مقالاتمقالات مختارة

الصبر والاحتساب عندما يطول الابتلاء

الصبر والاحتساب عندما يطول الابتلاء

بقلم هدى عبد الرحمن النمر

الاحتساب هو طلَب الثواب من الله تعالى، فيما يعمله المسلم من عمل سواء كان فرضًا أو تطوّعًا، وكذلك فيما يصيبه من مصائب. ولا بدّ أن يريد المسلم وينوي وجه الله تعالى، وإلا لا يدخل في وعد المثوبة من كان ذاهلًا غافلًا عن نيّة الاحتساب وطلبه. ففي الحديث: {إذا أصاب أحدَكم مصيبةٌ فليقُلْ: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم عندَك أَحتَسِبُ مُصيبَتي، فأَجِرْني فيها، وأَبدِلْني بها خيرًا منها} [ارواه أبو داود].

والمصيبة هي كل ما يصيب الإنسان مما فيه كراهة له وتأذٍّ منه ولا قُدرَةُ له على دَفْعِه. ومعنى ذلك الدعاء: إقرار يا ربّ بأننا مَملوكون وعَبيد لك، وإليك عزَّ وجلَّ نَرجِعُ في حَوْلِنا وقوَّتِنا، وعندك يا ربّ نحتسب ما أصابنا وإياك نسأل أن تجعل لنا فيه أجْرًا وثَوابًا عندَك في الآخرة، وأن تُبدِلْ تلك المُصيبَةَ الَّتي وقعَتْ بنا بنعمَةٍ خيرًا مِنها وأفضَلَ في الدُّنيا. فالدعاء جامع لِخَيْرَي وعَزاءَيْ الدنيا والآخرة مع حفظ أدب العبودية والتسليم، وهو بذلك أعظم تسلية وسُلوان لكل مصاب ومحزون.

وبالإضافة لما يرجوه المسلم من ثواب فيما يصيبه، فإنّ من نِعَم المِحَن التي يحتسبها كذلك تكفير الخطايا والسيئّات التي لا يخلو منها حَيّ بدرجاتها: {مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ (التعب) وَلا وَصَبٍ (الوجع الدائم أو المرض) وَلا هَمٍّ وَلاَ حَزَن وَلا أَذًى وَلا غَمٍّ، حتَّى الشَّوْكَةُ يُشَاكُها إِلاَّ كَفَّر اللَّه بهَا مِنْ خطَايَاه} [متّفق عليه]. ثمّ تكون رِفعَة وتطهيرًا: {فما يبرَحُ البلاءُ بالعبدِ حتَّى يمشيَ على الأرضِ وما عليه خطيئةٌ} [الترمذي]. ولذلك كان دعاء عيادة المريض – والمرض نوع ابتلاء -: “لا بأس، طَهور إن شاء الله”، أو “كفّارة وطَهور”. أي لا خوف عليك أو لا تجزع ممَّا تَجِدُه من وجع، بل يُكفِّر الله به ذُنوبك، ثمَّ يُفرِّج عنك، فيَجمَع لك الأجرَ والعافية. ففيه تَعزِيَة للمريض بتذكيره بالثواب الكامن في ثوب المرض، وتَذكيرُه بالكفَّارة لذُنوبِه وتطهيرِه من آثامِه إذا صبر واحتسب، لئلَّا يَسخط على أقدار الله أو يفوته اغتنام فرصة الأجر والتكفير.

أما الصَّبر فهو في اللغة: “حَبْسُ النَّفْسِ عِنْدَ الْجَزَعِ” [لسان العرب]؛ وفي الشرع: إمساك النفس عند مواطن الشدّة والجَزَع عن أن يَصدُر منها ما يصدُر من جَزوع هَلوع، كالصراخ والنياحة واللطم والنّدْب…. وسيأتي الكلام على الفرق بين الجزع المذموم والخوف الجائز فيما يلي.

ومما ورد في أقوال السلف في تعريف الصبر: “ترك الشكوى من ألم البلوى لغير الله” [الجرجاني – “التعريفات”]؛ “حبس النفس عن محارم الله، وحبسها على فرائضه، وحبسها عن التسخط والشكاية لأقداره” [ابن القيّم – “رسالة إلى أحد إخوانه”]؛ “ثبات القلب على ما تقتضيه الأحكام القَدَريّة والشرعيّة” [ابن القيّم – “الروح”]؛ “عن بعض أصحاب سُفيان الثَّوْري أنه قال: ثلاث من الصبر: ألا تحدّث بوجعك، ولا بمصيبتك، ولا تزكي نفسك” [تفسير ابن كثير].

ومن المزالق التي ينبغي أن يتنبّه لها المؤمن، خاصة حين يطول ابتلاؤه أو تكثر مصائبه، ألّا ينحصر فكره وتقليب خاطره في مدى ما يعاني وشدّة ما يلقى، لئلا ينقلب الصبر الجميل لتصبّر مرير، تظهر مراراته وينعكس مَضضه في: نبرة التهكّم أو السخط أو الأسى على كدر الدنيا ونكد الأحوال وانحدار الإنسانية… إلخ، وفي عمق الشعور بالرثاء للنفس والشفقة على الذات وتوقع دوام العطف والمراعاة التامَّيْن ممن حوله خاصة ممن يراهم معافين، وفي شدّة الحساسية وسرعة العصبية بسبب عدم الرضا الكامن في النفس… إلى آخر الآفات الناشئة عن استقرار شعور المرء بأنه “ضحية”. وما هكذا يكون شعور المؤمن أبدًا تجاه أقدار الله معه وفيه، فهذا يخالف مقتضيات اعتقاده في الله الحكيم العليم الخبير الفعَّال لما يريد.

من المزالق التي ينبغي أن يتنبّه لها المؤمن، خاصة حين يطول ابتلاؤه أو تكثر مصائبه، ألّا ينحصر فكره وتقليب خاطره في مدى ما يعاني وشدّة ما يلقى، لئلا ينقلب الصبر الجميل لتصبّر مرير

وفي تفسير قوله تعالى على لسان سيدنا يعقوب لمّا بلَغَه نبأ فقد يوسف فقال: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ۖ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ} [يوسف: 18]، جاء في تعريف الصبر الجميل أنه: “صبر لا شكوى فيه [للخَلْق]” [تفسير ابن كثير]؛ “هو الذي لا جزع فيه ولا شكوى؛ وقيل: المعنى لا أعاشركم على كآبة الوجه وعُبوس الجبين، بل أعاشركم على ما كنت عليه معكم” [تفسير القرطبي]. ومما يعين على الصبر الجميل، الحرص على تذكير النفس بنعم الله الحاضرة التي لا يخلو منها أحد مهما اشتدّ ابتلاؤه ، وتقليب الخاطر فيما يستثير في النفس حمد الله وشكره بصدق. ولو لم يجد المؤمن إلا نعمة الإسلام لكفى بها نعمة ولَقَصُر دونها شُكرُه! فأي بلاء أعظم من أن يُختم لامرئ على كفر ويُخلَّد بسببه في عذاب مقيم؟! وأي بلاء لا يعوِّضه عظيم ما أعدَّ الله في الآخرة من ثواب دائم ونعيم دائب، يَصُبّه صبًّا على المؤمن الصابر المحتسب في الدنيا؟!

والصبر الذي هو مفتاح الفرج إنما يتأتّى بالاستعانة بالله على الصبر، والمصابرة في ذلك، أي المثابرة في التحمّل بجَلَد وصلابة، بتوطين النفس على الرضا والاستكانة لمقدور الله، مع الأمل في فرج الله واليقين في ولايته ووعده ، دون استعجال أو يأس أو هروبية بإيقاع النفس عمدًا في مختلف صور الغفلة واتباع الهوى للنسيان والتناسي. فما لك من الصبر بُدٌّ، وما لك عن الله غنى، وإلّا أين المَفرّ؟! وصحيح أن المؤمن بشر ويعرض له ما يعرض للبشر من أطوار تخاذل وضعف همّة وخَوَر عزم وهوان نفس… لكن كونه مؤمنًا يقتضي ألا يكون ذلك هو الأصل فيه وإن طرأ عليه. والعبرة في النهاية بما غلب على حاله، وبما يغلب على نفسيّته عامة في تعامله مع مختلف مِحَن الحياة، بحسب مدى إيمانه وحسن تربيته وتهذيبه لنفسه.

(المصدر: موقع بصائر)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى