” طنجرة الضغط ” .. و نظام ما بعد العولمة !
بقلم ياسر الحسيني
أراقب ما يحدث في العالم من حولي ابتداء من البيت ضمن الدائرة الصغرى، ومن ثم الدائرة الأوسع فالأوسع وصولاً إلى مجمل شعوب الأرض في القارات الست ، يساعدني في ذلك نافذتنا على العالم التي باتت هي أشبه بمرآة الملكة ( الساحرة ) في قصة ” بياض الثلج” الشهيرة ، وعندما أحاول أن أرسم منحنى بيانياً لحال العلاقات الاجتماعية مع مرور الوقت في زمن الكورونا ،أجده آخذًا في الإنحدار وبزاوية حادة بدرجة لم تحدث من قبل طوال التاريخ البشري الذي نعرف.
لم يكن ” كورونا” مجرد فايروس يهدد حياتنا ويمنع عن رئتينا الأكسجين فقط، بل تحوّل إلى كابوس يهدد حياتنا الاجتماعية ويضربها في الصميم، بعد أن وظفته جهات دولية بحجة الحفاظ على سلامتنا وذلك بتقييد حركتنا إلى أضيق نطاق ممكن بحيث نصبح سجناء بيوتنا الضيقة ولا متنفّس لنا سوى شاشة الموبايل التي تطلعنا على مايدور من حولنا ولا ندري إن كان حقيقياً أو مزيفاً تفبركه نفس الجهات التي حكمت علينا بالسجن، وليصبح “بيل غيتس” محاضراً في علم الفيروسات و”مارك زاكربيرغ ” ملكاً غير متوج يتحكم بنا ومنافسه صاحب تويتر ” جاك دورسي” الذي وصل جبروته أن يمنع رئيس الولايات المتحدة من التغريد فقط لأن الدولة العميقة قررت ذلك وهي ذاتها التي قررت أن يصبح الفيروس ” كوفيد ـ 19″ سلاحاً تحاصر به المجتمعات لتضطرها اللجوء إلى الشبكة العنكبوتية في كلّ نشاطاتها بما فيها التعليمية ، وهي ما أعتقد أنّها أكبر عملية سطو على عقول البشر والتحكم بها.
ولكن في المقابل هنالك لكل فعل ردة فعل، وهذا أيضًا مدروس ويحظى باهتمام تلك الدوائر المتحكمة، فالحجر أو الحبس لن يمرّ بسلاسة وبخاصة في المجتمعات التي تحظى بهامش كبير من الحرية الشخصية واعتادت على الحركة الدؤوبة وبايقاع سريع ، ولهذا كانت فرق ومجموعات من الشرطة تجوب الأحياء وهي تعزف الموسيقى في معظم المدن الأوربية للتخفيف من وطأة الحجر في البداية ريثما يتأقلم المجتمع مع الوضع الجديد، ولكن ومع طول مدّة الحظر أخذت شرائح عريضة من المجتمع تبدي تململها أشبه بمرجل أخذت المياه تغلي بداخله وقد أحكم إغلاقه، لأنّ ما كان يحصل داخل البيوت قد أخذت بوادره بالظهور إلى العلن لتكشف عن حجم الكارثة التي اجتاحت التركيبة الأسرية ( صمّام الأمان لأي مجتمع) .
في داخل كلّ بيت بدأت تتفكّك عرى الرابطة الأسرية والجميع يهرب إلى هاتفه الجوال كملاذ لابد منه، بعيدًا عن المشاحنات والمناكفات التي فعلت فعلها وحلّت البغضاء مكان المودة والتناحر محلّ الألفة، وأخذ الكلّ يبحث عن المخلّص عبر النت علّه ينتشله لوحده بعيداً عن أهله ظنّاً منه أنهم سبب ما يعانيه، فكثرت حالات الإنفصال ومحاولات الإنتحار ناهيك عن حالات العنف التي ملأت صفحات مواقع التواصل الاجتماعي .
نعم لقد وصل الأمر بالمجتمعات أن وجدت نفسها وكأنها في ” طنجرة ضغط” بلا صمّام للتنفيس… ولكن ما المراد من هذه المجتمعات في نهاية المطاف؟… هل هناك مؤامرة تحيكها تلك الدوائر على مجتمعاتها كي تدفعها قسراً إلى ماهو أبعد من العنف الفردي والتفكّك الأسري؟ .. لقد خرج الهولنديون في الأمس ليرتكبوا أعمال شغب وعنف في الشوارع اعتراضاً على إجراءات الحظر، رغم أن الهولنديين معروفين بوداعتهم وأنّهم شعب مسالم يكره العنف، … ولكنها ” طنجرة الضغط” وقد فعلت فعلها، وربما تنفجر في أي لحظة إذا ما ظلّت نار الحظر مستعرة في كل بيت، هذا إذا ما أضفنا العامل الاقتصادي الذي تحاول الحكومات التخفيف منه بتوزيع مبالغ لكل فرد بحسب قوة اقتصاد تلك الدول وقدرتها على تحمل الأعباء المعيشية لشعبها.
اليوم يتكرر مشهد الاحتجاجات على إجراءات الحظر في بلجيكا… إنّها كرة الثلج التي أفلتت من أعلى القمة وهي تتدحرج آخذة في طريقها غضب مئات الملايين من الشباب الذين وجدوا أنفسهم فجأة مكبّلين أمام شاشة الموبايل، بلا ملاعب يمارسون فيها هواياتهم ويفرغون بعضاً من الطاقة ، ولا نوادي أو شوارع يتسكعون فيها أو دور سينما ولا حتى منتزهات تزيل بعضاً من التوتر وتدخل إلى نفوسهم السكينة والحبور.
قد تأخذ الاحتجاجات طابعاً سياسياً كما يحدث الآن في المدن الروسية ، أو كما حدث من قبل في شوارع المدن الأمريكية تارة بداعي التمييز العنصري ( جورج فلويد) وتارة بذريعة تزوير الانتخابات الرئاسية ، ولكن أكاد أجزم بأن تلك الاحتجاجات التي اتسمت بالعنف لم تكن لتبدو بتلك الصورة لولا أشهر الحظر التي سبقتها والتي فعلت فعل ” طنجرة الضغط” ، وما على الحكومة الخفية إلّا أن تقرر متى وأين يمكن توجيه انفجارها ….. فهل نحن أمام سيناريوهات عنفية سنشهدها في الشهور القادمة قد تطيح بأنظمة وتغير خارطة العالم وتحالفاته الحالية تمهيداً لنظام اقتصادي عالمي جديد أطلق عليه اسم ” ما بعد العولمة” الذي أصبح متداولاً بكثرة في معظم مراكز البحوث والدراسات الاستراتيجية في العالم ؟ ….لننتظر ونرى.
(المصدر: رسالة بوست)