مقالاتمقالات مختارة

مقاصد الخلق الخمسة وجوهر التربية الأصيل .. دراسة في ضوء القرآن الكريم

مقاصد الخلق الخمسة وجوهر التربية الأصيل .. دراسة في ضوء القرآن الكريم

بقلم إدريس أحمد

تتبع الدكتور محمد أبوبكر المصلح، أستاذ الثقافة الإسلامية، في كلية الشريعة والدراسات الإسلامية، جامعة قطر، في موضوع البحث عن مقاصد خَلق الإنسان في القرآن الكريم، وأوصلها إلى خمسة مقاصد، حيث عالج العلاقات بين هذه المقاصد الخمسة بعضها بالبعض، واتصال كل واحد منها بجوهر تربية الإنسان الأصيل الذي يتمثل في ارتقاء الإنسان إلى معارج الكمال، ويعد هذا الجهد أحد إسهاماته القيمة ضمن مشروع  “الثقافة الإسلامية من التأسيس إلى التدريس”.

بنى الباحث هذه الدراسة على منطلقات علمية آتية:

1- وجود علاقة وثيقة بين جوهر مفهوم التربية الأصيل – وهو الترقي في معارج الكمالات – وكون الكمال المطلق لله وحده سبحانه.

2- يقتضي كمال الله تعالى أن الوجود لم يخلق عبثا ولكنه مظهر من مظاهر كمال الله تعالى المطلق، ويلزم من ذلك أن للوجود مقاصد وأسرارا.

تناول القرآن الكريم مقاصد خلق الإنسان وأسراره بعناية فائقة؛ تبصرة الإنسان بسبب وجوده وطريقة اكتشاف حقيقته في هذا الوجود، ليصل بذلك إلى إدراك كمال إنسانيته، واعتمد القرآن على أساليب وسياقات متعددة في بيان هذه الغايات والمقاصد، وهذا البحث اقتصر على المقاصد التي جاءت بصيغ تعليل ظاهرة، وعقد المقارنة وناقش نوع العلاقات بين هذه المقاصد وجوهر التربية الأصيل، الذي هو الترقي في معارج الكمال الإنساني الذي “لا يتحقق إلا بقدر ما يحقق الإنسان من مقاصد خلقه”.

توصل البحث خلال استقراء نصوص القرآن الكريم والبحث في دلالات المعاني والسياقات إلى أن مقاصد الخلق في القرآن خمسة، وهي: العبادة، والاستخلاف في الأرض، وعمارة الأرض، والابتلاء، والاختلاف بين الناس.

اعتمد المؤلف في هذا البحث التربوي الشرعي على المنهجية التحليلية التأصيلية على ضوء القرآن الكريم، والتي ترتكز على ثلاث خطوات هي:

1- تحديد الأيات القرآنية التي كشفت عن مقاصد الخلق بصيغ تعليل ظاهرة، ودراستها دراسة دلالية مقارنة في ضوء سياقاتها.

2 – تحليل العلاقة بين دلالة كل مقصد من المقاصد الخمسة ودلالة جوهر التربية الأصيل.

3- استخلاص أهم النتائج من الخطوتين السابقتين وبيان الآفاق التي تفتحها تلك النتائج.

أولا – مقصد العبادة وجوهر التربية الأصيل

تحتل العبادة أول مقاصد الخلق في القرآن الكريم حيث جاءت في أصرح أساليب القرآن، وهو أسلوب القصر في قوله تعالى (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)، حيث فيه “قصرُ علة خلق الله الإنس والجن على إرادته أن يعبدوه”، وهذا الأسلوب أدعى للزعم أن العبادة هي الغاية الفريدة التي كشف عنها القرآن في مقاصد الخلق، والصحيح أن مقاصد الخلق لا تحصر في العبادة فقط، وأسلوب القصر في هذه الآية قصر إضافي حسب تحقيق ابن عاشور أي: إلا ليعبدوني وحدي .. وليس قصرا حقيقيا.

وأما نسبة العلاقة بين مقصد العبادة من خلق الإنسان، وبين جوهر التربية الأصيل وهو الترقي في معارج الكمال، فتظهر:

1 – في معالجة أسباب الانحراف عن غاية العبادة.

2 – معرفة درجات الكمال الإنساني أو التدرج في مراحلها يتوقف على الالتزام بالتكاليف الشرعية من الأوامر والنواهي.

ثانيا – الاستخلاف في الأرض وجوهر التربية الأصيل

كشف القرآن الكريم عن مقصد الاستخلاف في الأرض في أول بيانه عن قصة خلق أبي البشر، آدم عليه السلام في سورة البقرة، في قوله تعالى (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً). والكشف عن هذا المقصد في هذا السياق له شأن خاص إذ يرتبط بقصة خلق أول إنسان في الأرض.

وحقيقة الخليفة حسب ما رجحه المؤلف، في هذه الآية: “من يتولى عملا يريده المستخلف”، والسياق في مقام الامتنان يقتضي أن الخلافة هنا تشريف للخليفة من قبل المستخلف، لا لغيبته ولا لعجزه سبحانه. كما أنه يقتضي أن هذا التشريف لا يقتصر على شخص آدم وحده، ولكنه يتناول ذريته من بعده، إذ الآية في معرض الإخبار بخلق نوع جديد.

والخلافة تتضمن إلى جانب معنى التشريف لآدم وذريته، معنى التكليف لهم بالقيام بمهمات هذه الخلافة ومتطلباتها. ويترتب على ذلك أن الإنسان بقدر ما يلتزم باحكام من استخلفه بقدر تحقيقه لمعنى التكليف بالخلافة، وبالتالي كسبه صفة الخليفة.

وتظهر العلاقة بين مقصد الاستخلاف وجوهر التربية الأصيل:

1 – أن مقصد الاستخلاف في الأرض يتجذر في المقصد السابق وهو العبادة، كما أن الإنسان لا يمكن أن يحقق الغاية المطلوبة من الاستخلاف حتى يحقق الغاية الأولى وهي العبادة، وتتضح العلاقة بين مقصد الاستخلاف وبين جوهر التربية، أن الإنسان يرتقي في درجات الكمال حين يمثل مقصد الاستخلاف وغاياته.

2- أن تزكية النفس باعتبارها الشرط الأساس للقيام بأمانة الخلافة بحق هي من صميم جوهر التربية الأصيل، كما أنها من أحد مرتزكاتها.

 وعلى هذا فإن التربية ضرورية لتحقيق الاستخلاف في الأرض، وبسبب الاستخلاف في الأرض يرتقي الإنسان في معارج الكمال.

ثالثا – عمارة الأرض وجوهر التربية الأصيل

قد يظهر وجه من التداخل بين مقصد الاستخلاف في الأرض وعمارة الأرض، ولكن مع التأمل والتدقيق نجد بعض الفروقات بين هذين المقصدين، حيث إن عمارة الأرض هنا تفيد جانبا من التكليف بالقيام بالعمارة، يقول: “أمركم بعمارة ما تحتاجون إليه فيها من بناء مساكن وغرس أشجار”، وجاء ما يدل على أن عمارة الأرض مقصد مستقل من مقاصد الخلق في القرآن الكريم، في قوله تعالى: (هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) [هود: 61].

وترتبط عمارة الأرض بتسخير الله ما في الأرض للإنسان وتهيئته له، وترتبط كذلك بخلافة الأرض، ولكن عند التدقيق ندرك الفرق بين العمارة والاستخلاف في الأرض، وأنهما ليسا مترادفين. فالخلافة في الأرض مقام أسمى من عمارة الأرض؛ إذ إن الخلافة بمثابة القيام مقام المستخلف، وإجراء مقاصد المستخلف وأحكامه مجاريها، أما عمارة الأرض فهي تخضع لسنن الكون ونواميسه التي وضعها الخالق سبحانه وتعالى، حتى ولو مع الكفر بالله وعصيان أوامره.

وتتكشف العلاقة بين مقصد عمارة الأرض وجوهر التربية من جهة أنها أحد مقومات الارتقاء في معارج الكمال، وذلك من خلال استكشاف نواميس الكون المسخر للإنسان واستثمارها في بناء الأرض.

رابعا – مقصد الابتلاء وجوهر التربية الأصيل

من أصرح أساليب القرآن في بيان مقصد الابتلاء وأكثرها التصاقا بجوهر التربية هو استعمال لام التعليل في قوله تعالى: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) [الملك: 2] أي الحكمة من خلق الموت والحياة هي الابتلاء.

والعلاقة بين هذا المقصد وجوهر التربية الأصيل تتضح ابتداء من كون الغاية من الابتلاء إظهار مدى جودة المبتلى من رداءته، فالابتلاء طريق للصعود في مرتقى الكمال وهو الأجود.

خامسا – الاختلاف بين الناس وجوهر التربية الأصيل

الاختلاف بين الناس مقصد قدري نحو سابقه، فالإنسان غير مكلف بتحقيق الاختلاف فيما بينه ومن حوله، فالاختلاف مقدر من الله تعالى لحكمة علية، ولكنه مكلف بالعمل بمقتضى ذلك المقصد وتلك الحكمة، جاء في القرآن بيان هذا المقصد (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) [هود: 118 – 119].

يظهر من قوله (ولذلك خلقهم) الربط بين مقصد الاختلاف بين الناس وجوهر التربية الأصيل المتمثل في الارتقاء إلى الكمال حيث إن الاختلاف بين الناس في الأمور، صلاحها وفسادها، يترتب عليه التفاوت بينهم في مدراج الارتقاء، ويتميزون عن غيرهم في هذه الحياة.

كما أن الاستثناء في قوله (إلا من رحم ربك) يشعر بنوع الاختلاف في الدين الذي يحتمل الحق والباطل، فأخرج أهل الحق من هذا النوع من الاختلاف الذي فيه العدول عن الحق إلى الباطل.

والربط بين هذا المقصد  وبين جوهر التربية في تفاوت الناس في مدارج الاتقاء إلى الكمال يتضح باعتبار أن من يدرك مفهوم مقصد الاختلاف والحكمة منه، ويعمل بما يقتضيه من الحذر من الاختلاف المذموم .. يرتقي في مدراج الكمال ويكون ارتقاؤه بقدر إدراكه وتقيده بهذا المقصد والحكمة منه.

ومن يدرك هذا المقصد القرآني ويدرك سر الاختلاف بين الناس يتصف مع ثبات على الحق بالسماحة مع المخالف في الدين وهي من أعز صفات الكمال.

وأثبت الباحث في خاتمة هذه الدراسة أن هذه الأبعاد يمكن تحقيقها في التربية على أرض الواقع، حيث إنها تحققت في أمثل صورة في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، الذي شهد النبي صلى الله عليه وسلم أعلى غايات معارج الكمال، وأصبح الأسوة الحسنة للكمال البشري، وشهد ذلك العصر عروج الصحابة رضوان الله عليهم بتربية النبي صلى الله عليه وسلم لهم مقامات سامية متفوتة، فكانوا قدوات حسنة لمن بعدهم.


محمد أبو بكر المصلح، «مقاصد الخلق الخمسة وجوهر التربية الأصيل – دراسة في ضوء القرآن الكريم »، مجلة كلية الشريعة والدراسات الإسامية، المجلد 38 ، العدد 2، 2021 .
https://doi.org/10.29117/jcsis.2021.0273

(المصدر: إسلام أونلاين)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى