مقالاتمقالات مختارة

الأصول العقدية للتربية السياسية

الأصول العقدية للتربية السياسية

بقلم يحيى سعد

توجه العقيدة الإسلامية الصحيحة الإنسان التوجيه الصحيح في تصوراته وأفكاره ومنطلقاته، فتضبط فلسفته في التفكير بضوابط الإيمان. إنها تضبط علاقته بربه، وبأخيه الإنسان، وبالكون من حوله، وتربطه بالفطرة السليمة التي فطره الله عليها، وتذكره بالعهد والميثاق الذي أخذه الله عليه وهو في عالم الذر، وتُقوِّم سلوكه بما تشرعه من أوامر ونواهٍ، حتى لا ينحرف عن المهمة التي أوجده الله من أجلها، ليعبد الله فيوحده ولا يشرك به شيئاً، ويعمر الأرض فلا يفسد فيها ويسفك الدماء، ويحقق مهمة الاستخلاف في الأرض.

وتتجلى الأصول العقدية للتربية السياسية للإنسان في ثلاثة أصول أساسية:

الأصل الأول: العهد والميثاق

قال تعالى: “وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا ۛ أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ” (الأعراف: 172).

يقول الإمام ابن كثير – رحمه الله – عند تفسير هذه الآية: “يخبر تعالى أنه استخرج ذرية بني آدم من أصلابهم، شاهدين على أنفسهم أن الله ربهم ومليكهم، وأنه لا إله إلا هو. كما أنه تعالى فطرهم على ذلك وجبلهم عليه”.

وقال تعالى: “فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله” (الروم: 30).

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: “كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كمثل البهيمة تُنتج البهيمة، هل ترى فيها جدعاء” (صحيح البخاري- حديث رقم: 1319).

فالإنسان خلقه الله – سبحانه – حراً، حيث تحرره عبوديته لله من استبداد البشر، ووهبه فطرة سليمة مجبولة على حب الخير والحق والجمال، مقرة لله بربوبيته وقدرته، ومفطورة على توحيده وطاعته، وأن ما يحدث للإنسان من نكوص عن هذا الميثاق أو انحراف عن تلك الفطرة إنما يكون بفعل عوامل ومؤثرات داخلة عليه.

وفي ذلك دلالة قوية على أن الإنسان مفطور على النزوع إلى قوة عليا تحميه، وسلطة تحكمه، فتوفر له الأمان، وتنظم له شأنه فيطيعها راضياً بل ويدافع عنها ناصراً.

الأصل الثاني: تَحَمُّل الإنسان للأمانة

يقول الله تعالى: “إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً” (الأحزاب: 72).

قال مجاهد، وسعيد بن جبير، والضحاك، والحسن البصري، وغير واحد: ألا إن الأمانة هي الفرائض، وقال آخرون: هي الطاعة، وقال قتادة: الأمانة: الدين والفرائض والحدود.

ويعقب ابن كثير على تلك الأقوال قائلاً: وكل هذه الأقوال لا تنافي بينها، بل هي متفقة وراجعة إلى أنها التكليف، وقبول الأوامر والنواهي بشرطها، وهو أنه إن قام بذلك أثيب، وإن تركها عوقب، فقبلها الإنسان على ضعفه وجهله وظلمه، إلا من وفق الله.

وقد جاء عن عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – عن النبي – صلى الله عليه وسلم: “ألا كُلّكُم راعٍ، وكلّكُم مسئولٌ عن رعيّتهِ، فالأميرُ الذي على الناسِ راعٍ، وهو مسئولٌ عن رعيّتهِ، والرجلُ راعٍ على أهلِ بيتهِ، وهو مسئولٌ عنهم، والمرأةُ راعيةٌ على بيتِ بعلِها وولدهِ، وهيَ مسئُولَةٌ عنهُم، والعبدُ راعٍ على مالِ سيّدِهِ، وهو مسئُولٌ عنهُ، ألا فكلُّكُم راعٍ، وكلكُم مسئولٌ عن رعيتهِ” (صحيح مسلم- حديث رقم: 1829).

فالإنسان بقبوله التكليف من الله – تعالى- مهيأ لقبول الأوامر والنواهي ومدرك لمبدأ الثواب على الطاعة، والعقاب على المعصية والمخالفة، وهذا مما تتطلبه التربية السياسية للإنسان في مجتمعه، فتحمل المسئولية والحفاظ على فرائض الدين وقيمه، وحفظ الأمانات من أنفس، وعقول، وأعراض، وأموال، هي ضمانات لسلامة المجتمعات ودوام عمرانها، وموجبات لرضا الله والفوز بمثوبته وجنته، كما أن مخالفة الأوامر والتكاليف بتضييع تلك الأمانات، موجبة لعقاب الله تعالى، ومؤذنة بخراب المجتمعات وهلاكها، سواء جاءت تلك المخالفات من الحكام أو المحكومين.

والتربية السياسية عندما تستند إلى ذلك الأصل – أصل تحمل الإنسان للأمانة ورعايتها وحفظها – فإنها تؤسس لمجتمع ذي لبنات قوية، تعمل مجتمعة في منظومة متكاملة، فتؤدي واجباتها وتطالب بحقوقها.

الأصل الثالث: الاستخلاف

يمثل الاستخلاف بداية الوجود الإنساني على الأرض، وقد أخبر الله – عز وجل – به ملائكته بقوله “إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً” (البقرة: 30).

ولكي يتمكن الإنسان من القيام بتلك المهمة فقد هيأه الله لها، وزوده بالعلم الذي لم يؤته لغيره من المخلوقات، قال تعالى: “وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ، قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ” (البقرة: 31-32).

ولفظ “الاستخلاف” ورد في مواضع متعددة من القرآن الكريم: منها ما يدل على خَلَف أمة لأمة بعد فنائها، كما في قوله تعالى: “إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاءُ كَمَا أَنشَأَكُم مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ” (الأنعام: 133).

ومنها: ما يدل على امتلاك المال والنعمة وتداولهما بين الأقوام المتعاقبة كما في قوله سبحانه: “وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ” (الحديد: 7).

ومنها: ما يدل على نصر الله للمؤمنين وتمكينهم كما في قوله تعالى: “وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً” (النور: 55).

ومنها ما جاء صريحاً في الدلالة على الحكم كقوله تعالى: “يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ” (ص: 26).

ويتضح من تتبع النصوص القرآنية السابقة التي تحدثت عن الاستخلاف وما يتفرع عنه أو يرتبط به من مشتقات، أن الله – سبحانه – أوجد الإنسان على وجه الأرض ليعبده ولا يشرك به شيئا، ومن مقتضيات استمرار تلك العبادة لله وحده أن يعمر ذلك الإنسان الأرض جيلاً بعد جيل، وأن يسير وفق ما أمره الله – عز وجل – من إقامة العدل، واجتناب الظلم، فإذا ما استقام على ذلك سعد في الدنيا وفاز في الآخرة، وإذا خالف ذلك القانون الإلهي فأشرك بالله، وطغى وتجبر في الأرض، فإن سنة الله ماضيه فيه بالهلاك والاستبدال بغيره في الدنيا، ثم التوعد بالعذاب في الآخرة.

وتأسيساً على ما تقدم؛ فإن الإنسان بذلك التصور هو في مهمة وتكليف من الله تعالى، ولم يخلق عبثا، إذ هو مأمور – حاكماً كان أو محكوماً – بطاعة الله، وأداء الأمانة التي كلف بها واستخلف من أجلها في الأرض، ومأمور أيضاً بتسخير ما وهبه الله من نعم، وما ميزه به عن غيره من المخلوقات من عقل؛ بعمارة الكون، وإقامة العدل، وفق ما أرُسلت به الرسل، وأُنزلت به الكتب.

تلك الأصول العقدية جديرة بأن يتبع أنوارها القائمون على أمر الفكر التربوي بصفة عامة والسياسي على وجه الخصوص، فَيُنَشِّئوا الأجيال عليها، ويضبطوا بوصلة الأمة إليها.

(المصدر: صحيفة الأمة الالكترونية)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى