‘‘جمهوريَّة كأنَّ’’: نموذج واقعي لتحقُّق أهداف الماسونيَّة 3 من 5
إعداد د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن
انكشاف حقيقة الإطاحة بمبارك واستمرار الثَّورة ضدّ النّظام
في بيت المسيحي أشرف ويصا، يجتمع ممثّلون عن الحركات الثَّوريَّة في مصر، حركة ‘‘كفاية’’ وشباب 6 أبريل والجمعيَّة الوطنيَّة والاشتراكيين الثَّوريين، ويترأَّس الاجتماع أستاذ جامعي يبدأ بالتَّأكيد على أنَّ الثَّورة لم تنتهِ، وأنَّ الإطاحة بمبارك كانت فقط لحماية النّظام واستمراره. يرصد رئيس الاجتماع ممارسات الثَّورة المضادَّة، من فتْح للسُّجون وإطلاق السُّجناء لترويع الآمنين وتسريح للبلطجيَّة لمهاجمة المتظاهرين واستغلال للإعلام في تخوين رموز المعارَضة. يحدّد الأستاذ الجامعي خصم الثَّورة الجديد، وهو “المجلس العسكري المتحالف مع الإخوان المسلمين”، في محاولة من الأسواني للتَّأكيد على ما سبق وأن طرحه عن تواطؤ الجماعة مع الجيش ضدَّ الشَّعب لتحقيق مآرب شخصيَّة (ص424). يتَّفق الحاضرون على ضرورة إيجاد إعلام للثَّورة يكشف حقيقة ما يجري في البلاد وانتهاكات المجلس العسكري ضدَّ المواطنين. من جديد، يوظّف الأسواني حدثًا واقعيًّا في أحداث الرُّواية، وهو ما عُرف إعلاميًّا باسم ‘‘أحداث محمَّد محمود’’، الَّتي سبقت الإشارة إليها. يستغلُّ الرُّوائي الحدث في إظهار وحشيَّة المجلس العسكري في إخماد المظاهرات الَّتي خرجت في 19 نوفمبر 2011م للمطالَبة بتنفيذ مطالب الثَّورة، وعلى رأسها محاسَبة المسؤولين عن قتْل المتظاهرين وإصابتهم بعاهات مستديمة، وتسليم السُّلطة إلى رئيس مدني بعد انتخابات رئاسيَّة تعدُّديَّة. تصف النَّاشطة أسماء ما حدث من قتْل بالرَّصاص وضرْب بالعصي وحرْق لخيام المعتصمين في رسالة لها بكلمات مؤثّرة يستخدمها الأسواني في تلطيخ سمعة المجلس العسكري وإثبات جُرمه “هناك مشهد سيلحق الجيش المصري بالعار إلى أن تتمَّ محاكمة المجرمين. شبَّان قتَلهم الجيش بالرَّصاص يقوم الجنود بإلقاء جثثهم إلى جوار صناديق القمامة” (ص438). تدين النَّاشطة تواطؤ جماعة الإخوان مع السُّلطة من أجل المناصب، وتآمر الإعلام الرَّسمي والخاصّ بتستُّره على “جرائم العسكر” (ص438):
ومن بين استراتيجيَّات تشويه الانتفاضة والمشاركين فيها، ومن ضمن “الأكاذيب الَّتي يروّج لها المجلس العسكري”، إطلاق فقرة في برنامج المذيعة المحجَّبة، المعتادة على التَّشدُّق بالدّين وتصرُّفاتها أبعد ما يكون عنه، عنوانها ‘‘القائمة السَّوداء’’، تتولَّى فيها المذيعة التَّعرُّض بالإساءة إلى شخصيَّات عامَّة شاركت في المظاهرات، وادّعاء أنَّهم خونة ومموَّلين من الخارج. وفي المقابل، تجد الفتاة الثَّورة السَّافرة تترك بيت أهلها بعد إصرارهم على أن تترك نشاطها السّياسي ومشاركتها في المظاهرات والفعاليَّات الَّتي تنظّمها الحركات الثَّوريَّة، ومن بينها إطلاق حملة لتوعية المواطنين بانتهاكات المجلس العسكري، من خلال إقامة ندوات لاستعراض تلك الانتهاكات موثَّقة في مقاطع تُعرض على شاشات كبيرة. وتجدر الإشارة إلى أنَّ بعض النُّشطاء قد أطلقوا فعليًّا حملة تحت اسم ‘‘عسكر كاذبون’’، كانت تجوب الشَّوارع لتعريف العامَّة بالممارسات الشَّائنة للجيش ضدَّ المتظاهرين السّلميين. ووصلت تلك الحملة إلى المنطقة الَّتي كان يعيش بها المشير محمَّد حسين طنطاوي، الحاكم الفعلي لمصر وقتها.
تعامَلت قوَّات الأمن مع تلك الفعاليَّات بالقوَّة، وهذا ما ينقله الأسواني في روايته، بالإشارة إلى اندفاع البلطجيَّة إلى مكان عرْض انتهاكات الجيش، والقبض على أعضاء الحركات الثَّوريَّة، هذا إلى جانب مهاجمة مواطنين عاديين للمشاركين في الفعاليَّة، بعد أن نجح الإعلام في تسميم أفكارهم تجاه الانتفاضة ورموزها. يُلقى القبض على النَّاشطة أسماء، وتتعرَّض إلى أشدّ ألوان الضَّرب والإهانة اللفظيَّة، ويصل الأمر إلى تجريدها من ملابسها وكشف عورتها أمام الجميع. أمَّا صديقها، المهندس الثَّوري مازن، فهو أيضًا يُلقى القبض عليه بسبب دعوته عمَّال المصنع للاعتصام، تنديدًا بعدم تغيُّر الأوضاع بعد الإطاحة بمبارك واستمرار هضْم الحقوق، بل وتسليط البلطجيَّة المأجورين للهجوم على إنتاج المصنع والاستيلاء عليه، في ظلّ تخاذُل السَّلطة عن توفير الدّفاع. في حين تحكم القضاء ببراءة المتَّهمين من الضُّبَّاط بقتل المتظاهرين السّلميين، ويُصاب والد طالب الطَّب المقتول بصدمة نفسيَّة تُفقده توازنه. تقرّر أسماء بعد ذلك السَّفر إلى لندن لزيارة قريب لها، بعد أن أدركت أنَّه لا جدوى من محاولة معارَضة النّظام، خاصَّة بعد أن قال لها الضَّابط الَّذي حقَّق معها أنها وأقرانها لا يساوون شيئًا (ص509):
تضع أسماء في النّهاية يدها على أصل المشكلة، وهي أنَّ الشَّعب المصري راضٍ بالاستبداد، وخاضع للظُّلم، ومتغاضٍ عن الفساد، حتَّى أصبح جزءً منه، بحسب قولها. لم تسلم النَّاشطة من اتّهامات الجميع ولعنات كارهي انتفاضة الشَّباب، بما فيهم أهلها، حتَّى صارت على يقين بأنَّ ذلك السُّكوت على انتهاكات السُّلطة هو الَّذي شجَّع المتغطرس على التَّمادي في غطرسته، وصار الشَّعب يمجّد جلَّاده ويقنّن قمعه. من جديد، يسلّط الأسواني سهامه تجاه المتدينين، ويتَّهمهم بالنّفاق والاستغلال، حيث تختصُّهم النَّاشطة بانتقادها اللاذع في إدانتها للزَّيف الَّذي يحيط بكافَّة نواحي الحياة في مصر. يبدو كلُّ شيء في مصر “كأنَّه حقيقي”، لكنَّه في الحقيقة “كذب في كذب”، ويشمل ذلك “رئيس الجمهوريَّة الَّذي يحكم بانتخابات مزوَّرة، لكنَّ الشَّعب يهنّئه بالفوز فيها”، ووالدها الَّذي يصمت على إذلال كفيله الخليجي من أجل الرَّاتب، ومدير مدرستها الَّذي “يوقف الدّراسة من أجل صلاة الظُّهر بينما هو أكبر فاسد”، كذلك زملاءها المدرّسين “المتديّنين والملتحين والمحجَّبات والمنقَّبات الَّذين يبتزُّون بنات فقيرات من أجل الدُّروس الخصوصيَّة”؛ وبعد سعت مع أقرانها من النُّشطاء إلى توعية النَّاس للمطالَبة بحقوقهم وقوبل ذلك بالرَّفض والكره والاتّهام بالخيانة، أدركت أسماء أنَّ “مصر هي جمهوريَّة كأنَّ” (ص510). من ثمَّ تقرّر النَّاشطة الإقامة في الغرب، وتجد الدَّعم من مسيحي نبيل، يذكّرها بالنَّاشط أشرف ويصا، الَّذي حماها في بيته من عناصر الأمن أيَّام الانتفاضة. تنصح أسماء مازن بالسَّفر لأنَّ معركة نشْر الوعي بين المصريين فشلت لأنَّهم راضون عن الظُّلم وهمُّهم هو كسْب العيش وتربية الأبناء (ص512):
تنتهي أحداث الرُّواية باستعانة مدني، والد طالب الطّب المقتول، بقتلة مأجورين لخطْف ضابط الشُّرطة الَّذي قتَل ابنه بشهادة زملائه، ثمَّ برَّأته المحكمة. لا يقتل الرَّجل المسنُّ الضَّابط المذعور، الَّذي يتجلَّى ضعفه في بكائه واستعطافه مدني لكي يرحمه؛ إنَّما يريه أغراض ابنه، الَّذي ربَّاه وكان ينتظر يوم تخرُّجه، ويعبّر عن حسرته بعد أن فقَده وهو يدافع عن حريَّة بلاده. يلملم المسنُّ الموتور أغراض فقيده، ثمَّ يمضي، ويُسمع صوت طلقات رصاص، من المفترَض أنَّها أصابت الضَّابط القاتل.
تجلّيات تطبيق مخطَّطات الماسونيَّة في أحداث الرُّواية
1.التَّرويج للإباحيَّة واعتبارها جزءً من حياة النَّاس، حتَّى المحافظين والملتزمين دينيًّا؛ وكذلك التَّرويج لمعاقرة الخمور وتدخين الموادّ المخدّرة من أجل زيادة النَّشوة الجسديَّة أو الهروب من الواقع. يُضاف إلى ذلك التَّهافت على العلاقات الجسديَّة، سواءً كانت داخل إطار الزَّواج أو خارجه، ويدخل في ذلك الوصف المخزي الَّذي استخدمه الرُّوائي في إشارته إلى العلاقات بين شخصيَّات الرُّواية؛ وكأنَّما يتعمَّد إثارة القارئ وتشجيعه على الفحشاء، دون حساب لمانع أو رادع.
2.تشويه صورة المتديّنين، رجالًا ونساءً، ووصمهم بالنّفاق والمتاجرة بالدّين لأجل المصالح الأنانيَّة، ويدخل في ذلك اتّهام جماعة الإخوان المسلمون بالتَّواطؤ مع المجلس العسكري في سبيل الحصول على مقاعد في البرلمان، في أوج انتفاضة الحركات الثَّوريَّة في وجه تعنُّت المجلس في تنفيذ مطالب المتظاهرين. في المقابل، يُشهد للمسيحيين بنُبل الأخلاق والشَّهامة والحرص على مصلحة الوطن، وإن كان النَّموذج المسيحي، الَّذي أُفرد دور رئيس في الأحداث، سكّيرًا وزانيًا. يُضاف إلى ما سبق إبراز التَّناقض بين شخصيَّة المذيعة المحجَّبة ووصمْها بالتَّهتُّك والخلاعة والنّفاق، وشخصيَّة النَّاشطة الحقوقيَّة السَّافرة والرَّافضة لمفهوم تغطية الرَّأس، والصَّائنة مع ذلك على عفَّتها، والرَّافضة للبقاء في مصر بعد أن فضحت السُّلطة سترها وكشفت عورتها.
3.التَّشجيع على الإلحاد، من خلال الدَّفع إلى إعادة النَّظر في ثوابت الدّين، والتَّشكيك في تعاليمه، بحجَّة أنَّ ما طُبّق قبل مئات السّنين لم يعد يصلح اليوم. يروّج الرُّوائي فكرة مسمومة عن أنَّ الرّقابة على السُّلوك الإنساني ينبغي أن تكون للضَّمير والأخلاق، وليس للمؤسَّسة الدّينيَّة الَّتي توظّف النُّصوص والأحكام فيما يخدم السُّلطة الحاكمة. يُصوَّر الدَّاعية الإسلامي على أنَّه بمثابة رجل أعمال، يُجنّده النّظام الحاكمة لاكتساب هالة من الشَّرعيَّة والتَّقدير الشَّعبي. يُذكر في السّياق ذاته الدَّعوة الضَّمنيَّة لتوحيد الدّيانات في عقيدة واحدة، بحجَّة أنَّ الصَّلاة المشتركة بين أبناء الانتماءات الدّينيَّة المختلفة أفضل من صلاة يؤمُّ النَّاس فيها رجل دين من المحسوبين على السُّلطة والمؤتمرين بأوامرها.
4.تقويض المفهوم التَّقليدي للأسرة، من خلال تبرير تمرُّد الفتيات على الزَّواج، والتَّشجيع على الارتباط بدون زواج رسمي، ولو كان الطَّرفين يختلفان في الانتماء الدّيني. في المقابل، يُصوَّر تعدُّد الزَّوجات على أنَّه نوع من البغاء المقنَّع، بموافقة المذيعة المحجَّبة على الزَّواج السّرّي من شخصيات نافذة، خدمةً لمصالحها. يقرّر الرجل المسيحي أن يهجر زوجته ويعيش مع خادمته المسلمة، متحديًا القيود الدّينيَّة والتَّقاليد المتوارثة؛ وتُترك نهاية علاقة النَّاشطين، مازن وأسماء، خاضعة لكافَّة الاحتمالات، وإن كان الاحتمال الأقوى هو الارتباط دون زواج رسمي، مع عدم إشارة أيّ منهما إلى نيَّة الزَّواج.
5.الدَّعوة إلى الثَّورة على النّظام القائم بكافَّة مؤسَّساته، السّياسيَّة والاجتماعيَّة والدّينيَّة، واعتبار أنَّ الحلَّ هو النُّهوض بوعي النَّاس حتَّى يطالبوا بحقوقهم المسلوبة. يربط الأسواني الأمل في التَّغيير بالشَّابين، مازن وأسماء، المنتميين إلى تيَّار الاشتراكيين الثَّوريَّة، الَّذي يصوَّر بدوره على أنَّه المرشد الحقيقي للشَّعب، الملهي بالأعباء الأسريَّة ومشاغل العمل. وتؤدّي الفوضى النَّاتجة عن الانقلاب على السُّلطة إلى إعادة تكوين هيكل المجتمع وفق مخطَّط النّظام العالمي الجديد. كما يذكر الدُّكتور بهاء الأمير، في كتابه الوحي ونقيضه: بروتوكولات حكماء صُهيون في القرآن (2006م)، فإنَّ من أهمّ ما تخطّط له البروتوكولات إحداث فوضى، تحت زعْم نشْر الحريَّات، من خلال إسقاط السُّلطة الحاكمة؛ وحينها يصبح قيد إعادة التَّشكيل على أيدي اليهود وأعوانهم. يقول البروتوكول الأوَّل (ص321-322):
في أيّ دولة تختلُّ سُلطتها، وتنتكس فيها هيبة القانون، ويفقد الحُكم شرعيَّته وقوَّته أمام طوفان التَّحرُّريَّة، يجب علينا أن نجهّز ما تبقَّى فيها من نظام وقواعد، لكي نسخّر القوانين، ونعيد بناء النّظام ومكوّناته؛ بما يضع مقاليده في أيدينا ويوطّد سيطرتنا عليه.
6.الإعداد للمواجهة المصيريَّة بين التَّيَّار الإسلامي والتَّيَّار الاشتراكي، مع تهيئة العامَّة للاصطفاف مع الاشتراكيين من نشطاء الحركات التَّمرُّديَّة، الَّذين يقرنهم الرُّوائي بشرف القضيَّة وسموّ الأهداف، في مقابل نذالة الإسلاميين وتهافتهم على السُّلطة وفهمهم السَّطحي للدّين والتَّواطؤ مع السُّلطة الرَّسميَّة في سبيل تحقيق المصالح.
علاقة الماسونيَّة بالحركات الثَّوريَّة في العالم
نُشر كتاب الشَّيطان: أمير هذا العالم عام 1966م، بعد وفاة مؤلّفه بسبع سنين، وقد تركه مجرَّد مخطوطة، ليتولَّى نجله، وليام غاي كار الابن، النَّشْر، بعد تحريره وتنقيحه، تحقيقًا لأمنية الأب. أراد غاي كار قبل وفاته نشْر هذا الكتاب ليُطلع النَّاس على “المؤامرة المُعدَّة لطمْس كلّ أثر للأخلاق في هذا العالم وفي جميع الحضارات كما نعرفها اليوم” (ص7). يشير غاي كار الابن في مقدّمته للكتاب إلى أنَّه لم يكتمل بسبب وفاة مؤلّفه، ويعترف أنَّ تلك “السّيمفونيَّة غير المكتملة” قد تصيب القارئ بالصَّدمة ما هول ما سيقرأ، ولكن من المؤكَّد أنَّ آخرين سيجدون فيه تفسيرات للعديد من الأحداث العالميَّة المحيّرة، وقد يساعدهم ذلك في إيجاد حلول لبعض الأزمات المؤرقة (ص7). وقد أصدرت دار النَّشر الأردنيَّة الأهليَّة للنَّشر والتَّوزيع عام 2014م نسخة مترجمة، أعدَّتها عماد إبراهيم، من كتاب Satan: Prince of this World-الشَّيطان: أمير هذا العالم، آخر ما ألَّف الكاتب وضابط البحريَّة الكندي وليام غاي كار، قبل وفاته عام 1959م.
الحركة الثَّوريَّة العالميَّة وعلاقتها بتمرُّد إبليس
يستهل المؤلّف، وليام غاي كار، كتابه بالإشارة إلى أنَّ كتابيه الشَّهيرين أحجار على رقعة الشَّطرنج (1955م) والضَّباب الأحمر فوق أمريكا (1957م) قد أثارا اهتمام الكثيرين، ممَّن أمدُّوه بفيض من المعلومات عن الحركة الثَّوريَّة العالميَّة (World Revolutionary Movement)، بل وبعلاقتها بمؤامرة أعضاء كنيس الشَّيطان لإخضاع البشر والقضاء على الأديان، ولا يجد المؤلّف حرجًا في الاعتراف بأنَّ ما أورد في كتاب أحجار على رقعة الشَّطرنج (1955م)، بشأن مساعي أولياء الشَّيطان لاستعباد البشر جسديًّا ذهنيًّا وروحيًّا، كان محدودًا. يعيد غاي كار طرْح سؤال ظلَّ يؤرقه منذ عام 1911م، وهو “لماذا لا يستطيع الجنس البشري أن يحيا معًا في سلام، وبالتَّالي أن ينعم بالخيرات والبركات الَّتي وفَّرها الرَّبّ الخالق بتلك الوفرة لنستخدمها وننعم بها؟”، ولا شكَّ أنَّ أنسب ردّ على ذلك التَّساؤل هو أنَّ أعضاء كنيس الشَّيطان، المرابين اليهود وأذنابهم أقطاب الرَّأسماليَّة والنَّازيَّة والشُّيوعيَّة، هم جذور البلاء (ص13-14). هناك علاقة وثيقة لم ينتبه إليها غاي كار بين ثورة الشَّيطان وتمرُّده على الرَّبّ بعد خلْق الإنسان الأوَّل وتفضيله على الملائكة وبين الحركة الثَّوريَّة العالميَّة، الَّتي تقف وراء إشعال الثَّورات والحروب بهدف فرْض سيطرة كنيس الشَّيطان على العالم بعد القضاء على الحكومات والأديان. ويرى غاي كار في الحركة الثَّوريَّة العالميَّة أنَّها “نسخة طبْق الأصل من الصّراع الّذي أعدَّه الشَّيطان وأتباعه للسَّيطرة على العالم” قبل أن يُطردوا من الجنَّة (ص14).
ونعرف من القرآن الكريم أنَّ إبليس رفَض السُّجود لآدم، لمَّا أراد الله تعالى أن يجعله خليفةً في الأرض، وكان دافعه إلى الرَّفض الاستكبار والغرور؛ وحينها طُرد من رحمة الله تعالى وأُخرج من الجنَّة، وما كان منه إلَّا أن طَلب من ربّه أن يمهله إلى يوم البعث لإغواء البشريَّة، وحينها استجاب الله لطلبه، يقينًا منه، سبحانه، بأمَّ عباده “الْمُخْلَصِينَ” ليس للشَّيطان أن يفرض عليهم سلطانه، مصداقًا لقوله ” إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ۖ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ (75) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ ۖ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ (76) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78) قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ (80) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83)” (سورة ص: آيات 71-83). ويحذّرنا الله تعالى من مغبَّة الانسياق وراء إغواء الشَّيطان، موضحًا أنَّ عذاب جهنَّم مصير أولياء إبليس، كما تخبرنا السُّورة ذاتها “قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85)” (سورة ص: آيتان 84-85). وبرغم هذا التَّحذير الإلهي من اتّباع الشَّيطان، فهناك فئة من بني البشر اعتقدوا في أنفسهم التَّميُّز عن سائر الخلق، وصدَّق عليهم إبليس ظنَّه وصدَّقوا وساوسه بأنَّهم فئة كُتب لها أن تسود البشر أجمعين، اتّباعًا لنهج ولّيّهم لمَّا تباهى بأنَّه خيرٌ من مخلوق آخر للخالق ذاته “ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ ۖ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ (سورة ص: الآية 76).
شدَّد غاي كار في كتاب أحجار على رقعة الشَّطرنج (1955م) على أنَّ المرابين اليهود هم وراء المؤامرة العالميَّة ضدَّ البشر أجمعين، ويشير في هذا الكتاب إلى أنَّ هؤلاء ليسوا بيهود، وأصدق وصْف لكنيسهم هو أنَّه “مجمع الشَّيطان”، وفق ما يذكر سفر رؤيا يوحنَّا اللاهوتي في وصفه لهؤلاء بـ “الْقَائِلِينَ: إِنَّهُمْ يَهُودٌ وَلَيْسُوا يَهُودًا، بَلْ هُمْ مَجْمَعُ الشَّيْطَانِ” (رؤيا يوحنَّا اللاهوتي: إصحاح 2، آية 9)، ويتكرَّر الوصف في موضع آخر “الْقَائِلِينَ إِنَّهُمْ يَهُودٌ وَلَيْسُوا يَهُودًا، بَلْ يَكْذِبُونَ” (رؤيا يوحنَّا اللاهوتي: إصحاح 3، آية 9). على أيّ حال، يعتقد مَن يطلقون على أنفسهم أنَّهم يهود، أنَّ الغوييم، أو الأغيار، أي مَن لا يرتقون إلى السُّلالة اليهوديَّة، من الَّلازم أن تُفرض عليهم الحروب والثَّورات “حتَّى يتسنَّى للذين يديرون المؤامرة أن يغتصبوا السَّيطرة على العالم” (ص17). وكان من أهمّ نتائج الحربين العالميتين والثَّورات الثَّلاثة الكبرى، الأمريكيَّة (1772-1776م) والفرنسيَّة (1789-1798م) والرُّوسيَّة (1917م)، إفساح المجال أمام تطبيق الاشتراكيَّة، المفهوم الأقل شدَّة من الشُّيوعيَّة، وقد ترتَّب على اندلاع تلك الحروب والثَّورات نشوب صراعات دامية بين بني البشر، لم يظهر فيها دورٌ مباشر لأعضاء كنيس الشَّيطان، ممَّن اتَّخذوا من الخداع وسيلة لإدارة الحركة الثَّورة العالميَّة، أصل التَّآمر.
يشير سفر التَّكوين إلى أنَّ خروج آدم من الجنَّة كان بعد أن حرَّضته زوجه على الأكل من شجرة “معرفة الخير والشَّر”، استجابةً لإغواء الشَّيطان، برغم تحذير الرَّبّ من ذلك “وَأَوْصَى الرَّبُّ الإِلهُ آدَمَ قَائِلًا: «مِنْ جَمِيعِ شَجَرِ الْجَنَّةِ تَأْكُلُ أَكْلًا. وَأَمَّا شَجَرَةُ مَعْرِفَةِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ فَلاَ تَأْكُلْ مِنْهَا، لأَنَّكَ يَوْمَ تَأْكُلُ مِنْهَا مَوْتًا تَمُوتُ»” (سفر التكوين: الإصحاح 2-الآيتان 16-17). لم يمت آدم وزوجه لمَّا أكلا من تلك الشَّجرة، ممَّا يثبت كذْب ادعاء الرَّبّ ورغبته في الاستئثار بالمعرفة، وهذا ما يبرّر تمرُّد آدم وزوجه على الرَّب، وهذا ما أخبرهما عنه الشَّيطان، الَّذي تجسَّد لهما في صورة حيَّة “فَقَالَتِ الْحَيَّةُ لِلْمَرْأَةِ: «لَنْ تَمُوتَا! بَلِ اللهُ عَالِمٌ أَنَّهُ يَوْمَ تَأْكُلاَنِ مِنْهُ تَنْفَتِحُ أَعْيُنُكُمَا وَتَكُونَانِ كَاللهِ عَارِفَيْنِ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ»” (سفر التكوين: الإصحاح 3-الآيتان 4-5). ولأنَّ الشَّيطان بذلك هو الَّذي أرشد الإنسان الأوَّل إلى طريق المعرفة، توجَّبت تسميته بـ “لوسيفر” (Lucifer)، أي حامل النُّور. ومن بين العقائد السّريَّة لليهود أنَّ الشَّيطان كان على علاقة بحوَّاء، زوج آدم، وأنَّه أراد منحها وآدم القدرة على أن يصيرا ندَّين للرَّب في القوَّة، بإخبارها بأسرار التَّناسل. بخروج آدم وحوَّاء عن طاعة ربّهما، فقد صارا تابعين للشَّيطان، وأصبحت ذرّيتهما أبناءً للشَّهوات، حتَّى يتراجعوا عن ذلك الطَّريق ويعيدوا صلَّتهم بالرَّب. يُفهم ممَّا سبق أنَّ الاستكبار كان سبب طرْد إبليس من جنَّات عدن، وقد أفضى انشقاقه عن طاعة الرَّب إلى إعلان نفسه حاكمًا على الجحيم، الَّذي يجرُّ إلى طريقه أولياءه ممَّن ينخدعون بزيف أمانيه فيصيرون يرون الجحيم جنَّةً، والجنَّة جحيمًا. وتنصُّ العقيدة السّريَّة ذاتها على أنَّ حركة الثَّورة السَّماويَّة وُضع لها حدٌّ من قِبل ميخائيل، رئيس الملائكة، ليهيمن على الكون منذ حينها قوَّتان خارقتان، هما قوَّة الرَّبّ الَّذي يحكم الطَّائعين له، وقوَّة إبليس، ملك مملكة الظَّلام الَّذي يتَّبعه كافَّة المتمرّدين على طاعة ربّهم.
انتقل الصّراع بين اتّباع الرَّبّ والتَّمرُّد على إرادته، ومن ثمَّ الانضمام إلى تمرُّد الشَّيطان، إلى الأرض، وقد نجح الشَّيطان في إقناع أوليائه بأنَّ إطاعته واجبه في سبيل الوصول إلى الحريَّة والمساواة والإخاء، ولو تطلَّب الأمر ممارسة الاستبداد والإبادة الجماعيَّة من أجل تحقيق ذلك. وقد استند مخطَّط آدم وايسهاوبت، والَّذي أكمل إعداده ألبرت بايك، للسَّيطرة على العالم، إلى الاعتقاد بأنَّ إبليس كان أذكى الملائكة، وأنَّ تمرَّده كان نابعًا من إيقانه بأنَّه “لا يمكن إلَّا لديكتاتوريَّة شموليَّة أن تضمن السَّلام والازدهار عن طريق إجبار جميع الكائنات الدُّنيا على طاعة أوامر الكائن الأسمى من خلال الاستبداديَّة (الشَّيطانيَّة) المُطلقة” (ص34). وكما للشَّمس السَّيطرة على المجموعة الشَّمسيَّة وكافَّة الأجسام التَّابعة لها، للشَّيطان المخلوق من نار، والمتوهّج في بريقه، تمامًا، مثل الشَّمس، كامل السَّيطرة على العالم الَّذي يحكمه. ويعتقد عبَّاد الشَّيطان، بوصفه أمير هذا العالم، كما يخبر عنوان الكتاب، يزعمون أنَّ يسوع النَّاصري عجْز عن تنفيذ مهمَّته على الأرض؛ لأنَّه رفض التَّحالف مع الشَّيطان، الَّذي بدوره دبَّر خيانة أحد تلامذته له، ثمَّ محاكمته على يد الرُّومان، الَّذين لعبوا دور القضاة والجلَّادين لكنيس الشَّيطان. أراد كنيس الشَّيطان إبعاد اليهود عن اتّباع رسالة يسوع بشتَّى السُّبل، من خلال سيطرته على عقولهم، بينما أخبر يسوع ذاته أنَّه جاء لتحرير البشر، يهودًا وأغيارًا، من العبوديَّة للشَّيطان.
ابتكر أولياء الشَّيطان ومنفّذو مخطَّطه حيلة اتّهام المعارضين لليهود بمعاداة السَّاميَّة، وبل وشجَّعوا على ذلك وموَّلوه؛ ليس فقط لكسْب التَّعاطف، إنَّما كذلك للتَّخلُّص من الخصوم تحت تلك الذَّريعة. غير أنَّه من العبث، كما يصف غاي كار، الاعتقاد بأنَّ الحركة الثَّوريَّة العالميَّة يهوديَّة الهويَّة، وأنَّها تستهدف إخضاع العالم لقبضة اليهود، حيث يرى أنَّ “أولئك الَّذين يزعمون أنَّ الحركة الثَّوريَّة العالميَّة هي يهوديَّة أو رومانيَّة أو شيوعيَّة أو نازيَّة أو ماسونيَّة أو من أيّ نوع من التَّآمر، إنَّما قولهم هراء محض”؛ والسَّبب هو أنَّ مؤامرة أتباع كنيس الشَّيطان ترمي إلى تدمير كافَّة أشكال الأديان ونُظم الحُكم، وإن كان النّظام المراد إقامته يهودي الظَّاهر هدفه تنصيب المخلّص، وهو المسيح، حاكمًا على العالم (ص46). لن يبقى من بني البشر على قيد الحياة زمن ظهور المخلّص وفرْض سيطرته على العالم سوى حفنة من أباطرة المال والعلماء “أثبتوا أنَّهم مخلصون لقضيَّة إبليس”، وسينحصر التَّناسل في الكائنات الحيَّة بحسب ما يكفي لسدّ الحاجات، وسيكفي لذلك 5 بالمائة من الذُّكور و30 بالمائة من النّساء.
انتقال الحركة الثَّوريَّة العالميَّة إلى الأرض
يوضح وليام غاي كار أنَّ كافَّة الشُّعوب، بما فيها البدائيَّة، آمنت بوجود كائن سامٍ هو مصدر الخير، يستحق العبادة والطَّاعة، مع وجود قوَّة شرّ لكائن آخر، يسعى إلى إفساد علاقة البشر بالرَّبّ الخالق، وهو الشَّيطان. يثير المؤلّف الكندي مسألة هامَّة، وهي عدم إشارة الكتاب المقدَّس إلى سبب تمرُّد الشَّيطان على الرَّبّ، وقد استُنتج أنَّ السَّبب هو الاستكبار والغرور والشُّعور بالتَّميُّز عن الإنسان المخلوق من طين، وهذا ما يشير إليه القرآن الكريم ” فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ۖ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ (75) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ ۖ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ (76)” (سورة ص: آيات 73-76). ويتَّفق بعض علماء اللاهوت المسيحي مع ذلك الرَّأي، حيث يعتقدون أنَّ إبليس استفزَّته غيرته من بني البشر، الَّذين مُنحوا “الفرصة والإمكانيَّة للارتقاء إلى أعلى مراتب الكائنات السَّماويَّة” (ص54). لم يغلق الرَّبُّ باب التَّراجع عن اتّباع إبليس في عصيانه، علمًا منه بأنَّ بعض أتباعه غُرّر بهم وخُدعوا بزيف وعوده، وقد قال الله تعالى في ذلك “إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِن يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَّرِيدًا (117) لَّعَنَهُ اللَّهُ ۘ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ ۚ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ ۖ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (120)” (سورة النّساء: آيات 117-120). بالطَّبع، كان بإمكان الرَّبّ أن يُحبِط مخطَّط إبليس لإغواء البشر للتَّمرُّد عليه، لكنَّه أراد أن يختبر كلَّ إنسان، بأن يترك له مجال التَّمرُّد، دون أن يمنع عنه التَّوبة، إذا عاد إلى طريق الحقّ، وفي القرآن الكريم ما يؤيّد ذلك، شريطةً أن تشمل التَّوبة التَّراجع عن الشّرك بالله، كما تُخبر الآية الكريمة في سورة النّساء، السَّابقة على الآيات آنفة الذّكر “إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (سورة النّساء: الآية 116).
من جديد، يتطرَّق غاي كار إلى ما تشتمل عليه عقيدة عبادة الشَّيطان، وتكرّس لها تعاليم محفل الشَّرق الأكبر والطَّقس البالاديني، من أنَّ حوَّاء قد انجذبت إلى إبليس، وتعلَّمت منه أسرار الجماع الصَّحيحة، الَّتي تكفل إنجاب الذُّريَّة، وكان في ذلك إحباط لمخطَّط الرَّبّ للاحتفاظ بحقيقة “المعرفة عن السُّلوك الجنسي وسرّ الإنجاب” (ص69). المفارقة أنَّ الكتاب المقدَّس، في سرْده قصَّة الخلق، ينفي أن تكون المعرفة الَّتي أراد الرَّبُّ حجبها تتعلَّق بالتَّكاثر، إنَّما بمعرفة الخير والشَّر، كما جاء في “فَقَالَتِ الْحَيَّةُ لِلْمَرْأَةِ: «لَنْ تَمُوتَا! بَلِ اللهُ عَالِمٌ أَنَّهُ يَوْمَ تَأْكُلاَنِ مِنْهُ تَنْفَتِحُ أَعْيُنُكُمَا وَتَكُونَانِ كَاللهِ عَارِفَيْنِ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ»” (سفر التكوين: الإصحاح 3-الآيتان 4-5). تجدر الإشارة إلى أنَّ الشَّيطان، متجسّدًا في صورة “الْحَيَّة”، قد لُعن وطُرد من الجنَّة، ليس لأنَّه رفَض السُّجود لآدم، مصداقًا لقول الله تعالى “قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ۖ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ (75) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ ۖ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ (76) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78)” (سورة ص: آيات 75-78)؛ إنَّما لأنَّه أخبر آدم وحوَّاء بكذب الرَّبّ بشأن سبب عدم أكلهما من شجرة المعرفة، “فَقَالَ الرَّبُّ الإِلهُ لِلْحَيَّةِ: «لأَنَّكِ فَعَلْتِ هذَا، مَلْعُونَةٌ أَنْتِ مِنْ جَمِيعِ الْبَهَائِمِ وَمِنْ جَمِيعِ وُحُوشِ الْبَرِّيَّةِ. عَلَى بَطْنِكِ تَسْعَيْنَ وَتُرَابًا تَأْكُلِينَ كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِكِ. وَأَضَعُ عَدَاوَةً بَيْنَكِ وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ، وَبَيْنَ نَسْلِكِ وَنَسْلِهَا. هُوَ يَسْحَقُ رَأْسَكِ، وَأَنْتِ تَسْحَقِينَ عَقِبَهُ»” (سفر التَّكوين: إصحاح 3، آيتان 14-15).
من الملفت أنَّ الرَّبَّ يذكر أنَّ للحيَّة نسلًا، وهناك مَن يعتقد أنَّ نسل الحيَّة هو نتيجة علاقة بينها وبين حوَّاء؛ وما يدلُّ على ذلك أنَّ الرَّبَّ يأمر حوَّاء بأن يقتصر اشتياقها على زوجها، ممَّا يثير الشُّكوك حول إمكانيَّة انشغالها بغير زوجها، كما تخبر الآية التَّالية للآيتين آنفتي الذّكر “وَقَالَ لِلْمَرْأَةِ: «تَكْثِيرًا أُكَثِّرُ أَتْعَابَ حَبَلِكِ، بِالْوَجَعِ تَلِدِينَ أَوْلاَدًا. وَإِلَى رَجُلِكِ يَكُونُ اشْتِيَاقُكِ وَهُوَ يَسُودُ عَلَيْكِ»” (سفر التَّكوين: إصحاح 3، آية 16). ويشكّك بولس الرَّسول في عفَّة حواء في رسالته الثَّانية إلى أهل كورنثوس، حينما قال لهم أنَّه يريد تقديمهم “عَذْرَاءَ عَفِيفَةً لِلْمَسِيح”، لكنَّه يخشى أن يخدعهم الشَّيطان، كما فعل مع حوَّاء، حيث يقول “فَإِنِّي أَغَارُ عَلَيْكُمْ غَيْرَةَ اللهِ، لأَنِّي خَطَبْتُكُمْ لِرَجُل وَاحِدٍ، لأُقَدِّمَ عَذْرَاءَ عَفِيفَةً لِلْمَسِيحِ. وَلكِنَّنِي أَخَافُ أَنَّهُ كَمَا خَدَعَتِ الْحَيَّةُ حَوَّاءَ بِمَكْرِهَا، هكَذَا تُفْسَدُ أَذْهَانُكُمْ عَنِ الْبَسَاطَةِ الَّتِي فِي الْمَسِيحِ” (رسالة أهل كورنثوس الثَّانية: إصحاح 11، آيتان 2-3). والمثير أن يستدلَّ أولياء الشَّيطان على وجود علاقة بين حوَّاء والشَّيطان من هاتين الآيتين؛ حيث أنَّ المقصود بالعفَّة، ليس العفَّة الجسديَّة، إنَّما الرَّوحيَّة، من خلال الإيمان الصَّادق بيسوع، دون حياد عن طريقه.
وممَّا ينبغي الإشارة إليه أنَّ عقيدة عبادة الشَّيطان تزعم أنَّ يسوع النَّاصري والملاك ميخائيل شخص واحد، وأنَّ ميخائيل بعثه الرَّبُّ إلى الأرض في جسد يسوع “لعلَّه يضع حدًّا لمؤامرة إبليس هنا كما فعل سابقًا في السَّماء” (ص72). ويستنتج غاي كار أنَّ مؤامرة الشَّيطان لإغواء بني البشر بدأت قبل هبوطه إلى الأرض، وأنَّ الحركة الثَّوريَّة العالميَّة هي أحدث أشكال تلك المؤامرة الخبيثة، الَّتي يتعجَّب المؤلّف من مدى كمالها وقدرتها التَّدميريَّة الَّتي تفوق أيَّ قدرة سواها. وبرغم مساعي رجال الدّين، وكذلك المدنيين، إلى فضْح عبادة الشَّيطان والكشف عن مؤامرة معتنقي تلك العقيدة، طالما نجح هؤلاء في الهروب من الملاحقات ومواصلة طقوسهم، من خلال تقديم بدلاء للمتآمرين الفعليين. وبرغم العقوبات الصَّارمة الَّتي طالب السَّحرة والمشعوذين، من تحريق ونفي وغير ذلك من طرق المعاقبة، كان لعبدة الشَّيطان طرقهم في استئناف نشاطاتهم، وبخاصَّة في “التَّأثير على تفكير الجماهير لإحداث نتائج شريرة، بما في ذلك الحروب والثَّورات” (ص76).
(المصدر: رسالة بوست)