قراءة تاريخية للعلاقة بين المسلمين والصين
بقلم محمد شعبان أيوب
حضر أحد العلماء المسلمين المشاهير فتح وسط آسيا والصين، وهو الإمام التابعي الشَّعبي الذي يقول: “شهدتُ فتح سمرقند مع قتيبة بن مسلم، فنظر على بعض أبوابها لوحًا في الحائط فيه خطوط كأنها عربية وليست عربية – وكان اللوح من حجر- فتأمّله طويلا ثم قال: والله إني لأظنها بعض فِعالات حِمير (خط حِمير اليمني). ابغوني رجلا من الجند قريب العهد باليمن وكلام حِمير: فبعث إلى عبد الله الحزامي فقال له: أتعرف هذا الخط؟ قال: نعم -أصلح الله الأمير- هذا بخط حِمير الذي يقال له المُسند. قال: اقرأه. فإذا هو: باسمك اللهمّ. هذا كتاب ملك العرب والعجم شمر يرعش الملك الآثم. من بلغ هذا المكان فهو مثلي، ومن جازه فهو فوقي، ومن قصر عنه فهو دوني. فأبى قتيبة ألا يرجع حتى يطأ بلاد الصين. وبلغ ذلك ملكها فخاف فبعث إليه بإكليل مفصّل بالياقوت وبجراب من تراب بلده وقال: أبسط هذا التراب وامش عليه، فإذا فعلت فقد برّت يمينك. وضمن له خراجا في كل سنة”.
العرب والصين
تعود العلاقات العربية الصينية إلى ما قبل مجيء الإسلام، وقد كان العرب على علم بهذا القطر البعيد عنهم، والذي كانوا يسمونه الصين أو بلاد الشمس.
وعندما استولى المسلمون على ميناء الأبله قرب البصرة في خلافة عمر بن الخطاب وجدوا بها سفنا صينية وقيل إن الخليفة عمر ومن بعده عثمان أرسلا سفراء إلى الصين لتوثيق العلاقات بين الجانبين. وفي أواخر القرن التاسع عشر الميلادي حالف الحظ بعض المستشرقين بأن عثروا على شواهد قبور تثبت زيارة بعض العرب للصين في ذلك العهد القديم وذلك في مقبرة تؤكد وجود جماعة من أهل عُمان والخليج العربي. وعزز هذا الإثبات مصدر تاريخي آخر هو كتاب لأبي سفيان محبوب العبدي المتوفي في النصف الأول من القرن التاسع الميلادي.
ولقد ورد ذكر العرب لأول مرة في مصادر التواريخ الصينية في الوقت الذي بدأ فيه حكم أسرة (Tang) “تانغ” 618- 907م، كما تتحدث بإيجاز عن التعاليم الدينية للعقيدة الجديدة. أما التاريخ الصيني كوانجتنغ (Kwangtung) فيذكر قدوم أول من جاء من المسلمين إلى الصين قائلاً: “في عهد دولة تانغ وفد على مدينة كانتون (canton) عدد كبير من الغرباء من مملكة أنّام وكمبوديا ومدينا وبعض بلاد أخرى. وكان هؤلاء الغرباء يعبدون الله، وليس لهم في معابدهم تمثال ولا صنم ولا صورة. وكانت مملكة مدينا قريبة من مملكة الهند، وفيها نشأت ديانة هؤلاء الغرباء التي تختلف عن ديانة بوذا، وكانوا لا يطعمون لحم الخنزير، ولا يشربون الخمر”.
لقد استقبل ملك الصين هذا الوفد من المسلمين استقبالا حسنا، وسمح لهم الملك بالبقاء في مدينة كانتون الصينية، فاستقروا بها، وعملوا في التجارة، وكوّنوا لأنفسهم ثروة كبيرة ودانوا بالطاعة لرئيس انتخبوه، وقد قيل إن الخليفة عثمان بن عفان أرسل أحد سفرائه من قاعدة الفتوحات إلى الصين، فأكرم الإمبراطور الصيني وفادته.
الفتح الإسلامي والصين
على أن أول لقاء جدي بين الفريقين كان في عصر الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك بن مروان (86 – 96هـ/ 705- 715م)، حيث أمر واليه على العراق الحجاج بن يوسف الثقفي أن يتوسع في عملية الفتوحات، فأحال الأمر على القائد العسكري المخضرم قتيبة بن مسلم الباهلي الذي ولاه على خراسان، ومنها استطاع أن يعبر بلاد ما وراء النهر، ويضم بخارى وسمرقند إلى الدولة الإسلامية، ثم مضى في فتوحاته حتى وصل إلى الحدود الشرقية للإمبراطورية الصينية.
وما تؤكده الروايات التاريخية أن قتيبة استطاع فتح مدينة كاشغر التي كانت تعد أولى بوابات الصين الغربية، وهي المدينة التي تقع الآن في تركستان الشرقية التي تحتلها الصين، يقول الطبري في حوادث سنة (96هـ/715م): “وفي هذه السنة افتتح قتيبة بن مسلم كاشغر، وغزا الصين”.
وفي تلك الأثناء كانت العلاقات التجارية والدبلوماسية بين الفريقين على أفضل حالاتها، وتمتع المسلمون القاطنون في الصين، والتجار الرحالة بكل الضمانات والحقوق الكاملة، وانتعشت تجارة العطور والصوف والأحجار الكريمة بين الفريقين، يقول اليعقوبي في القرن الثالث الهجري: “أفضل المسك التبتي، ثم بعد المسك السُّغدي*، وبعد السغدي المسك الصيني، وأفضل الصيني ما يؤتى به من خانقوا (مدينة خوانجو) وهي المدينة العظمى التي هي مرقاة الصين التي ترسى بها مراكب تجار المسلمين”.
عصر التسامح الديني
لكن مع ظهور المغول في شمال حدود الصين وازدياد قوتهم، ونشأة دولتهم التي احتلت الصين فيما بعد على يد جنكيز خان في أوائل (القرن السابع الهجري/الثالث عشر الميلادي)، وتوسع الإمبراطورية المغولية لتستولي على كافة بلدان وسط آسيا الإسلامية، فقد تمخضت عن هذه الفتوحات المغولية حركة هجرة واسعة النطاق هاجر فيها المسلمون على اختلاف أعراقهم من عرب وفرس وأتراك وغيرهم إلى بلاد الصين، فجاءوها بهدف السكنى، وسمح لهم المغول بإقامة شعائرهم، واختلطوا بأهل الصين وتزوّجوا منهم، وبثوا الدعوة إلى دينهم، ووصل عدد منهم إلى مناصب عليا في دولة المغول، مثل عبد الرحمن التركي الذي عينه المغول وزيرا للمالية سنة 1244م.
وقد وثق المغول بعدد آخر من المسلمين مثل السيد الأجل عمر شمس الدين الذي كان من أهل بخارى في وسط آسيا، فقد عينه إمبراطور المغول وزيرا للمالية “بيت المال”، ثم أصبح حاكما لولاية يونّان في الصين، وقد مثلت ذرية السيد الأجل عمر دورا كبيرا في توطيد دعائم الإسلام في الصين، فكان حفيده هو الذي حصل من الإمبراطور الصيني سنة 735هـ/1335م على الاعتراف بالإسلام دينا رسميا في الدولة الصينية.
وفي القرن التالي سنة 1420م أذن الإمبراطور الصيني لشخص آخر من عائلة السيد الأجل أيضا بأن يبنى مساجد في عاصمتي البلاد (S? ngan fu) سنيانفو (Nan kin) ونانكن. وحين مر الجغرافي العربي ياقوت الحموي بمنطقة التبت في الصين في تلك الأثناء من القرن (السابع الهجري/الثالث عشر) الميلادي رأى بها مجموعات “من المسلمين واليهود والنصارى والمجوس والهند ويؤدون الإتاوة إلى العلوي (ملك بالقرب منهم) ولا يملكهم أحد إلّا بالقُرعة”.
وبعد ذلك بقرنين أو أقل زار الرحالة الأشهر ابن بطوطة الصين، ورأى أحوال المسلمين الممتازة بها تحت حكم أسرة جنكيز خان في القرن الثامن الهجري/ الرابع عشر الميلادي، يقول: “وملك الصين تتري من ذرية جنكيز خان، وفي كلّ مدينة من مدن الصين مدينة للمسلمين ينفردون بسكناهم، ولهم فيها المساجد لإقامة الجُمعات وسواها، وهم معظّمون محترمون”.
وبعد انقضاء دولة المغول، وعودة الصين للحكم الإمبراطوري الصيني في عهد أسرة منج (1368- 1644م)، ظل المسلمون على مزاياهم، وارتبطت الصين آنذاك بعلاقات دبلوماسية ممتازة مع جيرانها المسلمين على الحدود الغربية في وسط آسيا، خاصة مع الدولة التيمورية المغولية.
لقد تحدث أحد الرحّالة الأتراك الذين زاروا بكين سنة 1875م على أنه رأى ثلاثين مسجدا في العاصمة الصينية، كان أحدها في الأصل معبدًا لأسرة أحد الصينيين الأثرياء، لكن الأمور لم تكن على هذه الوتيرة من التسامح دائما، فثمة ثورات قامت ضد الحكم الصيني من المسلمين وغيرهم في القرن التاسع عشر الميلادي، ظهرت في ولاية يونّان من سنة 1855 إلى سنة 1873م، وثورة تونجان التي ظهرت في ولاية كنسو وشنشي من سنة 1864 إلى سنة 1877م، ومن سنة 1895 إلى العام التالي 1896م، كل هذه الثورات ومقاومة السلطات الصينية لها أدت إلى نقص عدد الأهالي من المسلمين ملايين من الأنفس.
الصين واحتلال تركستان الشرقية
على الجهة الغربية كان الأويرات** المسلمون من الأتراك والمغول يتوسعون في منطقة تركستان الشرقية على حساب أعراق أخرى مثل القرغيز والأوزبك، وقد استفز الصين هذا الأمر؛ لأنها ظلت ترى آسيا الداخلية جزءًا من نفوذها الطبيعي، وعلى الرغم من استمرار العلاقات التجارية بين الصين وجيرانها من المسلمين، فإنه مع حلول سنة 1759م ألحق الصينيون الهزيمة بل حكام تلك المناطق، وسيطروا على مدن وسط آسيا، وطردوا الخوجات الأتراك، وضموا تركستان الشرقية إليهم.
أدت سيطرة الصين على تركستان الشرقية إلى ضم مجموعات كبيرة من المسلمين من عرقيات الأويغور والقازاق والهوي إلى الصين، وقد حرص المسلمون على الحفاظ على هويتهم الإسلامية، وشعائرهم، وأسمائهم العربية، وانتماءاتهم الطائفية، وفق مرجعية إمام معين، وكان للمسلمين جوامعهم، ومدارسهم، ومرافقهم الخيرية، ومؤسساتهم الوقفية الخاصة.
لكن -كما يرى مارفن- لم يكن مسلمي الصين وتركستان الشرقية جماعة منظمة، لم يكن ثمة أي وحدة بين العديد من جماعات المسلمين المختلفة “وكان أفراد الهُوي مبعثرين على نطاق واسع، تعاملت سلالة المانشو (الحاكمة) مع الهوي عبر تأكيدات عنصري العصا والجزرة، أي الحماية والعقاب، مع سياسة براغماتية قائمة على قمع المقاومة والتسامح الديني”، وظل الحال على هذا الوضع من التسامح حتى القرن التاسع عشر الميلادي.
في أثناء انتفاضات المسلمين ضد الحكم الصيني في القرن التاسع عشر، استغل أحد حكام آسيا الوسطى وهو حاكم منطقة خوكند*** واسمه يعقوب بك ضعف الصين وانشغالها، ليعيد تركستان الشرقية، بل إنه أعلن تبعيته للدولة العثمانية، وقد قبل العثمانيون هذه التبعية، وأعلنوه أميرا على تلك الأقاليم سنة 1873م.
ونتيجة للتنافس الروسي البريطاني على مناطق النفوذ في آسيا الداخلية، فقد زوده البريطانيون بعدد قليل من الأسلحة باعتباره عازل محتمل للتمدد الروسي، على أن صحة صينية بقيادة الحاكم تسو تسونغ وضعت حدا ليعقوب بك والتخطيط البريطاني، حيث أعاد الحاكم الصيني الجديد إلى الاستيلاء على تركستان الشرقية، وفي سنة 1881م أبرمت الصين مع روسيا معاهدة لتقسيم هذه المناطق، فأصبحت تركستان الشرقية رسميا منذ العام 1884م تابعة بصورة قسرية للصين تحت مسمى جديد هو “شينغ يانع”. ومع حلول ذلك التاريخ كانت آسيا الداخلية محتلة من الصين ورسيا.
الهوامش:
*السُّغد: منطقة في وسط آسيا قريبة من سمرقند.
**الأويرات: المجموعة الغربية من قبائل المغول الذين كانت منازلهم في منطقة ألتاي من منغوليا الغربية.
***خوقند أو قوقند مدينة تقع الآن جنوب غرب وادي فرغانة في ولاية فرغانة شرقي جمهورية أوزبكستان.
(المصدر: صحيفة الأمة الالكترونية)