مقالاتمقالات مختارة

صناعة الإسلاموفوبيا

صناعة الإسلاموفوبيا

بقلم حسن أوريد

تصدر ظاهرة الإسلاموفوبيا من اختلال السياسات المتبعة والسكوت أمام صناعة العدوّ والتجنِّي على الآخر ، الذي لا يريد أن يندمج، ويحرص على فرض تصوُّره وثقافته، ولو بالعنف، حسب النظرة النمطية السائدة.

هناك صناعة للإسلاموفوبيا كما هناك صناعة للهولوكوست. ظهر تعبير “صناعة الهولوكوست” عقب 1967، لتوظيف الإعلام والمخيال، من أجل إبقاء جذوة الهولوكوست وذكراه، وأصبح التعبير سارياً منذ ذلك التاريخ. ويمكن الحديث عن “صناعة الإسلاموفوبيا”، أي التلويح بخطر الإسلام والمسلمين بأوروبا، وتوظيف وسائل الإعلام، وقولبة الرأي العام في اتجاه التوجس من الإسلام.

مصطلح الإسلاموفوبيا ليس قديماً، ويعود إلى التسعينيات من القرن الماضي، وظهر أول ما ظهر بفرنسا، ونحته فرنسي مسلم من أصل جزائري هو صهيب بن الشيخ، وكان حينها مفتياً لمارسيليا، وهو من مُنظّري ما يسمى بالإسلام الفرنسي.

ولقي المصطلح النجاح الذي نعرفه، وانتقل من ضفاف نهر السين إلى العالم الأنغلوساكسوني، لكي يصبح بعدها مصطلحاً معتمداً في لغات عدة، يحيل إلى ظاهرة كما الأبارتيد.

والمصطلح مشتقّ من كلمة “فوبيا” الإغريقية التي تعني الخوف والحذر، ولكن الظاهرة لم تعُد تعني الخوف بل العداء. وهنا وقع ما يسمى في اللسانيات بانزلاق المعنى، أي إن المعنى الأصلي تَطوَّر.

وعلى خلاف ما قد يتبادر إلى الذهن من أن الإسلاموفوبيا تقترن بسياق ما بعد 11 سبتمبر، فإن لها جذوراً أعمق. وقد خصّها باحث فرنسي بدراسة مستفيضة، هو توماس ديلتوب ThomasDeltombe في كتاب ضخم يحمل عنوان “الإسلام المتخيَّل”، يفكّك فيها دور الإعلام في بناء تصوُّر معيَّن حول الإسلام، في فرنسا، منذ السبعينيات من القرن الماضي، مع ظاهرة الهجرة وبروز ما سُمي في فرنسا بالجيل الثاني، واستفحال البطالة.

لم يُقدَّر للكتاب أن يعرف نجاحاً يُذكر، لأن صاحبه يغرّد خارج السرب، أي الاتجاه العامّ الذي يرى في الإسلام خطراً محدقاً، وفي المسلمين شريحة غير قابلة للاندماج في المجتمعات الغربية، وولاؤها لأوطانها الغربية موضع ارتياب، وتشكّل من أجل ذلك طابوراً خامساً. هي ذي النظرة النمطية السارية عموماً. والكاتب لم ينسكب في الاتجاه العامّ، ورأى أن الانكماش الهوياتي هو نتيجة لا سبباً.

الكتاب يدرس الظاهرة في فرنسا، وهي حالة معبّرة عما يعتمل في الغرب عموماً. ففي فرنسا برز المصطلح، والمصطلح يُحِيل إلى ظاهرة، والظاهرة إلى واقع. ثم إن لفرنسا علاقة متوترة مع الدين، وعلاقتها بالإسلام أكثر حدّة مما كانت عليه في بريطانيا أو الولايات المتحدة.

يعيد الكاتب جذور العداء للإسلام في البداية إلى مخلفات حرب التحرير الجزائرية، وما تَمخَّض عنها من مشاعر العنصرية بفرنسا.

كانت العنصرية هي التربة الأولى التي منها سيتم استنبات العداء للإسلام. قامت العنصرية على العرق (سكان شمال إفريقيا، ممن كانوا يُسمَّون في التعبير العامّ الغربي، وغير الدقيق، بالعرب، بمن فيهم الأمازيغ) أو اللون، أي السود، أساساً. لم تكن ضدّ الصفر بوادر عنصرية، مثل الفيتناميين أولاً أو الصينيين ثانياً. ولم تكُن العقيدة هي العنصر المحدّد أو البارز للعنصرية، آنذاك.

انضافت إلى العنصرية التي تشكل ما يسميه الباحث بالحاضن “للعدو الحميم”، أزمة البطالة، في الثمانينيات. وقد جعل الإعلام كما السياسيون المهاجرين هدفاً لانتقاداتهم، وظهر السجال حول الإدماج، ومدى قابلية المسلمين للانسكاب في المجتمعات الغربية، وهي الفترة التي برز فيها اتجاه سياسي فرنسي يميني هو الجبهة الوطنية كان يتزعمه اليميني جون ماري لوبين (قبل أن تزيحه ابنته)، ولم يكن يتورع عن انتقاد العرب والمهاجرين، وتوعُّدِهم بالطرد، والمناداة بفرنسا بيضاء، أو لفرنسيين أصلاء.

وحتى الاتجاهات السياسية الكبيرة في فرنسا من يمين ويسار، لم تسلم من رذاذ العنصرية والتوجس من الآخر. ومنها ما كان عبر عنه الوزير الأول الفرنسي السابق مشيل روكار من أن فرنسا لا يمكنها أن تستقبل بؤس العالم، أو تعبير “الروائح الكريهة” على لسان جاك شيراك.

بدأ التحوُّل بعد انهيار المعسكر الاشتراكي، كي يظهر الإسلام في فرنسا خطراً محتمَلاً، وغير مختلط لا بالعنصرية ولا بالبطالة، مع حدثين يؤشران على تحول عميق في فرنسا حيال الإسلام والمسلمين. الأول، زمنيّاً، بصدور كتاب “آيات شيطانية” لسلمان رشدي سنة 1988، وما استتبعه ذلك من ردود فعل، وُظفت للتعبير عن أن الإسلام أو المسلمين يأنفون من حرية الرأي، ويجنحون إلى العنف.

والحادثة الثانية هي قصة فتاتين، من أصول مغربية كانتا تدرسان بالثانوية بقرية كريل رفضتا نزع الحجاب في الفصل، واعتبر الاتجاه العامّ أن ذلك مُنافٍ لمبادئ العلمانية، وتوزعت فرنسا حول القضية، وأصدر مجلس الدولة الفرنسي قراراً يشجب فيه ما أسماه بالمظاهر اللافتة للانتماء الديني، واعتبر الحجاب أو “التشادور” من العلامات اللافتة.

العامل الآخر الذي سينفث العداء في “العدو الحميم” هو الحرب الأهلية التي استعرت في الجزائر في التسعينيات، وانتقل أوارها إلى فرنسا، للوشائج التاريخية والإنسانية ما بين فرنسا والجزائر، ولانتقال نشطاء ومهاجرين إلى فرنسا، مع ما استتبعه ذلك من نقل النقاش والصدام إلى فرنسا.

لكن الحدث الأبرز في العلاقة الملتبسة ما بين فرنسا والإسلام، هو حينما تم تحويل طائرة فرنسية من الجزائر إلى مرسيليا والتهديد بتفجريها في سماء باريس، في ديسمبر 1994، وبروز وزير الداخلية القوي شارل باسكوا، ذي المقاربة الأمنية الصارمة حيال المسلمين والمهاجرين.

نحن أمام أرضية “خصبة” للعداء ضد الإسلام والمسلمين وجدت في 11 سبتمبر أو شارل إيبدو الوابل الذي سقاها وغذّاها.

إن خلق حالة نفسية معيَّنة من التوجس والارتياب يُفضِي إلى تحقُّق ما يُخشى منه، أي إن الانكماش الهوياتي والتطرف والعنف، هو ناتج عن التوجس والقولبة، وهو ما يذهب إليه الصحافي الفرنسي إيدي بلنين في كتابه “من أجل المسلمين”، إذ يقول إن القولبة الإعلامية هي ما يدفع المسلمين إلى الانكماش وعدم الاندماج.

تعتمد صناعة الإسلاموفوبيا وسائل متطورة، غير التجنِّي المجَّاني، وتوظف الدراسات الأكاديمية، والظهور بمظهر الموضوعية، فضلا عن الإعلام، المرئي والسمعي والمكتوب.

ويختم الكاتب باستشهاد بصحافي مرموق هو جان دانيل الذي ناصر الحركات التحررية في العالم العربي، في كتاب له بعنوان “هذا الغريب الذي يشبهني”، يعتبر فيه أن عدم إفراز ميكانيزمات للإدماج واحترام الآخر، سيفضي إلى مواطنين غرباء في وطنهم الجديد.

وهو ما وقع بالفعل. لكن عوض النظر إلى اختلال السياسات المتبعة والسكوت أمام “صناعة العدو”، يتم التجني على الآخر، الذي لا يريد أن يندمج، ويحرص على فرض تصوُّره وثقافته، ولو بالعنف، حسب النظرة النمطية السائدة.

(المصدر: تي آر تي TRT العربية)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى