مقالات مختارة

توحيد الكلمة بين التنظير والتطبيق

بقلم عبدالباسط الشيخ ابراهيم

أعظم الإسلام مكانة الاجتماع والتآلف والتآزر بين المسلمين وأولاها عناية فائقة ، وأفرد لها حيزا كبيرا في نصوص الوحيين من الكتاب والسنة ، كما حذَّر من مغبة التهاون أو التعافل والتشاغل عنها مهما كانت الظروف والأحوال ، وربط الاحتفاظ بها والتمسك بحبلها من أسباب النصر والقوة والريادة ، ومن هذه النصوص قول الله تعالى  ﴿وَاعتَصِموا بِحَبلِ اللَّهِ جَميعًا وَلا تَفَرَّقوا وَاذكُروا نِعمَتَ اللَّهِ عَلَيكُم إِذ كُنتُم أَعداءً فَأَلَّفَ بَينَ قُلوبِكُم فَأَصبَحتُم بِنِعمَتِهِ إِخوانًا وَكُنتُم عَلى شَفا حُفرَةٍ مِنَ النّارِ فَأَنقَذَكُم مِنها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُم آياتِهِ لَعَلَّكُم تَهتَدونَ﴾ ال عمران ١٠٣.

وقال ﴿وَلا تَكونوا كَالَّذينَ تَفَرَّقوا وَاختَلَفوا مِن بَعدِ ما جاءَهُمُ البَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُم عَذابٌ عَظيمٌ﴾ ال عمران ١٠٥ ، وقال ﴿وَأَطيعُوا اللَّهَ وَرَسولَهُ وَلا تَنازَعوا فَتَفشَلوا وَتَذهَبَ ريحُكُم وَاصبِروا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصّابِرينَ﴾ الانفال ٤٦. وقال  ﴿إِنَّ الَّذينَ فَرَّقوا دينَهُم وَكانوا شِيَعًا لَستَ مِنهُم في شَيءٍ إِنَّما أَمرُهُم إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِما كانوا يَفعَلونَ﴾ الأَنْعَام ١٥٩، وقال ﴿مِنَ الَّذينَ فَرَّقوا دينَهُم وَكانوا شِيَعًا كُلُّ حِزبٍ بِما لَدَيهِم فَرِحونَ﴾ الروم ٣٢، وقال﴿شَرَعَ لَكُم مِنَ الدّينِ ما وَصّى بِهِ نوحًا وَالَّذي أَوحَينا إِلَيكَ وَما وَصَّينا بِهِ إِبراهيمَ وَموسى وَعيسى أَن أَقيمُوا الدّينَ وَلا تَتَفَرَّقوا فيهِ كَبُرَ عَلَى المُشرِكينَ ما تَدعوهُم إِلَيهِ اللَّهُ يَجتَبي إِلَيهِ مَن يَشاءُ وَيَهدي إِلَيهِ مَن يُنيبُ  وَما تَفَرَّقوا إِلّا مِن بَعدِ ما جاءَهُمُ العِلمُ بَغيًا بَينَهُم وَلَولا كَلِمَةٌ سَبَقَت مِن رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَينَهُم وَإِنَّ الَّذينَ أورِثُوا الكِتابَ مِن بَعدِهِم لَفي شَكٍّ مِنهُ مُريبٍ﴾ الشورى ١٣-١٤.

وأما الأحاديث المروية عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الداعية إلى الاجتماع والتآزر والتكاتف ، وكذا المحذرة من التنازع والاحتلاف لا تعد ولا تحصى ، ومنها على سبيل المثال هذه الأحاديث : عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (إن الله يرضى لكم ثلاثاً، أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم) ، وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يجمع الله هذه الأمة على ضلالة أبداً – قال- يد الله على الجماعة فاتبعوا السواد الأعظم فإنه من شذَّ شذَّ في النار)، وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: (كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن الخير, وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير, فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم.

قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم وفيه دخن، قلت: وما دخنه؟ قال: قوم يهدون بغير هديي – تعرف منهم وتنكر، قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟

قال: نعم دعاة على أبواب جهنم, من أجابهم إليها قذفوه فيها، قلت: يا رسول الله صفهم لنا.

قال: هم من جلدتنا, ويتكلمون بألسنتنا، قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟

قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم، قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام قال: فاعتزل تلك الفرق كلها, ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك) .

وهذ النصوص الناصعة تدل على أهمية الاجتماع وتوحيد الكلمة على أساس المبادئ السامية التي أقرتها الشريعة الغراء من توحيد الله تعالى ومتابعة الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم ، لأن الاجتماع قوة وشرف ، والتفرق والاختلاف والتنازع سبب للهوان والتأخر في مسايرة ومنافسة الأمم الأخري .

ولما أعمل الجيل الأول من المؤمنين في قيادة الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم هذه النصوص ووضعوها في مكانها الصحيح، ولم تبق نظريات ومواعظ يُتجمل بها في المجالس والمنتديات، بل صارت جزءا من حياتهم اليومية ، قامت لهم دولة وصولة ومهابة في المعمورة ، وأصبح تاريحهم ومجدهم في ذكر الناس وأحاديثهم ، ولما تخلى المسلمون في القرون المتأخرة عن تطبيق هذه المبادئ السامية هانت مكانتهم في دنيا الناس .

والغريب أنك لا تدخل مسجدا ولا تحضر منتدى علميا أو مجلسا وعظيا أو مناسبة رسمية وغير رسمية أو لقاء جماهيريا من لقاءات الحركات الإسلامية أو الحكومات ، أو المجالس السرية للجماعات الدعوية إلا وتفتتح بالآيات والأحاديث الداعية إلى الاجتماع والائتلاف والوحدة ، وكذا المحذرة من مغبة الاختلاف والتنازع والتشتت ، وهي خطوة جميلة في تذكير الناس وتنبيههم في أوامر الذكر الحكيم ، ولكن المشكلة تكمن بأن هذه النصوص لا أثر لها في أرض الواقع ، بل ينفض المشاركون من المحفل ولم تُغير النصوص الشرعية – إلا من رحم ربك – في سلوك الحركات  والجماعات والدول والأفراد ، وتزداد الفجوة بين الكل ، كأن الآيات نزلت للتبرك فقط أو أن المعنيين بها لـمَّا يأتوا بعد .

ويزداد الخطب سوءا وكآبة عندما يتصدر منظرو ومشايخ الحركات الإسلامية في المحافل العامة وهم يصبون جامَّ غضبهم على هؤلاء الذين لا همَّ لهم إلا السعي لتفريق المسلمين وتوزيعهم إلى كيانات تعادي بعضها على بعض، ولا يستجيبون  لدعوات التآزر والتآلف بين مكونات الأمة، ولكن إذا دققت النظر في كثير من تصرفات وأخلاقيات زعماء الحركات والجماعات التي تدعي بأنها قامت لتوحيد الأمة وتجميع صفوفها ، فتجد بأن هذا الكلام الجميل الذي تضطرب له القلوب وتستكين لسماعها النفوس وتبعث الأمل في تجاوز الأزمات والصعاب بأنه كلام استهلاكي شَعبوي لا حقيقة له في أرض الواقع ولا يمت إلى الحقيقة بأي صلة، ويكذِّبه تصرفات ومعاملة منتسبي الحركات لمن لا يشاطرهم في الرأي والمشرب ، والأنكى من ذلك فإن هذه الحركات تتشاطر فيما بينها وتنقسم الواحدة منها إلى فروع وجزئيات تناصب العداء للآخر وتتهمه بكل نقيصة وفاجعة، حتى أضحى الداخل فيها مبتلى ، والخارج منها معافى ، لكثرة الخلافات والتنازع الموجود في داخلها .

ولا يمكن تحقيق الوحدة والتكامل بين المسلمين بالخطب الرنانة والكلمات المعسولة والشعارات البراقة والعنتريات الجوفاء ، واستخدام النصوص الشرعية للاستهلاك والحماس الجماهيري ، ثم الاهمال أو التشاغل بإعمال الخطاب الشرعي وتوظيفه حسب المصالح المرعية وتحقيقه في أرض الواقع ، وأن لا يبقى إلا نظريات تتداوله الألسن من غير أن يكون له أثر ملموس في حياة الناس ومعاشهم .

وأكبر مشكلة يواجهها المسلمون اليوم ويقف دون اجتماعهم وتوحيدهم ليس قلة العلم والفهم والاستدلال وسرد النصوص ، بل تكمن المصيبة في النفوس التي اكتفت بترديد النصوص دون أن يكون لها أثر في حياتهم ، وتقديم مصلحة الفرد والحركة والجماعة والحزب على المصلحة العامة، وتحويل الخطاب الشرعي إلى تراتيل يقصد منها التقريع والتوبيخ لمن لا يتلاءم وأبجديات الحركات .

وأخيرا إذا أراد المسلمون استعادة وجودهم ومكانتهم يجب عليهم تطبيق النصوص الشرعية حسب مراد الشارع ، وأن لا تبقى رهن التنظير ، بل تنزل إلى أرض الواقع وتحصد نصيبها وحقها من التطبيق .

اللهم أصلح أحوال المسلمين .

المصدر: الاسلام اليوم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى