المسلمون في الصين جذور عميقة رغم الأخطار المحدقة
بقلم أحمد الظرافي
(أسهل للكاتب أن يشتغل في نقل الصخور من أن يكتب موضوعاً حول الإسلام في الصين).
كانت هذه قناعتي عنـدما شرعت في كتابة هذا الموضوع؛ نظراً لما يكتنفه من غموض ولمعضلة الأسماء الصينية، ولتضارب الآراء حول كل نقطة، وللخلط بين انتشار الإسلام في الصين وانتشاره في تركستان الشرقية التي تحتلها الصين، والتضارب حول أعداد المسلمين هناك وهنا، سواء عن عمد، أم بسبب قلة المعلومات عن تاريخ المسلمين وعددهم في الصين. حتى استقر لدي الرأي، فيما بعد، بأن «ما لا يدرك كله لا يترك جلُّه»، ومن هنا تأتي هذه المحاولة.
بداية انتشار الإسلام في الصين:
هناك العديد من الآراء حول تاريخ دخول الإسلام للصين، بعضها يعيد بداية علاقة الصين بالإسلام إلى عهد الرسول صلى الله عليه وسلم . والأقرب للمنطق أن دخول الإسلام إلى الصين وبداية انتشاره فيها، يرجع إلى العقود الأخيرة من القرن الأول الهجري، وذلك بواسطة التجار المسلمين من العرب والموالي؛ فقد كان التجار المسلمون هم المحرك الأساسي للنشاطات التجارية للصين، وكانوا حلقة الوصل بينها وبين العالم الإسلامي وأوروبا، وكان هناك طريقان بري وبحري يسلكهما التجار المسلمون للوصول إلى الصين، وكان الطريق البري يبدأ من بغداد، ثم يخترق بلاد فارس، ومنها يعبر إلى بلاد ما وراء النهر، حتى يصل المنطقة التي تسمى الآن (شيان) في غرب الصين.
أما الطريق البحري فكان يبدأ من ميناء البصرة، ويخترق الخليج حتى عدن، ثم يَعبُر شبه الجزيرة الهندية وجزيرة سيلان، ويخترق مضيق ملقا (بين إندونيسيا وماليزيا الآن)، ويمر شمالاً حتى يصل ميناء قوانغشتو (كانتون) جنوبي الصين.
وهذان الطريقان هما طريقا الحرير البري والبحري المشهوران في التاريخ، ومنهما دخل الإسلامُ الصين في تلك الفترة المبكرة، وكانت الرحلة البحرية تستغرق حوالي 6 أشهر، أما الرحلة البرية فكانت تستغرق أكثر من ذلك. فقد أقام المسلمون في عهد الأمويين علاقات تجارية مع الصينيين، وبلغت الجالية المسلمة في كانتون وحدها آنذاك، زهاء مئة ألف، وكانت تلقـى أفضل معاملة من أباطرة الصين، ولذلك فقد استقر وجودها هناك، وجمعت ثروات عظيمة، وأنشأت المساجد التي ما يزال بعضها قائماً حتى اليوم، كما أنشأت المساكن على الطراز العربي، وكانت تدين بالطاعة لرئيس تنتخبه من أفرادها. وعن طريق احتكاك هذه الجالية بالصينيين، وتزوجها بالصينيات، وتناسلها عبر الأجيال المتعاقبة، انتشر الإسلام في وسط وجنوبي الصين. صحيح أن ذلك قد سار على نحو بطيء ومحدود، وصحيح أيضاً أن المسلمين قد تعرضوا لموجات اضطهاد عامي 843 – 846م إلا أن انتشار الإسلام ظل مستمراً. ونحن ها هنا نتحدث أساساً عن تجار قدموا إلى الصين لغرض التجارة، وليس لنشر الإسلام، فضلاً عن طبيعة الشعب الصيني المنغلقة، وموقفه السلبي من الأجانب، كما سنشرح ذلك لاحقاً. بَيْد أن التجار المسلمين عن طريق حسن المعاملة، وعلاقات المصاهرة، والاهتمام برعاية الأيتام من أبناء الوثنيين، والتصدق على الفقراء، ومساعدة المحتاجين، والشفقة على المريض، ومشاركة الصينيين أفراحهم وأتراحهم، استطاعوا أن يجذبوا إليهم عقول الصينيين وقلوبهم، كما استطاعوا بلباقتهم ونباهتهم جذب انتباه الحكام والمفكرين الصينيين إلى الإسلام، في ظل الانفتاح الفكري لسلالة تانغ، التي حققت الصين خلال فترة حكمها (618 – 908م) أزهى مراحل حضارتها، ونقل العرب عنها صناعة الورق عام 751م. ونما بذلك الإسلام بقوة في المجتمع الصيني.
ولما كان الإسلام قد انتشر في الصين بواسطة التجار المسلمين، فقد كان الصينيون يطلقون على المسلم في البداية اسم (داشي)، أي التاجر، وذلك قبل أن تُعاد تسمية المسلمين فيما بعد باسم (هوى) أو (خوي)، وهو الاسم الذي يعرفون به اليوم. ولكن السلطات الصينية ما تزال تعتبر مسلمي جنوب الصين أو (الخوي) من أعقاب الأجانب، أي العرب والفرس. تريد بذلك تبرئة الصينيين الأصليين من الانتماء للإسلام، وكأن ذلك تهمة تقلل من شأن (شعب الهان العظيم).
العصر الذهبي للإسلام في الصين:
هناك فترة يمكن اعتبارها فترة ذهبية لانتشار الإسلام في الصين، كانت بدايتها في مطلع القرن العاشر الميلادي، حينما سـقطت إمبراطورية تانغ (618 – 908م)، وبدأ ما يمكن تسميته بعصر ملوك الطوائف في الصين؛ إذ قامت العديد من الدويلات على أنقاض تلك الإمبراطورية، وتزايد نشاط العواصم المحلية، ولذلك فقد اكتسب التجار حرية أوسع في ممارسة أنشطتهم التجارية، وفي الحركة والانتقال، وكانت غالبية هؤلاء التجار مسلمين، وقد زاد تأثيرهم في الحياة العامة الصينية خلال هذه الفترة، وقد ساعدهم موقف الكونفوشيوسية السلبي من التجارة على أن يلعبوا هذا الدور؛ كونها تصنف التجار في أدنى السلم الاجتماعي، لذلك بقي دور التجار البوذيين محدوداً، بجانب دور التجار المسلمين، وقد انعكس ذلك على الإسلام بصورة إيجابية، فصارت أمامه فرصة للانتشار في البلاد، بدلاً من التقوقع في منطقة معيَّنة، وهكذا أينما حل التجار المسلمون حل معهم دينهم وثقافتهم. ورغم أن هذه الفترة ليست طويلة من (907 – 960)، إلا أنه كان لها تأثير كبير في المناطق الصينية الحدودية؛ إذ إنه بسبب انقطاع طريق الحرير البري أثناء الحرب الأهلية، وبقاء التجار وجموع المسلمين في مدينة وتشانغ وحوض النهر الأصفر، ازدهر طريق الحرير البحري، فقد انتقل المسلمون من شمال غرب مدينة تشانغ إن إلى مدينة تشوان جو، ومدينة جوانغ تشو، كذلك إلى الجنوب الشمالي لمدينة شو. ومن الأمور اللافتة للانتباه في هذه الفترة، ظهور طبقة من التجار الصينيين في منطقة فوجيان، وفي جنوب نان خان، عرفت باسم (التجار أصحاب السلالة الصالحة)، وكانوا يمثلون لب الطبقة التجارية آنذاك. وكانت هذه أبرز ظاهرة اجتماعية لتطور الإسلام داخل الصين على مر التاريخ. هكذا انتشر الإسلام في الصين، حتى صار المسلمون هناك رقماً صعباً لا يمكن تجاهله، وذلك برغم رسوخ كره الأجنبي في نفوس الصينيين، بشراً كان أم فكراً، وتعصبهم الشديد لثقافتهم وتعاليم بوذيتهم المتأصلة في أعماقهم، واعتبارهم أنفسهم جنساً أرقى من غيرهم، واعتقادهم الجازم بأنهم أهل الفلسفة والحكمة، وأنهم يمتلكون الحقيقة، ومن ثَمَّ عدم استعدادهم لتقبُّل أي عقيدة جديدة في بلادهم، فشعارهم الثابت الذي لا يتزعزع هو «ﻻ شيء غريب ﻓـي الصين». وكل هذه الأمور قد جعلت وسائل الدعوة إلى الإسلام في الصين محصورة في وسيلة واحدة فقط، هي القدوة الحسنة؛ فلا دعاية لإبراز إيجابيات الإسلام ومحاسنه في المجتمع الصيني، ولا هجوم على الشرك، بل إن أولئك التجار، اضطروا أن يهادنوا ديانة الصينيين الوثنية (البوذية)، وأن يتكيفوا مع الحياة الصينية إلى درجة أنهم تنازلوا عن طموحاتهم السياسية، ولهذا الاعتبار أيضاً ألغيت المئذنة من المسجد الصيني، فكأن الإسلام الذي انتشر هناك، هو الإسلام التعبدي والسلوكي، الذي تمتزج فيه الثقافة الإسلامية بالثقافة البوذية، وليس الإسلام بمفهومه الشامل عقيدة، ومنهجاً، وأسلوباً للحياة، وذلك هو الإسلام الذي نشأت عليه غالبية الأجيال الصينية المسلمة، وتوارثته قرناً بعد قرن، علاوة على عزلة مسلمي الصين الطويلة، وقلة احتكاكهم بالمسلمين من حولهم، حتى أن فريضة الحج كانت متعذرة عليهم، بسبب بعد بلادهم عن مكة، مع كونهم محصورين في جنوب البلاد ووسطها، حيث يعيشون في تجمعات منفصلة عن بعضها، وفي وسط بحر هائل من البوذيين الوثنيين، ذوي طبيعة شديدة الخصوصية.
موجات الاضطهاد في العهد المنشوري:
تعرضت الصين بين القرنين 13 – 15م للاجتياح المغولي، وشهدت فترة حكمهم لها هجرات واسعة للمسلمين من عرب وفرس وأتراك إلى أراضيها، حيث اختلطوا بسكانها وتزوَّجوا منهم، وبثوا الدعوة إلى دينهم. وقد زار الرحالة الشهير ابن بطوطة الصين في القرن 8 هـ/ 14م، ورأى أحوال المسلمين الممتازة بها تحت حكم أسرة جنكيز خان، فكتب يقول: «وملك الصين تتري من ذرية جنكيز خان، وفي كل مدينة من مدن الصين مدينة للمسلمين ينفردون بسكناهم، ولهم فيها المساجد لإقامة الجُمعات وسواها، وهم معظَّمون محترمون». وبعد عودة الصين للحكم الإمبراطوري المتمثل في سلالة مينغ (1368 – 1644م)، ظل المسلمون على مزاياهم، وارتبطت الصين آنذاك بعلاقات ممتازة مع الدولة التيمورية جارتها بوسط آسيا. وهكذا سار الإسلام بالصين سيراً حسناً، وإن طغى عليه التصوف، واختلط ببعض العادات الصينية. وأدى الغزو المنشوري عام 1644م إلى إحلال سلالة تشينغ، مكان المينغ، وشهد القرن 17م طفرة سكانية؛ إذ أصبح عدد سكان الصين150 مليوناً عام 1650م، وصاحب ذلك نمو صناعي وتجاري، إلا أن ذلك رافقه سوء حالة الفلاحين، وكانت ردة الفعل تجاه الأوضاع، هي زيادة تدخين الأفيون واندلاع الثورات الفلاحية، ووُجِه الأمر بازدياد القمع، وإحراق الكتب، والخوف من الرأي المستقل. وفي ظل حكم المانشو (1644 – 1911م)، اختفى التسامح الذي تميزت به الصين في العصور السابقة، فقد كان المانشو أعداء ألدَّاء للإسلام، وكان هناك جهات مجهولة تحرضهم دوماً على المسلمين، وتحثهم على استئصالهم، ولذلك تعرض المسلمون خلال فترة حكمهم لموجات اضطهاد، ولحروب إبادة، قتل خلالها مئات الآلاف منهم، وعندما ثار المسلمون، أزالت قوات المانشو مقاطعات بأكملها، وهو ما أدى إلى نقص أعداد المسلمين. وفي تفسير هذه المذابح يقول نائب الأمين العام للجامعة الإسلامية بالصين، في حوار أجري معه، في شوال 1428هـ:
«بدءاً من القرن 16 و 17م بدأ المسلمون يتصرفون كمواطنين لهم حقوق، وليسوا غرباء، وهم شجعان لا يقبلون الظلم أبداً، فكانوا يقاومونه، ولذلك كانوا يدفعون الثمن في كل مرة، لذلك تم تصنيفهم ضمن فئة المناضلين ضد الاستغلال والظلم، والذين يتسمون بالشجاعة والإقدام. وأحد الأسباب الرئيسية لثورة المسلمين ضد حكام الصين، هو ذلك الحجم الكبير من الظلم الذي كان يمارسه بعض الحكام، وخاصة أسرة المانشو خلال القرون 17 و 18 و 19م ضد الناس عامة والمسلمين خاصة… وفي الفترة من (1758 – 1873م) هبت أربع ثورات كبرى لمسلمي الصين، بالإضافة إلى عشرات الثورات المحدودة… وكانت الثورة الكبرى الأولى عام 1758م في ولاية قانصو، بقيادة سوسي سان. وكانت الثورة الثانية من 1825 – 1827م في مقاطعة سينغيانغ. وكانت الثالثة عام 1855م في مقاطعة يونتان، واستمرت 18عاماً. وكانت الرابعة عام 1855م في مقاطعات سينغيانغ وقانصو وشنشي، واستمرت عشرين عاماً. وفي أثناء ذلك، قتل مئات الألوف من المسلمين، ومنعوا من أداء شعائر الحج، وتم ذبح أبقارهم لإجبارهم على أكل لحم الخنزير، واستخدمت الضرائب لإفقارهم، وتعرضوا لأبشع أنواع الظلم والاضطهاد والقهر، أسوأ مما كان سائداً في العصور الوسطى. وهكذا لم يخضع المسلمون للضغوط، ولا للتعذيب، ولا لسياسات الاحتواء، وأصروا على الاحتجاج. ومن ثَمَّ فالوجود الإسلامي في الصين، لم يكن أمراً سهلاً، بل كان له ثمن باهظ دفعه المسلمون، حتى أصبحوا جزءاً من هذا المجتمع».
مسلمو الصين غداة الهجمة الإمبريالية:
في النصف الثاني من القرن 19م كثرت كتابات المبعوثين الأوروبيين التي تشير إلى تزايد وتيرة انتشار الإسلام بالصين، والتي كان الغرض منها تحذير دوائر صنع القرار في بلدانهم من الكارثة القادمة، وهي أن يعم الإسلام الصين كلها، وأن تصبح بلاداً إسلامية. ففي عام 1867م كتب الرحالة الروسي فاسيليف، موفد القيصر إلى الصين، بأن الإسلام مهيَّأ لأن يصبح الدين الرسمي للصين، وأن ذلك إن حدث فسيقلب العالم.
ونقلت مجلة المنار، بتاريخ 16/8/1896م ما نشرته جريدة الكرسنت الصادرة في لفربول بالإنكليزية تحت عنوان (الإسلام في الصين)، وهو: لقد نشرنا قبل الآن التقارير التي وضعها اثنان من رفقائنا عن انتشار الإسلام وتقدمه في الصين، وهما الأستاذ فيوسلوف، والمستر تيرسنت.
أما الأول فيقول: إن الإسلام سائر بسرعة عظيمة في سبيل التقدم والنجاح، وإن الصينيين يحبونه، ويميلون إلى أهله ميلاً كبيراً، وإن كثيراً منهم يتسابق إلى اعتناقه. مشيراً إلى أن من يمعن النظر في ذلك، يرى أنه ليس مستحيلاً، أن يدين جميع الصينيين بالإسلام، ويصير أخيراً هو الدين الرسمي لبلادهم. وأنه إذا استمر الإسلام في الانتشار بمثل هذه السرعة، وازداد عدد معتنقيه إلى أن تصير الصين بلاداً إسلامية، فإنه يُخشى على النصرانية؛ لأنها تعدم وسائل التقدم هناك؛ لأن رسوخ الإسلام في الصين يفقدها كل سلطة فيها.
واتفق الكاتب الثاني مع الأول، لكنه أضـاف أنه منذ شرع الصينيون يعتنقون الإسلام بكثرة هائلة، استفحلت عداوة الروسيين للإسلام، فإنه لا يروق لهم رؤية الصينيين يدخلون في الإسلام أفواجاً؛ لأن ذلك مما يضاد أغراضهم السياسية، ولذلك فهم لا يفترون عن إيجاد القلاقل في آسيا الوسطى، وفي قلب المملكة الصينية، لكن عناية القادر سبحانه قدَّرت أن ينتشر الإسلام في مقاطعات تبلغ مساحتها7000 ميل مربع.
وكتب صاحب المنار بعد ذلك تحت عنوان (مستقبل الإسلام في الصين)، قائلاً: نشر مبعوثو البروتستانت من الإنكليز تقريراً ضافياً عن أعمالهم في الصين، جاء فيه كلام عن حالة الإسلام في مملكة ابن السماء، فبعد أن ذكر كاتب التقرير تاريخ دخول الإسلام الصين، وكيف كان انتشاره، حتى صار المسلمون هناك أكثر عدداً من سكان أكبر مملكة إسلامية، قال: وإذا نظرنا إلى حالة المسلمين بالصين نجدهم على ثروة، وسعادة، يتمتعون في ضروب الراحة، والهناء، شديدي التمسك بدينهم، إذ هم يعتقدون أن مستقبل البلاد الصينية لهم، وأنهم سيرفعون مجدها يوماً ما، ومن الذين كتبوا في هذا الموضوع البروفسور فاسليوف، فهو يعتقد مثل ذلك، كما صرح به في كتابه؛ ولذلك هو يخشى عواقب ذلك الانقلاب المنتظر على أوروبا. قال الكاتب: والحقيقة أن الظن ليس من الأمور البعيدة؛ لأن المسلمين في الصين أرقى بكثير من البوذيين، تبعاً لترقي دينهم الذي يرشدهم إلى آداب وفضائل تميزهم عمن عداهم، فضلاً عن اتحاد كلمتهم، وقوة جامعتهم، وتراهم يهتمون كثيراً بالزراعة والتجارة والفنون الحربية، ولهم شهرة فائقة في خِلال الصدق والأمانة والوفاء، فقوم هذه صفاتهم، وعددهم ليس بالقليل، لا يبعد أن يكون لهم مستقبل هذه البلاد، التي أخنى الزمان على سكانها الأصليين، وقضى الله عليهم بالضعة والهوان.
وفي غضون ذلك حدثت الغارة الغربية على الصين، وكان من ضمن أهدافها – بعد نهب موارد البلاد – منع انتشار الإسلام فيها، ومحاصرته، وتحريض الصينيين البوذيين ضده، و (التبشير).
مسلمو الصين والثورة الثقافية:
اتسمت أحوال المسلمين في فترة ما بعد قيام الجمهورية عام 1911م بالاستقرار النسبي، وهو ما أعانهم على التقاط الأنفاس، وتجميع الشتات، وتقوية ذاتهم دينياً، فانتشروا في أرجاء الصين بصورة أكبر، وبنوا المساجد، وذهب منهم أفراد قليلون في بعثات تعليمية إلى الأزهر، وأرسلوا الحجاج لبيت الله الحرام، وقويت علاقتهم بالعالم الإسلامي، وطبعـوا المصحف باللغة العربية عدة مرات، وبدأت حركة ترجمة الكتب الدينية إلى الصينية بفضل العلماء الذين تعلموا في الأزهر. صحيح أن هذه الفترة لم تكن خالية من موجات الاضطهاد وحروب الإبادة، ولكنها لا تقارن بما تعرضوا له سابقاً. وعندما احتدم الصراع بين كاي شيك، والشيوعيين بقيادة ماوتسي تونج، حرص هذا الأخير على ضم المسلمين إلى جبهته، واعتبر ذلك أساسياً لنجاح ثورته، وذلك كما فعل لينين وستالين من قبل أثناء الثورة البلشفية عام 1917م، فكان أن ساند المسلمون ماوتسي تونج والشيوعيين، اغتراراً بشعاراتهم البراقة، وأملاً في تغيير واقعهم المزري. وقد كان المسلمون في مقدمة المسيرة الكبرى، أي مسيرة ماوتسي تونج من جنوب الصين حيث مناطق المسلمين، إلى شماله حيث العاصمة بكين، وكانت تضحياتهم البشرية جسيمة في هذه المسيرة، لأنهم كانوا يقدَّمون على غيرهم باعتبارهم مقاتلين أشداء، وكان ماو وغيره قد رأوا بطولاتهم أثناء الاحتلال الياباني للصين (1937 – 1945م). وبعد أن دخل ماو بكين، وتأسست جمهورية الصين الشعبية عام 1949م، اشترك المسلمون في البرلمان، ووصل عددهم إلى 17 عضواً، فضلاً عن اشتراكهم في المجالس الإقليمية، وتوليهم لعدد من المناصب المهمة في الدولة، علاوة على نشأة المدارس الإسلامية والمعاهد المختلفة والصحف. بَيْد أن هذا حدث على اعتبار أنهم ينتمون إلى (أقلية خوي) لا باعتبارهم أقلية إسلامية، ولكن باعتبارهم (أقلية قومية)، أي واحدة من القوميات الخمسين التي تتشكل منها الأمة الصينية. ولكن – كما كان متوقعاً – لم يلبث الشيوعيون بعد استقرار نظامهم أن قلبوا ظهر المجن للمسلمين، فتم تأميم مساجدهم ومدارسهم، وتم تأسيس الجمعية الإسلامية الصينية عام 1953م على أنها جهة رسمية لتشرف على هذه المساجد، والشؤون الدينية. وأعلن الشيوعيون الصينيون حرباً شعواء على الإسلام؛ فمنعوا المسلمين من الحج، وأوقفوا كل أنشطتهم، وقد وصلت هذه الحرب ذروتها خلال سنوات الثورة الثقافية (1966 – 1975م)، فهذه السنوات العشر كانت سنوات عجافاً لكافة مسلمي الصين؛ فقد تعرضوا خلالها لأسوأ موجات الاضطهاد والقمع والتنكيل في تاريخ الوجود الإسلامي بالصين، ومن لم تقم السلطات الشيوعية بتصفيته من المثقفين الصينيين المسلمين، كما فعلت بزعماء المسلمين، كان يتم التنكيل به وإرساله إلى مزارع الإنتاج اليدوي. وقد استمر ذلك حتى عام 1979م، وهو العام الذي حدث فيه الغزو السوفييتي لأفغانستان، فكان لهذا الغزو أثر على النظرة الصينية الرسمية للإسلام؛ فقد جاملت المسلمين، وتظاهرت بدعمهم، ليس حباً فيهم بطبيعة الحال، وإنما نكاية بالاتحاد السوفييتي وقتها، عدوها اللدود. «واستمرت القيادة الجديدة في الصين بعد سحق عصابة الأربعة عام 1978م في إشاعة مناخ الانفراج النسبي لدى أصحاب الأديان بعد العنف والاضطهاد طوال سنوات الثورة الثقافية العشر. هذا كله أعطى الأمل لمسلمي الصين للظهور على الساحة فتم السماح للمؤتمر الرابع للجمعية الإسلامية الصينية بالانعقاد بعد غيبة 17عاماً، وعين أحد المسلمين نائباً لرئيس الوزراء عام1990م»، كمال قال نائب الأمين العام للجامعة الإسلامية بالصين.
الواقع الراهن لمسلمي الصين:
تزعم السلطات الصينية أن عدد مسلمي الصين اليوم يبلغ 25 مليون نسمة، بمن فيهم التركستانيون، بينما تذكر مصادر أخرى أن عددهم حوالي120 مليوناً، وكلهم على المذهب الحنفي، وهم ينتشرون بوسط البلاد وأطرافها الجنوبية والشمالية الغربية، ويشكلون الأغلبية في إقليمي يونان وقانصو، ومنهم حوالي ربع مليون في بكين، التي سماها العرب (خان بالق) أو (خانبالي) حيث الإسلام فيها عريق، كما يدل على ذلك مسجدها (نيوجيه) الذي تأسس في القرن العاشر، وهو واحد من 68 مسجداً فيها اليوم. وتنحصر الأقلية الإسلامية الصينية في (قومية الخوي) الناطقة باللغة الصينية الرسمية (لغة الهان)، وينتظم أكثرها في سلك العديد من الطرق الصوفية، بنسختها الصينية، ومشايخ هذه الطرق مرتبطون بالحكومة، وهم يقفون صفاً واحداً إلى جانبها في وجه كل من يحاول الدعوة إلى الإسلام الحق بدعوى أنه (وهابي).
والوهابية في الصين تهمة عقوبتها التغييب خلف الشمس، الأمر الذي يؤدي إلى تدهور مستمر في فهم مبادئ الإسلام لدى مسلمي الصين، وإلى زيادة عزلتهم، ومن ثَمَّ إمكانية أن يبتلعهم المحيط الهادر للسكان الوثنيين الذين يعيش المسلمون في أوساطهم، والذين يتجاوز عددهم 1.4 مليار نسمة، ينتشرون في بلد مساحته 9.6 ألف كم2، وبخاصة بعد أن نجحت الأنظمة الصينية المتعاقبة في تصيينهم. ولكي ندرك مستوى سوء الفهم لفرائض الإسلام لدى مسلمي الصين اليوم، يكفي أن نعلم أنهم يصلون صلاة الجمعة ثم يصلون بعدها صلاة الظهر 16 ركعة (السنة والفرض)! ومع ذلك تجد أئمة المسلمين هناك مصرين على استمرار هذه البدعة، ولا يتقبلون قول من يقول لهم: هذا خطأ، ثم يشرح لهم الصواب، لأنها صارت عادة مترسخة لديهم، وبرر الشيخ إبراهيم جو تيانلي إمام مسجد (نيوجيه) في بكين ذلك في سياق حوار أجراه معه صحفي مصري، في مايو 2004م بالقول: «نحن نصلي على الطريقة الصينية. هكذا عندنا»! وهنا مكمن الخطر؛ أي أن تتحول فرائض الإسلام وقواعده إلى عادات تمارس على الطريقة الصينية. وإمام مسجد بكين هذا، هو واحد من بين حوالي40 ألف إمام يتبعون الجمعية الإسلامية الصينية، التي ترعى الشؤون الإسلامية والمساجد بالصين. وإذا كان فهم هؤلاء الأئمة للصلاة على هذا النحو، وهي عماد الدين وركن الإسلام الثاني؛ فكيف سيكون فهمهم وتطبيقهم لجوانب الدين الأخرى؟ على أن هذا التحريف قد يكـون متعمـداً لأن الجمعية الإسلامية الصينية جهة رسمية، وهؤلاء الأئمة الذين يتفاخرون بأنهم يصلون على الطريقة الصينية، هم موظفون رسميون، وهم وجمعيتهم يمثلون الحكومة الشيوعية. أما حرية العقيدة التي نص عليها الدستور الصيني، والتي تتغنى بها الحكومة، فتتمثل في ثلاثة أمور: إعادة فتح المساجد – أن المطاعم الإسلامية منتشرة في كل مكان – أن تقاليد موتى المسلمين ودفنهم مرعية. والشيء الذي تحرص المطاعم الإسلامية على عدم تقديمه، هو لحم الخنزير، وطبعاً وجبات الصينيين من الأفاعي والضفادع والكلاب، ولكن بعضها لا يمتنع عن تقديم مختلف أنواع الخمور، لأن أكثر مرتاديهـا أساساً هم الأجانب غير المسلمين، فقد كان وجودها ضرورياً، في ظل الانفتاح الصيني، وتشجيع السياحة. وتحريم لحم الخنزير، أهم ما وعاه مسلمو الصين، من تعاليم الإسلام، وهو أهم العوامل التي مكنتهم من حفظ كيانهم، وعدم الذوبان في قومية الهان. والمهم أن هذه هي الحقوق التي يتمتع بها مسلمو الصين، وفيما عدا ذلك، فسياسة القبضة الحديدية، هي السائدة.
(المصدر: مجلة البيان)