفيتش.
تمددت الجمعية سريعا لتسد الحاجة الملحة لدى الشباب المسلمين وتروي تعطشهم للإسلام في يوغسلافيا وكان لها طلابًا في كثير من المدن حتى في زغرب عاصمة كرواتيا، لكن في 1944م، قلص “بيجوفيتش” نشاطه، وعن هذا يقول بيجوفيتش: “قلصت نشاطي في عام 1944م لأنني لم أكن مسرورًا من العقد أو التقارب الذي تم بين جمعية الشباب المسلم وجمعية الهداية “كان يرأسها الشيخ محمد هانجيتش” إذ أنني لم أتفق قط مع الأئمة رغم أنني كنت أحترم الكثيرين منهم، لقد كنت أعتقد أنه لا ينبغي أن تكون هناك طبقة اجتماعية خاصة حكرًا على الأئمة أو المشايخ، وأن هؤلاء المشايخ يحملون فهمًا للإسلام يعيق تطوره الداخلي والخارجي “حسب ما كان يعتقد وقتها بيجوفيتش”، وبحسب كثيرين من أصدقائه كان الخلاف بين بيجوفيتش والشيخ محمد هانجيتش هو خشية الشيخ من تهور الشباب وأن بيجوفيتش كان يطمح إلى التغيير السريع.
لكن بعد انتهاء الحرب العالمية وانتصار “تيتو” وإعلان يوغسلافيا الاشتراكية، عاد بيجوفيتش إلى سراييفو وعاد إلى جمعية الشباب المسلم.
الاعتقال الأول
وفي عام 1945م دعا الشيوعيون الشباب إلى تأسيس جمعية باسم “بريبورود” أي “الصحوة” لكن بيجوفيتش ورفاقه نظموا في خريف 1945م مظاهرة مناهضة لهذه الجمعية الجديدة معلنين رفضهم وعداءهم الصريح للشيوعية حتى أن أغلب الحضور أعجبوا بعزت بيجوفيتش ورفاقه، لكن في ذات الليلة تم اعتقاله، لكن أطلق سراحه في اليوم التالي لكنه ورفاقه كانوا تحت المراقبة، فمضى هو ورفاقه في عملهم وتم اعتقالهم لاحقًا في 14 مارس 1946م مع 14 من أصدقائه ممن يحملون نفس الفكر، وحكم عليه بالسجن 3 سنوات.
خرج بعدها “بيجوفيتش” ليكمل مشواره فتزوج من محبوبته “خالدة” وأنجب بنتيه “ليلى وسابينا” وابنه “باكر” وانتقل إلى الجبل الأسود، لكنه لاحقًا عاد إلى سراييفو وأعاد صلته بجمعية “الشباب المسلم” وانطلق مجددًا في العمل الإسلامي وبدأ وزملاؤه ومنهم “د. الفاح علي حسنين” وهو سوداني كان يدرس الطب في يوغسلافيا، العمل بنشاط ملحوظ في ترجمة وطباعة الكتب الإسلامية إلى اللغة البوسنوية والنشاط بالمساجد، وكان كتاب “البيان الإسلامي” الذي كتبوه ردًا على “البيان الشيوعي” وعنونه بيجوفيتش بكلمته الشهيرة “لأسلمة المسلمين”.
السجن مجددًا
وفي 23 مارس 1983م اقتحم عناصر الشرطة منزله وفتشوا كل شيء وتم اعتقاله، وحينها كان رفاقه يواجهون نفس المصير، وكانت المحاكمة الشهيرة التي حكم على بيجوفيتش فيها بالسجن 14 عامًا وعلى زملائه بمدد متفاوتة.
لكن هذه المحاكمة وهذه العقوبة كانت بمثابة الباب الذي يدخل منه “بيجوفيتش ورفاقه” مجددًا إلى العمل معًا لكن هذه المرة في قيادة الدولة.
يقول بيجوفيتش: “إن كونًا بلا رب هو كون بلا معنى بالنسبة إلي، لم يعد ذلك الدين الذي ورثته عن أبوي، بل أصبح دينًا جديدًا اعتنقته عن قناعة وفهم ولم أفقده بعد ذلك أبدًا”