مقالاتمقالات مختارة

من أصول الإيمان: توحيد الألوهية (3 – 7)

من أصول الإيمان: توحيد الألوهية (3 – 7)

بقلم د. أحمد ناجي

تحدثنا في المقال السابق عن القسم الأول من أقسام التوحيد “توحيد الربوبية”، وفي هذا المقال نتعرف على القسم الثاني “توحيد الألوهية”، والألوهية مشتقة من اسم الإله، أي المعبود المطاع، فالإله اسم من أسماء الله الحسنى، والألوهية صفة من صفات الله العظيمة، فهو سبحانه المألوه المعبود الذي يجب أن تألهه القلوب وتخضع له وتذل وتنقاد؛ لأنه سبحانه الرب العظيم، الخالق لهذا الكون، المدبر لشؤونه، الموصوف بكل كمال، المنزه عن كل نقص، ولهذا فإن الذل والخضوع لا ينبغي إلا له.

توحيد الألوهية

هو إفراد الله تعالى وحده بالعبادة، وذلك بأن يعلم العبدُ علمَ اليقِين أن الله وحده هو المألوه المعبود على الحقيقة، وأن صفات الألوهية ومعانيها ليست موجودة في أحد من المخلوقات ولا يستحقها إلا الله تعالى، فإذا علم العبد ذلك واعترف به حقا أفرد الله بالعبادة كلها الظاهرة والباطنة، فيقوم بشرائع الإسلام الظاهرة كالصلاة والزكاة والصوم والحج والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبرِّ الوالدين وصلة الأرحام، ويقوم بأصوله الباطنة من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره.

أدلة توحيد الألوهية:

لقد تضافرت النصوص وتظاهرت الأدلة على وجوب إفراد الله تعالى بالألوهية، ولقد تنوعت النصوص الواردة في دلالتها على النحو التالي:

1– يأتي النص وبه الأمر المباشر بتوحيد الله، كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة: 21)، وقوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} (النساء: 36)، وقوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} (الإسراء: 23)، ونحوها من الآيات.

2- يأتي النص وبه بيان أن “توحيد الله” هو سبب وجود الخلق والمقصود من إيجاد الإنس والجن، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات: 56).

3- يأتي النص وبه بيان أن المقصود من بعثة الرسل عليهم السلام هو “توحيد الله”، كما في قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (النحل: 36)، وقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (الأنبياء: 25).

4- يأتي النص وبه بيان أن المقصود من إنزال الكتب السماوية هو “توحيد الله”، كما في قوله تعالى: {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ} (النحل: 2).

5- وتارة يأتي النص بالتحذير من ضده، وبيان خطورة مناقضته، وذكر ما أعد الله تعالى من عقاب أليم لمن تركه، كقوله تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} (المائدة: 72)، وقوله تعالى: {وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا} (الإسراء: 39).

إلى غير ذلك من أنواع الأدلة المشتملة على تقرير “توحيد الله” والدعوة إليه والتنويه بفضله وبيان ثواب الله تعالى لأهله وعظم خطورة مخالفته.

والسُّنة النبوية كذلك مليئة بالأدلة على توحيد الألوهية وأهميته، من ذلك:

1- ما رواه البخاري في صحيحه عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد؟ قال: الله ورسوله أعلم. قال: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، أتدري ما حقهم عليه؟ قال: الله ورسوله أعلم. قال: أن لا يعذبهم»(1).

2- وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذا نحو اليمن قال له: «لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل إلى نحو أهل اليمن قال له: إنك تقدم على قوم من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إلى أن يوحدوا الله تعالى، فإذا عرفوا ذلك، فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم، فإذا صلوا، فأخبرهم أن الله افترض عليهم زكاة في أموالهم، تؤخذ من غنيهم فترد على فقيرهم، فإذا أقروا بذلك فخذ منهم، وتوق كرائم أموال الناس»(2).

3- وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من لقي الله لا يشرك به شيئا دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئا دخل النار»(3).

بيان أهمية “توحيد الألوهية” وأنه أساس دعوة الرسل

لا ريب أن توحيد الألوهية هو أعظم الأصول على الإطلاق وأكملها وأفضلها وألزمها لصلاح الإنسانية، وهو الذي خلق الله الجن والإنس لأجله، وخلق المخلوقات وشرع الشرائع لقيامه، وبوجوده يكون الصلاح، وبفقده يكون الشر والفساد، ولذا كان هذا التوحيد أصل دعوة الرسل وغاية رسالتهم، قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (النحل: 36)، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (الأنبياء: 25)، وقد دل القرآن الكريم في مواطن عديدة أن توحيد الألوهية هو مفتاح دعوة الرسل، وأن كل رسول يبعثه الله يكون أول ما يدعو قومه إليه توحيد الله وإخلاص العبادة له، قال الله تعالى:

{وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (الأعراف: 65)، وقال تعالى: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (الأعراف: 73)، وقال تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (الأعراف: 85).

توحيد الألوهية محور الخصومة بين الرسل وأممهم

لقد كان “توحيد الألوهية” هو مفتتح دعوات الرسل جميعهم، فما من رسول بعثه الله إلا وكان أول ما يدعو قومه إليه، ولذا كانت الخصومة بين الأنبياء وأقوامهم في ذلك، فالأنبياء يدعونهم إلى توحيد الله وإخلاص العبادة له، والأقوام يصرون على البقاء على الشرك وعبادة الأوثان إلا من هداه الله منهم، قال الله تعالى عن قوم نوح عليه السلام: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا. وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا} (نوح: 23-24)، وقال تعالى عن قوم هود عليه السلام: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} (الأحقاف: 22)، {قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} (هود: 53)، وقال تعالى عن قوم صالح عليه السلام: {قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} (هود: 62)، وقال تعالى عن قوم شعيب عليه السلام: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} (هود: 87)، وقال تعالى عن كفار قريش: {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ . أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ. وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ – مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ} (ص: 4-7)، وقال تعالى: {وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا. إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا. أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا. أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} (الفرقان: 41- 44).

فهذه النصوص تدل دلالة واضحة على أن المعترك والخصومة بين الأنبياء وأقوامهم إنما كان حول توحيد العبادة “توحيد الألوهية” والدعوة إلى إخلاص الدين لله تعالى، وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله»(4).

وثبت في الصحيح أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرُم ماله ودمه وحسابه على الله» رواه مسلم.

فينبغي أن يحرص كل مسلم على صَرْف جميع العبادات لله تعالى، والإخلاص له فيها بغير شائبة تَوَجُّه بشيءٍ منها إلى غيره سبحانه وتعالى، وأنواع العبادة كثيرة ومتنوعة، ويَصعُب حصرُها أو ذِكرُها تفصيلاً، ولقد قال العلماء:

إن العبادات على كَثْرتها وانتشارها، تَرجع إلى أربعة أنواع:

– عبادات قلبيَّة مناطُها القلب، وهي التي تَرجع إلى عمل القلب وحْده، وهذه العبادات القلبيَّة هي أهم أنواع العبادات، بل إنها تُعتبر أساسًا لِما وراءها من العبادات القوليَّة والعمليَّة، كالاعتقاد والتوكل والخشية والإنابة والإخلاص وغير ذلك من العبادات التي تنبعث من القلب، وإن ظهرت آثارها على الجوارح إلا أنها تنسب إلى القلب باعتباره مبعثها.

– عبادات قوليَّة تتعلَّق باللسان، وهي كثيرة جدًّا، منها: الدعاء، والذكر، والاستغفار، والتسمية، والاستعاذة، والاستغاثة، والاستعانة، والحلف، ومن العبادات القوليَّة النصيحة للمسلمين، والدعوة إلى الله، وكفُّ اللسان عن المحرَّمات؛ كالغيبة والنميمة، والكذب وشهادة الزور، والسَّب والشَّتم، والبَذاء والغناء المحرَّم، وغير ذلك.

– عبادات عمليَّة تتعلَّق بالجوارح، وما تقوم به الجوارح من العبادات والطاعات كثيرٌ جدًّا، منها: الصلاة بما فيها من قيامٍ وقعودٍ، وركوعٍ وسجودٍ، والصيام، والحج والعمرة، بما يَشتملان عليه من مناسك، والجهاد بالنفس وما يَقتضيه من بذْل الجهد في مقاتلة أعداء الله، والتعرُّض للمخاطر، واحتمال الآلام والجراحات، والمرابطة في الثغور عن الأهل والولد، ومنها الرحلة في طلب العلم، وتغيير المُنكرات، وغَض البصر، وحِفظ الفرْج، وأكْل الحلال، وترْك الحرام، وكفُّ الأذى عن الناس، والمَشي إلى المساجد، وزيارة الإخوة في الله، والسعي في حوائج المسلمين، وكف الأُذن عن سماع الكذب، والغيبة والنميمة، وأيضًا بر الوالدين، وصلة الأرحام، والإحسان إلى الجيران والعاملين، والسماحة في البيع والشراء والقضاء، وغير ذلك من الأعمال الصالحة.

– عبادات ماليَّة تتعلَّق بالأموال، وهي التي تعبَّد الله تعالى بها عباده في أموالهم من الصَّدقات والذبائح والنذور، ومن أهمها: الزكاة المفروضة لِمَن وجَبت عليه، وصدقات التطوُّع، والنَّذر، والأضحية، والكفارة، والعقيقة.

__________________________________

(1) صحيح البخاري (7373).

(2) صحيح البخاري (7372).

(3) رواه مسلم (93).

(4) صحيح البخاري برقم (52)، وصحيح مسلم برقم (22).

(المصدر: مجلة المجتمع)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى