بولس الرَّسول: رائد دعوة التَّبشير أم مؤسِّس المسيحيَّة؟ 2من 3
إعداد د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن
عقائد أدخلها بولس الرَّسول على رسالة المسيح والردُّ عليها
كما سبقت الإشارة، يعتبر بوخاروف أنَّ بولس الرَّسول قد حرَّف رسالة المسيح عن أصلها، بإدخاله مُحدثات ما أنزل الله بها من سلطان، على رأسها “خرافة الصليب، وعقيدة الفادي، وتكفير الخطايا بزعم أنَّ عيسى قد مات على الصليب تكفيرًا لخطايا المذنبين والعصاة”؛ وهكذا، تحوَّلت رسالة عيسى الموافقة للرسالة الإبراهيميَّة، والمصدِّقة للتوراة المنزَّلة على موسى إلى “ديانة وثنيَّة صليبيَّة كُفريَّة” (ص12). وقد ساعدت المحدثات التي أتى بولس في نشر صورة مغايرة لحقيقة المسيح، وهي صورة منفِّرة، مثل التي جاء بها يوحنَّا اللاهوتي في رؤياه. يوصف الإله الربُّ يسوع في رؤيا يوحنَّا اللاهوتي بصفات تدل على القسوة والغلظة، على عكس الصورة الرحيمة الحانية التي تصل إلى مَن يدرس المسيحيَّة، وبخاصَّة بعد الاطِّلاع على الآية في إنجيل متَّى التي تقول “وَأَمَّا أَنَا (يسوع) فَأَقُولُ لَكُمْ: أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ” (إنجيل متَّى: إصحاح 4، آية 55). جاء في الإصحاح 1 “وَفِي وَسْطِ السَّبْعِ الْمَنَايِرِ شِبْهُ ابْنِ إِنْسَانٍ، مُتَسَرْبِلاً بِثَوْبٍ إِلَى الرِّجْلَيْنِ، وَمُتَمَنْطِقًا عِنْدَ ثَدْيَيْهِ بِمِنْطَقَةٍ مِنْ ذَهَبٍ. وَأَمَّا رَأْسُهُ وَشَعْرُهُ فَأَبْيَضَانِ كَالصُّوفِ الأَبْيَضِ كَالثَّلْجِ، وَعَيْنَاهُ كَلَهِيبِ نَارٍ. وَرِجْلاَهُ شِبْهُ النُّحَاسِ النَّقِيِّ، كَأَنَّهُمَا مَحْمِيَّتَانِ فِي أَتُونٍ. وَصَوْتُهُ كَصَوْتِ مِيَاهٍ كَثِيرَةٍ. وَمَعَهُ فِي يَدِهِ الْيُمْنَى سَبْعَةُ كَوَاكِبَ، وَسَيْفٌ مَاضٍ ذُو حَدَّيْنِ يَخْرُجُ مِنْ فَمِهِ، وَوَجْهُهُ كَالشَّمْسِ وَهِيَ تُضِيءُ فِي قُوَّتِهَا. فَلَمَّا رَأَيْتُهُ سَقَطْتُ عِنْدَ رِجْلَيْهِ كَمَيِّتٍ، فَوَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَيَّ قَائِلاً لِي: «لاَ تَخَفْ، أَنَا هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ، وَالْحَيُّ. وَكُنْتُ مَيْتًا، وَهَا أَنَا حَيٌّ إِلَى أَبَدِ الآبِدِينَ! آمِينَ. وَلِي مَفَاتِيحُ الْهَاوِيَةِ وَالْمَوْتِ” (إنجيل متَّى: إصحاح 1، آيات 13-18). وجاء في وصف يسوع كذلك في رؤيا يوحنَّا اللاهوتي “يَرْعَى جَمِيعَ الأُمَمِ بِعَصًا مِنْ حَدِيدٍ” (إنجيل متَّى: إصحاح 12، آية 5). وُصف كذلك في الرؤيا ذاتها عند عودته إلى الأرض على هذا النحو “وَعَيْنَاهُ كَلَهِيبِ نَارٍ، وَعَلَى رَأْسِهِ تِيجَانٌ كَثِيرَةٌ، وَلَهُ اسْمٌ مَكْتُوبٌ لَيْسَ أَحَدٌ يَعْرِفُهُ إِّلاَ هُوَ. وَهُوَ مُتَسَرْبِلٌ بِثَوْبٍ مَغْمُوسٍ بِدَمٍ، وَيُدْعَى اسْمُهُ «كَلِمَةَ اللهِ». وَالأَجْنَادُ الَّذِينَ فِي السَّمَاءِ كَانُوا يَتْبَعُونَهُ عَلَى خَيْل بِيضٍ، لاَبِسِينَ بَزًّا أَبْيَضَ وَنَقِيًّا. وَمِنْ فَمِهِ يَخْرُجُ سَيْفٌ مَاضٍ لِكَيْ يَضْرِبَ بِهِ الأُمَمَ. وَهُوَ سَيَرْعَاهُمْ بِعَصًا مِنْ حَدِيدٍ، وَهُوَ يَدُوسُ مَعْصَرَةَ خَمْرِ سَخَطِ وَغَضَبِ اللهِ الْقَادِرِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ. وَلَهُ عَلَى ثَوْبِهِ وَعَلَى فَخْذِهِ اسْمٌ مَكْتُوبٌ: «مَلِكُ الْمُلُوكِ وَرَبُّ الأَرْبَابِ»” (إنجيل متَّى: إصحاح 19، آيات 12-16).
وكمثل الكاتب الفرنسي شارل جينيبير، مؤلِّف كتاب المسيحيَّة القديمة (1921) -المترجم بعنوان المسيحيَّة: نشأتها وتطوُّرها-يرى الكاتب أنَّ هناك مصدرين أساسيِّين استقى منهما علومه، الأوَّل هو تعاليم اليهود الفريسيِّين، والثاني الفلسفات اليونانيَّة السائدة في موطن ميلاده. وأهم العقائد التي تتفرَّد بها دعوة بولس هي: التجسُّد، الصلب لفداء البشر والتكفير عن الخطيئة الأولى، التثليث، بنوَّة الإله للمسيح، وإلغاء شريعة موسى.
يقوم التجسُّد على مرحلتين أساسيَّتين: الحلول والاتِّحاد. أمَّا عن الحلول، فهو يعتمد على حلول عنصر في عنصر آخر، دون أن يفقد أيٌّ منهما خصائصه المستقلَّة. وبعد أن يفنى كلُّ عنصر في الآخر لتكوين عنصر جديد، يحدث الاتِّحاد. وكما يصف بولس المسيح، فهو ابن الرب “الَّذِي صَارَ مِنْ نَسْلِ دَاوُدَ مِنْ جِهَةِ الْجَسَدِ، وَتَعَيَّنَ ابْنَ اللهِ بِقُوَّةٍ مِنْ جِهَةِ رُوحِ الْقَدَاسَةِ، بِالْقِيَامَةِ مِنَ الأَمْوَاتِ: يَسُوعَ الْمَسِيحِ رَبِّنَا”؛ أي أنَّ الروح القُدُس حلَّت في الجسد البشري، فحدث اتِّحاد هو يسوع المسيح، الربُّ في صورة بشريَّة ملموسة (رسالة أهل روميَّة: إصحاح 1، آيتان 3-4). ويُعتقد لدى المسيحيِّين أنَّ الربَّ هو “الروح الأعظم، وهو آب جميع الأرواح”، والآب كلمة ساميَّة معناها الأصل، والربُّ بذلك هو أصل الأرواح ومنبعها، وجوهر كلِّ شيء (ص53).
ويستشهد المسيحيُّون على صحَّة عقيدتهم تلك بالآية 16 في الإصحاح 3 في رسالة بولس الأولى إلى تيموثاوس “وَبِالإِجْمَاعِ عَظِيمٌ هُوَ سِرُّ التَّقْوَى: اللهُ ظَهَرَ فِي الْجَسَدِ، تَبَرَّرَ فِي الرُّوحِ، تَرَاءَى لِمَلاَئِكَةٍ، كُرِزَ بِهِ بَيْنَ الأُمَمِ، أُومِنَ بِهِ فِي الْعَالَمِ، رُفِعَ فِي الْمَجْدِ”. وتجدر الإشارة هنا إلى أنَّ هذا المفهوم مُستمدٌّ بالكامل من عقيدة القبَّالة اليهوديَّة، التي ترى الإله الخالق عين لانهائيَّة، منها تنبع الأرواح وإليها تعود؛ ولهذا السبب، يُعتبر منبع الأرواح هذا بمثابة الأب. وقد ذكر شمعون بن يوحاي في كتاب الزوهار أنَّ عين صوف قد خَلَق الإنسان على صورته، ثم أطلقه في رحلة حياة يتعلَّم فيها الخير والشرَّ، وبعد انتهاء رحلته، يعود إلى حيث بُعث، فيتَّحد من جديد مع ذلك المصدر النوراني.
ومن المثير للدهشة أنَّ اثنين من الأناجيل يتضمَّنان آيات تشير إلى طبيعة المسيح البشريَّة ومروره بالتجارب البشريَّة المعهودة، ومن نماذج ذلك خلوده إلى النوم ” فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «اتْبَعْنِي، وَدَعِ الْمَوْتَى يَدْفِنُونَ مَوْتَاهُمْ». وَلَمَّا دَخَلَ السَّفِينَةَ تَبِعَهُ تَلاَمِيذُهُ. وَإِذَا اضْطِرَابٌ عَظِيمٌ قَدْ حَدَثَ فِي الْبَحْرِ حَتَّى غَطَّتِ الأَمْوَاجُ السَّفِينَةَ، وَكَانَ هُوَ نَائِمًا (إنجيل متَّى: إصحاح 8، آيات 22-24)، وشعوره بالجوع “فَبَعْدَ مَا صَامَ أَرْبَعِينَ نَهَارًا وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً، جَاعَ أَخِيرًا” (إنجيل متَّى: إصحاح 4، آية 2)، وكذلك بالتعب “وَكَانَتْ هُنَاكَ بِئْرُ يَعْقُوبَ. فَإِذْ كَانَ يَسُوعُ قَدْ تَعِبَ مِنَ السَّفَرِ، جَلَسَ هكَذَا عَلَى الْبِئْرِ، وَكَانَ نَحْوَ السَّاعَةِ السَّادِسَةِ” (إنجيل يوحنَّا: إصحاح 4، آية 6).
أمَّا عن الرد القرآني، فهناك العديد من الآيات الداحضة لهذه العقيدة بالكاملة، منها الآية 72 في سورة المائدة “لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ”، ومنها كذلك الآية 11 في سورة الشورى “فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ“، وكذلك سورة الإخلاص كاملة.
بالنسبة إلى عقيدة الصلب والفداء للتكفير عن الخطيئة الأولى، فهي كذلك في صُلب عقيدة القبَّالة، التي تعتقد أنَّ الإنسان الأوَّل سقط إلى الأرض من موقعه السماوي إلى جانب الإله الخالق بعد خطيئة أكله من الشجرة المحرَّمة، وحتَّى يعود إلى موقعه السابق، عليه بخوض رحلة طويلة يمرُّ خلالها بشتَّى التجارب، حتَّى يستحق العودة إلى حيث جاء. ويعتبر صعود يسوع إلى يمين أبيه في السماء دليل على اكتسابه الخبرة الأرضيَّة التي أرضت الآب-مصدر الأرواح-عنه، فقبل عودته إليه؛ وهو بذلك الابن البار المخلوق على صورة الربِّ. أمَّا عن جعْل الإيمان بالمسيح شرط للخلاص، هو يرجع كذلك إلى عقيدة في القبَّالة تعتقد أنَّ أرواح البشر جميعًا كانت روحًا واحدة تحطَّمت وتشرذمت بسقوط الإنسان الأوَّل، ولا سبيل لالتئامها إلَّا من خلال الإيمان بالمخلِّص-the Messiah-الذي تجتمع فيه الأرواح.
ويتجلَّى ذلك في رسالة بولس الرَّسول إلى أهل روميَّة “لأَنَّكَ إِنِ اعْتَرَفْتَ بِفَمِكَ بِالرَّبِّ يَسُوعَ، وَآمَنْتَ بِقَلْبِكَ أَنَّ اللهَ أَقَامَهُ مِنَ الأَمْوَاتِ، خَلَصْتَ” (إصحاح 10: آية 9). وقد جاء في رسالة بولس إلى العبرانيِّين أنَّ الدم كان لازمًا للتطهُّر من الآثام “وَكُلُّ شَيْءٍ تَقْرِيبًا يَتَطَهَّرُ حَسَبَ النَّامُوسِ بِالدَّمِ، وَبِدُونِ سَفْكِ دَمٍ لاَ تَحْصُلُ مَغْفِرَةٌ!” (إصحاح 9: آية 22)، وتتضمن رسالته إلى أهل أفسس نفس المضمون “الَّذِي فِيهِ لَنَا الْفِدَاءُ بِدَمِهِ، غُفْرَانُ الْخَطَايَا، حَسَبَ غِنَى نِعْمَتِهِ” (إصحاح 1: آية 7)، هذا إلى جانب آيات أخرى في أكثر من رسالة لبولس الرَّسول. ومضمون ما يقصده بولس من هذا كلِّه هو تبشير المؤمنين بيسوع بالتطهُّر من آثامهم، مهما كانت، وبدخول النعيم الأبدي بعد أن كفَّر عن البشر أجمعين ذنوبهم “إِذِ الْجَمِيعُ أَخْطَأُوا وَأَعْوَزَهُمْ مَجْدُ اللهِ. مُتَبَرِّرِينَ مَجَّانًا بِنِعْمَتِهِ بِالْفِدَاءِ الَّذِي بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ. الَّذِي قَدَّمَهُ اللهُ كَفَّارَةً بِالإِيمَانِ بِدَمِهِ، لإِظْهَارِ بِرِّهِ، مِنْ أَجْلِ الصَّفْحِ عَنِ الْخَطَايَا السَّالِفَةِ بِإِمْهَالِ اللهِ” (رسالة أهل روميَّة: إصحاح 3، آيات 23-25). وما يوصي به بولس هو التمسُّك بالإيمان بالمسيح، كي لا يفقدوا التقديس الذي شملهم بعد تقديمه قربانًا لمحو خطاياهم، كما جاء في رسالته إلى العبرانيِّين “لأَنَّهُ بِقُرْبَانٍ وَاحِدٍ قَدْ أَكْمَلَ إِلَى الأَبَدِ الْمُقَدَّسِينَ” (إصحاح 10: آية 14)؛ ويبشِّر بولس المؤمنين بالمسيح بأنَّ ملكوت السماوات فُتح لهم، وتلك ميزة لم تُتح إلَّا بفداء يسوع لهم ” فَإِذْ لَنَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ ثِقَةٌ بِالدُّخُولِ إِلَى «الأَقْدَاسِ» بِدَمِ يَسُوعَ (إصحاح 10: آية 19). وينهى بولس الرَّسول في رسالته إلى أهل روميَّة المؤمنين بالعقيدة التي كان يدعو إليها عن الشكِّ فيما يقول؛ لأنَّ ما وعَدَ به الربُّ سيُنفِّذه “تَيَقَّنَ أَنَّ مَا وَعَدَ بِهِ هُوَ قَادِرٌ أَنْ يَفْعَلَهُ أَيْضًا” (إصحاح 4: آية 21)، وفضل المغفرة-بلا عمل يُتقَّرب به إلى الله-ينحصر في المؤمنين بيسوع وبتكفيره عنهم خطاياهم بدمه “مِنْ أَجْلِنَا نَحْنُ أَيْضًا، الَّذِينَ سَيُحْسَبُ لَنَا، الَّذِينَ نُؤْمِنُ بِمَنْ أَقَامَ يَسُوعَ رَبَّنَا مِنَ الأَمْوَاتِ. الَّذِي أُسْلِمَ مِنْ أَجْلِ خَطَايَانَا وَأُقِيمَ لأَجْلِ تَبْرِيرِنَا” (إصحاح 4: آيتان 24-25)، ومن يؤمن بتلك العقيدة وجبت له الجنَّة بعد أن تنعَّم بتكفير الخطايا “فَإِذْ قَدْ تَبَرَّرْنَا بِالإِيمَانِ لَنَا سَلاَمٌ مَعَ اللهِ بِرَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ” (إصحاح 5: آية 1).
ويفتح الحديث عن فداء المسيح البشر بدمه المجال لتناوُل أهم مقاصد بولس الرَّسول: الإشارة إلى صلْب يسوع بغية التطفير عن الخطيئة الأولى بمعصية الإنسان الأوَّل للرب، كما وردت في سفر التكوين (إصحاح 3: آية 6). وفي رسالته إلى أهل روميَّة، يقول بولس أنَّ خطيئة الإنسان الأوَّل شملت كلَّ الخلق أجمعين، حتَّى قبل أن يولدوا “مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَأَنَّمَا بِإِنْسَانٍ وَاحِدٍ دَخَلَتِ الْخَطِيَّةُ إِلَى الْعَالَمِ، وَبِالْخَطِيَّةِ الْمَوْتُ، وَهكَذَا اجْتَازَ الْمَوْتُ إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ، إِذْ أَخْطَأَ الْجَمِيعُ” (إصحاح 5: آية 12)؛ وعلى هذا النحو ظلَّ حال البشريَّة، حتى جاء يسوع وطهَّرهم بدمه “ لأَنَّهُ كَمَا بِمَعْصِيَةِ الإِنْسَانِ الْوَاحِدِ جُعِلَ الْكَثِيرُونَ خُطَاةً، هكَذَا أَيْضًا بِإِطَاعَةِ الْوَاحِدِ سَيُجْعَلُ الْكَثِيرُونَ أَبْرَارًا” (إصحاح 5: آية 19). ويعاود بولس في رسالته إلى أهل روميَّة التذكير بأنَّ التطهُّر من الخطيئة الأولى استوجب موت المسيح على الصليب؛ وكل من يؤمن به يميت الإنسان السابق غير المؤمن في نفسه بالمعموديَّة، فيكون قد كفَّر عن خطيئة الإنسان الأوَّل، الذي حملها كلُّ إنسان حتَّى قبل أن يولد. وهذا الاتِّحاد مع المسيح يضمن النجاة معه والدخول إلى مرحلة الحياة الأبديَّة بعد عودته إلى الحياة “ أَمْ تَجْهَلُونَ أَنَّنَا كُلَّ مَنِ اعْتَمَدَ لِيَسُوعَ الْمَسِيحِ اعْتَمَدْنَا لِمَوْتِهِ. فَدُفِنَّا مَعَهُ بِالْمَعْمُودِيَّةِ لِلْمَوْتِ، حَتَّى كَمَا أُقِيمَ الْمَسِيحُ مِنَ الأَمْوَاتِ، بِمَجْدِ الآبِ، هكَذَا نَسْلُكُ نَحْنُ أَيْضًا فِي جِدَّةِ الْحَيَاةِ؟ لأَنَّهُ إِنْ كُنَّا قَدْ صِرْنَا مُتَّحِدِينَ مَعَهُ بِشِبْهِ مَوْتِهِ، نَصِيرُ أَيْضًا بِقِيَامَتِهِ. عَالِمِينَ هذَا: أَنَّ إِنْسَانَنَا الْعَتِيقَ قَدْ صُلِبَ مَعَهُ لِيُبْطَلَ جَسَدُ الْخَطِيَّةِ، كَيْ لاَ نَعُودَ نُسْتَعْبَدُ أَيْضًا لِلْخَطِيَّةِ“(إصحاح 6: آيات 3-6). ويشرح بولس في رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس ما يقصده بهذا الاتِّحاد “لأَنَّنَا جَمِيعَنَا بِرُوحٍ وَاحِدٍ أَيْضًا اعْتَمَدْنَا إِلَى جَسَدٍ وَاحِدٍ، يَهُودًا كُنَّا أَمْ يُونَانِيِّينَ، عَبِيدًا أَمْ أَحْرَارًا، وَجَمِيعُنَا سُقِينَا رُوحًا وَاحِدًا” (إصحاح 12: آية 13).
ويسوق الكاتب من الأدلَّة ما يثبت أنَّ فكرة الصلب لأجل الفداء من عقائد الأمم الوثنيَّة، التي تشرَّبها بولس في موطن ميلاده-طرسوس-التي يعتقد أهلها أنَّ الإله الذي يعبدونه “مات من أجلهم، ثمَّ قام من قبره، وأنَّه إذا دُعي بإيمان حقيقي ورافق الدعاء الطقوس الصحيحة، استجاب لهم وأنجاهم من الجحيم، وأشركهم معه في موهبة الحياة الخالدة المباركة” (ص71). ويستنتج الكاتب بذلك أنَّ “بولس قد استمدَّ فكرة الفداء والتضحية وتكفير الخطايا البشريَّة من عقائد الأمم الوثنيَّة، ثم دمجها في عقيدته” (ص72). ويتساءل الكاتب عن سبب طلب المسيحيِّين في صلواتهم المغفرة من الربِّ، وفق ما جاء في الآية 12 في الإصحاح 6 من إنجيل متَّى “وَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا كَمَا نَغْفِرُ نَحْنُ أَيْضًا لِلْمُذْنِبِينَ إِلَيْنَا”، وقد دعا يسوع بذلك قبل صلبه وفدائه البشر وتكفيره آثامهم.
نعرف أنَّ عقيدة بولس الرَّسول تقتضي التوقُّف عن العمل بالناموس، مما يعني أنَّ ما ورد في العهد القديم من آيات تشير إلى أنَّ الربَّ لا يحمِّل الذنب إلَّا من اقترفه؛ لكنَّ الكاتب مع ذلك يشير إلى العديد من الآيات التي تحمل هذا المضمون، منها ” لاَ يُقْتَلُ الآبَاءُ عَنِ الأَوْلاَدِ، وَلاَ يُقْتَلُ الأَوْلاَدُ عَنِ الآبَاءِ. كُلُّ إِنْسَانٍ بِخَطِيَّتِهِ يُقْتَلُ” (سفر التثنية: إصحاح 24، آية 16)، و “لاَ تَمُوتُ الآبَاءُ لأَجْلِ الْبَنِينَ، وَلاَ الْبَنُونَ يَمُوتُونَ لأَجْلِ الآبَاءِ، بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ يَمُوتُ لأَجْلِ خَطِيَّتِهِ” (سفر أخبار الأيَّام 2: إصحاح 25، آية 4)، و “اَلنَّفْسُ الَّتِي تُخْطِئُ هِيَ تَمُوتُ. اَلابْنُ لاَ يَحْمِلُ مِنْ إِثْمِ الأَبِ، وَالأَبُ لاَ يَحْمِلُ مِنْ إِثْمِ الابْنِ. بِرُّ الْبَارِّ عَلَيْهِ يَكُونُ، وَشَرُّ الشِّرِّيرِ عَلَيْهِ يَكُونُ” (سفر حزقيال: إصحاح 18، آية 20).
نأتي إلى مسألة في غاية الحساسيَّة في المسيحيَّة، وهي تأليه المسيح عيسى بن مريم، الذي يصفه بولس الرَّسول في رسالته إلى أهل روميَّة قائلًا عنه “الْمَسِيحُ حَسَبَ الْجَسَدِ، الْكَائِنُ عَلَى الْكُلِّ إِلهًا مُبَارَكًا إِلَى الأَبَدِ” (إصحاح 9: آية 5)، وقد أوضح بولس في مقدِّمة نفس الرسالة أنَّ للمسيح طبيعتين: بشريَّة وإلهيَّة “الَّذِي صَارَ مِنْ نَسْلِ دَاوُدَ مِنْ جِهَةِ الْجَسَدِ، وَتَعَيَّنَ ابْنَ اللهِ بِقُوَّةٍ مِنْ جِهَةِ رُوحِ الْقَدَاسَةِ، بِالْقِيَامَةِ مِنَ الأَمْوَاتِ: يَسُوعَ الْمَسِيحِ رَبِّنَا” (إصحاح 1: آيتان 3-4). ويقول بولس في رسالته إلى فيلبي أنَّ يسوع كان يتمتَّع بكامل الصفات الألوهيَّة، لكنَّه تخلَّى عنها في سبيل التجسُّد في صورة بشريَّة يتقرَّب بها إلى البشر، فيجذبهم إليه “الَّذِي إِذْ كَانَ فِي صُورَةِ اللهِ، لَمْ يَحْسِبْ خُلْسَةً أَنْ يَكُونَ مُعَادِلاً للهِ. لكِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذًا صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِرًا فِي شِبْهِ النَّاسِ” (إصحاح 2: آيتان 6-7).
وبرغم تلك الإشارة المتكرِّرة إلى كمال ألوهيَّة المسيح، فهناك كذلك إشارات عديدة في رسائل بولس إلى أنَّ المسيح هو الابن، والرب هو الآب، ولكلٍّ استقلاليَّته. وقد قدَّم بولس الرَّسول الإله باعتباره أب يسوع في مقدِّمته رسالته إلى أهل أفسس “مُبَارَكٌ اللهُ أَبُو رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي بَارَكَنَا بِكُلِّ بَرَكَةٍ رُوحِيَّةٍ فِي السَّمَاوِيَّاتِ فِي الْمَسِيحِ” (إصحاح 1: آية 3)، وهو نفسه تقديمه له في رسالته إلى أهل روميَّة، في قوله “نِعْمَةٌ لَكُمْ وَسَلاَمٌ مِنَ اللهِ أَبِينَا وَالرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ” (إصحاح 1: آية 7)، وفي “لِكَيْ تُمَجِّدُوا اللهَ أَبَا رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَفَمٍ وَاحِدٍ” (إصحاح 15: آية 6). ونُلاحظ أنَّ “الله” هو الآب و “المسيح” هو الرب، وفق وصف بولس، ويتَّضح ذلك أكثر في العديد من الآيات في رسائله، نذكر منها ما جاء في رسالته الثانية إلى تسالونيكي “وَرَبُّنَا نَفْسُهُ يَسُوعُ الْمَسِيحُ، وَاللهُ أَبُونَا الَّذِي أَحَبَّنَا وَأَعْطَانَا عَزَاءً أَبَدِيًّا وَرَجَاءً صَالِحًا بِالنِّعْمَةِ” (إصحاح 2: آية 16).
تمتاز الروح، وفق عقيدة بولس الرَّسول، بطبيعة نورانيَّة غير ماديَّة، وهي أزليَّة، على عكس الجسد الفاني المخلوق من التراب. الروح تنبع من الإله الخالق وتربط الإنسان به؛ أمَّا الجسد، فهو من الأرض ويعود إليها ويجر الإنسان إلى الانغماس في الشهوات الجالبة للخطايا؛ وتشير هذه الآية في رسالة بولس إلى أهل روميَّة إلى هذا المفهوم “وَإِنْ كَانَ الْمَسِيحُ فِيكُمْ، فَالْجَسَدُ مَيِّتٌ بِسَبَبِ الْخَطِيَّةِ، وَأَمَّا الرُّوحُ فَحَيَاةٌ بِسَبَبِ الْبِرِّ” (إصحاح 8: آية 10). والمقصود أنَّ الخطايا تميت الجسد، على عكس الإيمان، الذي يمنح الروح الحياة الأبديَّة.
ونأتي إلى مسألة في غاية الأهميَّة في المسيحيَّة، وهي طبيعة الروح القُدُس ووظيفته. فبينما حُدِّدت طبيعة الروح القُدُس في القرآن الكريم بحامل الوحي الملاك جبريل، ووظيفته بنقل الوحي الإلهي ونفخ الروح وتنفيذ أوامر إلهيَّة لمؤازرة البشر في أوقات الضيق، جعل بولس الرَّسول منه كائنًا إلهيًّا مستقلًّا له قدرات خارقة ترقى إلى القدرات الإلهيَّة. والتحام الروح القُدُس بجسد المسيح هو الذي جعل منه إلهًا، وفق ما ذكره بولس في رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس “وَلَيْسَ أَحَدٌ يَقْدِرُ أَنْ يَقُولَ: «يَسُوعُ رَبٌّ» إِلاَّ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ” (إصحاح 12: آية 3). والروح الذي هو مخلوق للربِّ، يمكنه أن يعرف ما بداخل الربِّ دون أن يقوله، كما جاء في الرسالة ذاتها “الرُّوحَ يَفْحَصُ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى أَعْمَاقَ اللهِ” (إصحاح 2: آية 10).
ومن أهم التشريعات المثيرة للجدل التي أخرجها بولس الرَّسول إبطال العمل بالناموس بسبب تغيُّر الظروف التي نزل فيها عن زمن المسيح، ولأنَّه يصبح أحيانًا ضعيفًا وعديم النفع؛ وقد ورد ذلك في رسالته إلى العبرانيِّين “إِنْ تَغَيَّرَ الْكَهَنُوتُ، فَبِالضَّرُورَةِ يَصِيرُ تَغَيُّرٌ لِلنَّامُوسِ أَيْضًا” (إصحاح 7: آية 12)، وكذلك في “يَصِيرُ إِبْطَالُ الْوَصِيَّةِ السَّابِقَةِ مِنْ أَجْلِ ضَعْفِهَا وَعَدَمِ نَفْعِهَا. إِذِ النَّامُوسُ لَمْ يُكَمِّلْ شَيْئًا” (إصحاح 7: آيتان 18-19). وقد أبطل بولس كذلك أحكام نجاسة المأكولات، كما وردت في العهد القديم، معتبرًا ألَّا شيء نجس إلَّا ما اعتبره المرء كذلك، كما جاء في رسالته إلى أهل روميَّة “إِنِّي عَالِمٌ وَمُتَيَقِّنٌ فِي الرَّبِّ يَسُوعَ أَنْ لَيْسَ شَيْءٌ نَجِسًا بِذَاتِهِ، إِلاَّ مَنْ يَحْسِبُ شَيْئًا نَجِسًا، فَلَهُ هُوَ نَجِسٌ. فَإِنْ كَانَ أَخُوكَ بِسَبَبِ طَعَامِكَ يُحْزَنُ، فَلَسْتَ تَسْلُكُ بَعْدُ حَسَبَ الْمَحَبَّةِ” (إصحاح 14: آيتان 14-15). وأحلَّ بولس أكل لحم الخنزير، برغم وجود آيات في سفر التثنية (إصحاح 14: آية 8) وسفر اللاويِّين (إصحاح 11: آيتان 7-8)، معتبرًا أنَّ الصلاة تطهِّر أي نجس في رسالته الأولى إلى تيموثاوس (إصحاح 4: آيتان 4-5). وأحلَّ بولس كذلك شرب الخمر، برغم نصوص العهد القديم الناهية عن ذلك، منها ما جاء في سفر حبقوق (إصحاح 2: آية 5)، وسفر الأمثال (إصحاح 23: آية 20). ونجد بولس ينصح تلميذه تيموثاوس في رسالته الأولى إليه بشرب الخمر، إذا كان في ذلك استشفاء (إصحاح 5: آية 23). وبرغم تكرار الإشارة في الأناجيل إلى تكرار المسيح الصلاة-كما جاء في إنجيل مرقس “وَفِي الصُّبْحِ بَاكِرًا جِدًّا قَامَ وَخَرَجَ وَمَضَى إِلَى مَوْضِعٍ خَلاَءٍ، وَكَانَ يُصَلِّي هُنَاكَ“(إصحاح 1: آية 35)، وفي إنجيل لوقا “وَأَمَّا هُوَ فَكَانَ يَعْتَزِلُ فِي الْبَرَارِي وَيُصَلِّي” (إصحاح 5: آية 16)، و “وَفِي تِلْكَ الأَيَّامِ خَرَجَ إِلَى الْجَبَلِ لِيُصَلِّيَ. وَقَضَى اللَّيْلَ كُلَّهُ فِي الصَّلاَةِ للهِ” (إصحاح 6: آية 12)، كما كان يوصي بالصلاة والدعاء “وَإِذْ كَانَ يُصَلِّي فِي مَوْضِعٍ، لَمَّا فَرَغَ، قَالَ وَاحِدٌ مِنْ تَلاَمِيذِهِ: «يَا رَبُّ، عَلِّمْنَا أَنْ نُصَلِّيَ كَمَا عَلَّمَ يُوحَنَّا أَيْضًا تَلاَمِيذَهُ». فَقَالَ لَهُمْ: «مَتَى صَلَّيْتُمْ فَقُولُوا: أَبَانَا الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ، لِيَتَقَدَّسِ اسْمُكَ، لِيَأْتِ مَلَكُوتُكَ، لِتَكُنْ مَشِيئَتُكَ كَمَا فِي السَّمَاءِ كَذلِكَ عَلَى الأَرْضِ. خُبْزَنَا كَفَافَنَا أَعْطِنَا كُلَّ يَوْمٍ،” (إصحاح 11: آيات 1-3) -نجد بولس الرَّسول يقلل من أهميَّة الصلاة “الرُّوحُ أَيْضًا يُعِينُ ضَعَفَاتِنَا، لأَنَّنَا لَسْنَا نَعْلَمُ مَا نُصَلِّي لأَجْلِهِ كَمَا يَنْبَغِي. وَلكِنَّ الرُّوحَ نَفْسَهُ يَشْفَعُ فِينَا بِأَنَّاتٍ لاَ يُنْطَقُ بِهَا” (رسالة روميَّة: إصحاح 8، آية 26).
وفي النهاية، يشكِّك الكاتب في صحَّة تنزُّل رسائل بولس عليه من الربِّ، باعتبارها وحيًا إلهيًّا، تاركًا لقارئها الحكم في مدى إمكانيَّة تنزُّل مثل تلك الأقوال من السماء (ص132). ويشير بوخاروف كذلك إلى دور بولس الرَّسول في “دمج الأفكار الوثنيَّة” بالوحي الإلهي، لتضليل الناس عن الرسالة السماويَّة الحقَّة التي جاء بها أولو العزم من الرُّسُل-عليهم جميعًا أزكى الصلوات وأتم التسليم (ص132). ويشير الدكتور شلبي (1998) إلى أنَّ اختيار بولس الاعتكاف في ذلك كهوف قمران كان تأسيًا بالأنبياء، اعتقادًا منه أنَّه هو المخلِّص؛ وقد يبرر هذا الاعتقاد عداؤه تجاه دعوة نبي الله عيسى السماويَّة لمخالفتها عقائد القبَّالة والغنوصيَّة والغائيَّة التي تشبَّعت بها أسفار العهد القديم، وقد قال عنه الدكتور شلبي بالنَّص “قيل أنَّه لم يكن مكتمل التفكير والعقل، وهو قد سَلَك مسلك الأنبياء الإسرائيليِّين في اعتكافهم في شمال الجزيرة-جنوب الأردن، وفي هذا المعتكف اختلَّ عقله” (ص59). ولعلَّ في هذا الافتراض ما يشير كذلك إلى اتِّخاذه مهمَّة القديس يوحنَّا في التَّبشير بيسوع، كما تشير الأناجيل الأربعة ورسائله، رغمَّ مهمَّة نبي الله يحيى في القرآن كانت التصديق بصحَّة رسالة نبي الله عيسى. ويشير الدكتور شلبي إلى مصادر ترجِّح استخدام بولس الرَّسول عبارات غامضة “كانت تُستعمل بين صوفيِّي اليونان والرومان وبعض الفرق الشرقيَّة”، مضيفًا أنَّ رسالة المسيح التي بين يدينا اليوم أُدخلت عليها تحريفات أشخاص “استقرَّ في أذهانهم أنَّهم يمثِّلون وحيًا جديدًا من الله”، وادَّعوا رؤية الربِّ الخالق والروح القُدُس، وهي ادِّعاءات يشترك معهم فيها إلى يومنا هذا ممارسو طقوس الصوفيَّة.
مظاهر تأثير عقيدة القبَّالة في رسائل بولس الرسول
يُعتبر بولس الرسول في نظر الكثير من المتخصِّصين في مقارنة الأديان المؤسٍّس الحقيقي للديانة المسيحيَّة، خاصَّةً وأنَّ الكثير من العقائد التي أدخلها على الديانة لم يأتِ ذكرها على لسان يسوع المسيح في الأناجيل، وأبرزها التكفير عن الخطيئة الأولى ببذل الدماء، والتثليث، وخلود الروح البشريَّة النابعة من روح الإله الخلق مع فناء الجسد الترابي. ومن بين الباحثين المعاصرين في مجال مقارنة الأديان المعارضين لما جاء به بولس الرسول في رسائله تمام المعارضة، والمعتبرين أنَّها مخالفة لجوهر الرسالة السماويَّة الباحث نبيل نيقولا بوخاروف، وهو فلسطيني من بيت لحم، وُلد لأسرة كاثوليكيَّة، ثم اعتنق الإسلام قبل أكثر عقدين من الزمن، وله مؤلَّفات، من بينها المسيحيَّة دين الله المنزَّل على المسيح أم هي ديانة بولس؟ (2007). ويتَّهم الباحث في كتابه آنه الذكر بولس الرسول صراحةً بتحريفه رسالة نبي الله عيسى-عليه وعلى سائر أنبياء الله ورسله أزكى الصلوات وأتم التسليم-وبإدخاله مُحدثات ما أنزل الله بها من سلطان، على رأسها “خرافة الصليب، وعقيدة الفادي، وتكفير الخطايا بزعم أنَّ عيسى قد مات على الصليب تكفيرًا لخطايا المذنبين والعصاة”؛ وهكذا، تحوَّلت رسالة عيسى الموافقة للرسالة الإبراهيميَّة، والمصدِّقة للتوراة المنزَّلة على موسى إلى “ديانة وثنيَّة صليبيَّة كُفريَّة” (ص12).
يرى الكثيرون أنَّ بولس شخصيَّة غامضة لا يمكن تكوين رأي قاطع عنها. ويذكر الدكتور عبد الجليل عبده شلبي-أستاذ الشريعة والدراسات الإسلاميَّة ومقارنة الأديان-في كتابه الإرساليَّات التبشيريَّة (1998) أنَّ البعض يرى بولس الرسول فذًّا في قدرته على تطويع رسالة المسيح وفق العقائد الفلسفيَّة السائدة في زمنه، والبعض رآه مضطربًا نفسيًّا، بل ومصابًا بالصرع، وهناك من يرجِّح أنَّه كان من أفراد طائفة البحر الميِّت من اليهود الإسينيِّين، وأنَّ السنوات التي قضاها ما بين رفع المسيح وتواصله مع الحواريِّين-3 سنوات ونصف تقريبًا-لم تكن في دمشق، إنَّما في كهوف قمران، ومن هؤلاء الباحثان مايكل بيجنت وريتشارد لي، في كتابهما خديعة مخطوطات البحر الميِّت-Dead Sea Scrolls Deception (1993). ويشير الدكتور شلبي إلى أنَّ اختيار بولس الاعتكاف في ذلك كهوف قمران كان تأسيًا بالأنبياء، اعتقادًا منه أنَّه هو المخلِّص؛ وقد يبرر هذا الاعتقاد عداؤه تجاه دعوة نبي الله عيسى السماويَّة لمخالفتها عقائد القبَّالة والغنوصيَّة والغائيَّة التي تشبَّعت بها أسفار العهد القديم، وقد قال عنه الدكتور شلبي في كتابه آنف الذكر بالنَّص “قيل أنَّه لم يكن مكتمل التفكير والعقل، وهو قد سَلَك مسلك الأنبياء الإسرائيليِّين في اعتكافهم في شمال الجزيرة-جنوب الأردن، وفي هذا المعتكف اختلَّ عقله” (ص59). ولعلَّ في هذا الافتراض ما يشير كذلك إلى اتِّخاذه مهمَّة القديس يوحنَّا في التبشير بيسوع، كما تشير الأناجيل الأربعة ورسائله، رغمَّ مهمَّة نبي الله يحيى في القرآن كانت التصديق بصحَّة رسالة نبي الله عيسى. ويشير الدكتور شلبي إلى مصادر ترجِّح استخدام بولس الرسول عبارات غامضة “كانت تُستعمل بين صوفيِّي اليونان والرومان وبعض الفرق الشرقيَّة“، مضيفًا أنَّ رسالة المسيح التي بين يدينا اليوم أُدخلت عليها تحريفات أشخاص “استقرَّ في أذهانهم أنَّهم يمثِّلون وحيًا جديدًا من الله“، وادَّعوا رؤية الربِّ الخالق والروح القُدُس، وهي ادِّعاءات يشترك معهم فيها إلى يومنا هذا ممارسو طقوس الصوفيَّة. ويجري تفصيل تأثُّر بولس الرسول بالعقائد الروحانيَّة الشرقيَّة في الفصل السابع من هذا المؤلَّف.
في دراسة تفصيليَّة سابقة عن تأثير العقيدة السريَّة التي تعلَّمها حكماء بني إسرائيل على العقيدة اليهوديَّة، تبيَّن أنَّ عقيدة التصوُّف اليهودي، أو القبَّالة، مارست تأثيرًا واضحًا على العقليَّة البني إسرائيليَّة، لدرجة تحريف أسفار موسى والأنبياء اللاحقين وفق تلك العقيدة. وبعد تحديد مظاهر التأثُّر بالقبَّالة في كتابة أسفار العهد القديم، نشير هنا إلى تأثير العقيدة ذاتها على فِكر بولس الرسول، الذي انعكس في رسائله التبشيريَّة، وذلك في تحليل موجز مأخوذ عن مقال منشور على مدوَّنة Messianic Kabbalah Revolution-ثورة القبَّالة المسيانيَّة-بعنوان بولس الرسول كان قبَّاليًّا مسيانيًّا.
4.24-مدوَّنة ثورة القبَّالة المسيانيَّة
ويتَّسم سفر أعمال الرسل بصورة عامَّة بتناوله بعض الخوارق غير المعهودة، مثل تعميد يسوع الرسلَ بواسطة الروح القُدُس، وظهور الروح القُدُس في صورة ملاك لمنح الرسلِ قدرات خارقة، منها إنقاذه بطرس من سجن هيرودس بعد فكِّ قيوده، كما يروي الإصحاح 12 (آيات 5-9). يثير بولس الجدال منذ حديثه عمَّا دفعه إلى الإيمان بالمسيح، باعتباره المخلِّص من جهة الروح، وهي أنَّه رآه في رحلته إلى دمشق في صورة نور ساطع أصابه بالعمى لفترة وجيزة. ولا شكَّ في أنَّ ما يصفه بولس يأتي في صميم عقيدة القبَّالة، التي تدَّعي إمكانيَّة رؤية الإله من خلال تراتيل/أذكار وبممارسة طقوس حركيَّة بعينها. يسرد سفر أعمال الرسل رؤية بولس الربِّ هكذا: “حَدَثَ أَنَّهُ اقْتَرَبَ إِلَى دِمَشْقَ فَبَغْتَةً أَبْرَقَ حَوْلَهُ نُورٌ مِنَ السَّمَاءِ، فَسَقَطَ عَلَى الأَرْضِ وَسَمِعَ صَوْتًا قَائِلاً لَهُ: «شَاوُلُ، شَاوُلُ! لِمَاذَا تَضْطَهِدُنِي؟». فَقَالَ: «مَنْ أَنْتَ يَا سَيِّدُ؟» فَقَالَ الرَّبُّ: «أَنَا يَسُوعُ الَّذِي أَنْتَ تَضْطَهِدُهُ. صَعْبٌ عَلَيْكَ أَنْ تَرْفُسَ مَنَاخِسَ»” (الإصحاح 9: آيات 3-5).
الصعود السماوي
ولم يتوقَّف الأمر عند حدِّ رؤية الربِّ، بل تجاوز بولس ذلك إلى ادِّعاء الصعود عبر السماوات، ورؤية ملكوت الرب. يتناول بولس في رسالته الثانية إلى أهل كورنثوس قصَّة إنقاذه من الاعتقال خلال رحلته في دمشق، في إطار من الأعمال الخارقة يشبه قصَّة إنقاذ الملاك لبطرس آنفة الذِكر. يروي بولس أنَّ “فِي دِمَشْقَ، وَالِي الْحَارِثِ الْمَلِكِ كَانَ يَحْرُسُ مدِينَةَ الدِّمَشْقِيِّينَ، يُرِيدُ أَنْ يُمْسِكَنِي. فَتَدَلَّيْتُ مِنْ طَاقَةٍ فِي زَنْبِيل مِنَ السُّورِ، وَنَجَوْتُ مِنْ يَدَيْهِ” (رسالة كورنثوس 2: إصحاح 11، آيتان 32-33). توضح الآية الثانية أنَّ بولس استطاع النفاذ إلى حيز مكاني مختلف عمَّا وُجد فيه، فنجا بذلك من السجن. ولا يخرج بولس من الحيز المكاني الأرضي فحسب، إنَّما يسمو فوق الوجود الأرضي بصعوده إلى السماء الثالثة بواسطة الرب: “إِنَّهُ لاَ يُوافِقُنِي أَنْ أَفْتَخِرَ. فَإِنِّي آتِي إِلَى مَنَاظِرِ الرَّبِّ وَإِعْلاَنَاتِهِ. أَعْرِفُ إِنْسَانًا فِي الْمَسِيحِ قَبْلَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً. أَفِي الْجَسَدِ؟ لَسْتُ أَعْلَمُ، أَمْ خَارِجَ الْجَسَدِ؟ لَسْتُ أَعْلَمُ. اللهُ يَعْلَمُ. اخْتُطِفَ هذَا إِلَى السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ. وَأَعْرِفُ هذَا الإِنْسَانَ: أَفِي الْجَسَدِ أَمْ خَارِجَ الْجَسَدِ؟ لَسْتُ أَعْلَمُ. اللهُ يَعْلَمُ. أَنَّهُ اخْتُطِفَ إِلَى الْفِرْدَوْسِ، وَسَمِعَ كَلِمَاتٍ لاَ يُنْطَقُ بِهَا، وَلاَ يَسُوغُ لإِنْسَانٍ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهَا” (إصحاح 12: آيات 1-4).
تلقِّي العلم الباطني والكشف عنه
في إشارة بولس إلى نفسه بصيغة الغائب في “أَعْرِفُ إِنْسَانًا فِي الْمَسِيحِ” علامة على التواضع، كما أنَّ في إنكار الذات سمة من سمات القبَّالة مستمدَّة من الاعتقاد في فناء الجسد الترابي، الدنس والحقير والآثم، في مقابل الروح النقيَّة النابعة من الإله، الذي تنمحي الذات في ظلِّ سطوته. وفي قوله “وَأَعْرِفُ هذَا الإِنْسَانَ: أَفِي الْجَسَدِ أَمْ خَارِجَ الْجَسَدِ؟ لَسْتُ أَعْلَمُ. اللهُ يَعْلَمُ” تعبير عن اعتقاد ممارسي طقوس القبَّالة بتحرُّر الروح النقيَّة من دناسة الجسد وسباحتها في الملكوت. يعود بولس إلى ما وراء الطبيعة في عبارته “سَمِعَ كَلِمَاتٍ لاَ يُنْطَقُ بِهَا، وَلاَ يَسُوغُ لإِنْسَانٍ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهَا” (آية 4). يواصل بولس سرد قصَّة صعوده السماوي “وَلِئَلاَّ أَرْتَفِعَ بِفَرْطِ الإِعْلاَنَاتِ، أُعْطِيتُ شَوْكَةً فِي الْجَسَدِ، مَلاَكَ الشَّيْطَانِ لِيَلْطِمَنِي، لِئَلاَّ أَرْتَفِعَ. مِنْ جِهَةِ هذَا تَضَرَّعْتُ إِلَى الرَّبِّ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ أَنْ يُفَارِقَنِي. فَقَالَ لِي: «تَكْفِيكَ نِعْمَتِي، لأَنَّ قُوَّتِي فِي الضَّعْفِ تُكْمَلُ». فَبِكُلِّ سُرُورٍ أَفْتَخِرُ بِالْحَرِيِّ فِي ضَعَفَاتِي، لِكَيْ تَحِلَّ عَلَيَّ قُوَّةُ الْمَسِيحِ” (رسالة كورنثوس 2: إصحاح 12، آيات 7-9). يذكر بولس تكرار مشاهدته المسيح في رؤى نقل عنه من خلالها علمًا وافرًا؛ وبسبب هذه المنزلة، حسده شيطان ليوقف ارتقاءه، فأصابه بالأذى. وفي رحلة بولس إلى السماء الثالثة فرصة لا تُتح لأي بشر لتلقِّي أسرار كونيَّة تنفع في تسيير الأمور وإحداث الخوارق، ومن ثمَّ تلقينها لمن يستحق وبعد أخذ الأمر من الوحي الربَّاني.
وربَّما يقصد بولس بقوله “كَلِمَاتٍ لاَ يُنْطَقُ بِهَا، وَلاَ يَسُوغُ لإِنْسَانٍ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهَا” في الآية 4 علمًا باطنيًّا لا يتكشَّف إلَّا للعارفين في عباداتهم التأمُّليَّة، كما لا يُكشف عنه إلَّا بأمر إلهي. ويتَّفق ذلك مع ما ورد في سفر حبقوق عن أنَّ تحقُّق الرؤى لا يتم إلَّا في موعد حدَّده الرب وبإذنه: “لأَنَّ الرُّؤْيَا بَعْدُ إِلَى الْمِيعَادِ، وَفِي النِّهَايَةِ تَتَكَلَّمُ وَلاَ تَكْذِبُ. إِنْ تَوَانَتْ فَانْتَظِرْهَا لأَنَّهَا سَتَأْتِي إِتْيَانًا وَلاَ تَتَأَخَّرُ” (إصحاح 2: آية 3). وتذكيرًا بوصيَّة القبَّالي بولندي الأصل يهودا أشلق (1886-1954) بشأن نشر تعاليم القبَّالة، فقد ذكر أنَّ الخلاص بظهور المسيَّا يحتاج إلى كمال روحاني لن يتأتَّى إلا باعتناق البشر تلك العقيدة، وهذا ما دفعه إلى تكريس جانب من وقته لتسهيل فهمها على البسطاء. وقد تنبَّأ القبَّالي إيليا بن شلومو زلمان كريمر (1720-1797) في كتابه صوت اليمام بأنَّ موعد نشر تعاليم القبَّالة هو تسعينات القرن الماضي، تحسُّبًا لظهور المسيَّا، ولا شكَّ أنَّ تحديد موعد للكشف عن تلك العلوم الباطنيَّة مستمدٌ من تلك الآية المشار إليها في سفر حبقوق.
وقد عبَّر بولس عن كتمانه علمًا باطنيًّا لم يكشف عنه إلَّا حينما سنحت الفرصة، وذلك في ختام رسالته إلى أهل روميَّة “وَلِلْقَادِرِ أَنْ يُثَبِّتَكُمْ، حَسَبَ إِنْجِيلِي وَالْكِرَازَةِ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ، حَسَبَ إِعْلاَنِ السِّرِّ الَّذِي كَانَ مَكْتُومًا فِي الأَزْمِنَةِ الأَزَلِيَّةِ. وَلكِنْ ظَهَرَ الآنَ، وَأُعْلِمَ بِهِ جَمِيعُ الأُمَمِ بِالْكُتُبِ النَّبَوِيَّةِ حَسَبَ أَمْرِ الإِلهِ الأَزَلِيِّ، لإِطَاعَةِ الإِيمَانِ. للهِ الْحَكِيمِ وَحْدَهُ، بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ، لَهُ الْمَجْدُ إِلَى الأَبَدِ. آمِينَ” (رسالة روميَّة: إصحاح 16، آيات 25-27). بدأ بولس رحلته الدعويَّة بعد تلقِّيه علمًا من يسوع، وتواصله مع الروح القُدُس، ولم يكشف عن ذلك العلم إلَّا بعد أن سمح له الربُّ. وعلى نفس المنوال، أوصى بولس الرسول أهلَ أفسس في ختام رسالته إليهم بالتمسُّك بـ “كلمة الربِّ” والصلاة كي يُسمح له بالكشف عن “سرِّ” الإنجيل “وَخُذُوا خُوذَةَ الْخَلاَصِ، وَسَيْفَ الرُّوحِ الَّذِي هُوَ كَلِمَةُ اللهِ. مُصَلِّينَ بِكُلِّ صَلاَةٍ وَطِلْبَةٍ كُلَّ وَقْتٍ فِي الرُّوحِ، وَسَاهِرِينَ لِهذَا بِعَيْنِهِ بِكُلِّ مُواظَبَةٍ وَطِلْبَةٍ، لأَجْلِ جَمِيعِ الْقِدِّيسِينَ. وَلأَجْلِي، لِكَيْ يُعْطَى لِي كَلاَمٌ عِنْدَ افْتِتَاحِ فَمِي، لأُعْلِمَ جِهَارًا بِسِرِّ الإِنْجِيلِ” (رسالة أفسس: إصحاح 6، آيات 17-19). ويوصي يسوع في إنجيل متَّى تلامذته في خطابه إليه على جبل الزيتون بعد قيامته بالصبر حتَّى يحين وقت تبشيرهم بالعلم الذي اختصَّهم به، مهما كثرت الفتن وانتشرت تعاليم مخالفة لرسالته “الَّذِي يَصْبِرُ إِلَى الْمُنْتَهَى فَهذَا يَخْلُصُ. وَيُكْرَزُ بِبِشَارَةِ الْمَلَكُوتِ هذِهِ فِي كُلِّ الْمَسْكُونَةِ شَهَادَةً لِجَمِيعِ الأُمَمِ. ثُمَّ يَأْتِي الْمُنْتَهَى” (إنجيل متَّى: إصحاح 24، آيتان 13-14). أمَّا في إنجيل لوقا، فهو يوصى عدم كتمان مَن يؤتمن على علم نوراني ما يتلقَّاه من أسرار ذلك العلم “«وَلَيْسَ أَحَدٌ يُوقِدُ سِرَاجًا وَيُغَطِّيهِ بِإِنَاءٍ أَوْ يَضَعُهُ تَحْتَ سَرِيرٍ، بَلْ يَضَعُهُ عَلَى مَنَارَةٍ، لِيَنْظُرَ الدَّاخِلُونَ النُّورَ. لأَنَّهُ لَيْسَ خَفِيٌّ لاَ يُظْهَرُ، وَلاَ مَكْتُومٌ لاَ يُعْلَمُ وَيُعْلَنُ. فَانْظُرُوا كَيْفَ تَسْمَعُونَ، لأَنَّ مَنْ لَهُ سَيُعْطَى، وَمَنْ لَيْسَ لَهُ فَالَّذِي يَظُنُّهُ لَهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ»” (إصحاح 8: آيات 16-18). لا يتقيَّد الكشف عن العلم الباطني هُنا بتوقيت زمني، إنَّما بمَن له الأحقيَّة في تلقِّي ذلك العلم “لأَنَّ مَنْ لَهُ سَيُعْطَى، وَمَنْ لَيْسَ لَهُ فَالَّذِي يَظُنُّهُ لَهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ“.
تكليف بولس بنشر تعاليم المسيح
كما سبقت الإشارة، ذكر بولس في رسالته الثانية إلى أهل كورنثوس عن مثرة تلقِّيه رؤى للربِّ يسوع المسيح وتلقِّيه علومًا اختصَّه بها خلال تلك الرؤى (إصحاح 12: آية 2). ويروي بولس في سفر أعمال الرسل كيفية تكليفه بنشر تلك العلوم السريَّة “وَحَدَثَ لِي بَعْدَ مَا رَجَعْتُ إِلَى أُورُشَلِيمَ وَكُنْتُ أُصَلِّي فِي الْهَيْكَلِ، أَنِّي حَصَلْتُ فِي غَيْبَةٍ. فَرَأَيْتُهُ قَائِلاً لِي: أَسْرِعْ! وَاخْرُجْ عَاجِلاً مِنْ أُورُشَلِيمَ، لأَنَّهُمْ لاَ يَقْبَلُونَ شَهَادَتَكَ عَنِّي” (إصحاح 22: آيتان 17-18). والتعليم لم يقتصر على فئة بعينها، إنَّما للبشر كافَّة، كما تقول الآية 21 في الإصحاح 22 “فَقَالَ لِي: اذْهَبْ، فَإِنِّي سَأُرْسِلُكَ إِلَى الأُمَمِ بَعِيدًا“، وتبرير ذلك ذُكر في السابق: لم يظهر المسيَّا إلَّا بانتشار ممارسة طقوس القبَّالة ووصول البشر إلى حالة من الكمال الروحاني تتيح التحامهم بالمسيَّا، ومن ثمَّ وصولهم إلى الخلاص. أمَّا عن قوله “حَصَلْتُ فِي غَيْبَةٍ“، فهو يوضح دخول بولس في حالة تأمُّليَّة يمرُّ بها ممارسو طقوس القبَّالة، وعادةً ما يتخللها خروج من الحيز الزماني والمكاني إلى عوالم أخرى.
ويذكِّر تقليل بولس الرَّسول من أهميَّة الصلاة بحركات الجسد، اعتقادًا منه أنَّ الصلاة بالرُّوح تغني، كما جاء في رسالته إلى أهل روميَّة “الرُّوحُ أَيْضًا يُعِينُ ضَعَفَاتِنَا، لأَنَّنَا لَسْنَا نَعْلَمُ مَا نُصَلِّي لأَجْلِهِ كَمَا يَنْبَغِي. وَلكِنَّ الرُّوحَ نَفْسَهُ يَشْفَعُ فِينَا بِأَنَّاتٍ لاَ يُنْطَقُ بِهَا” (رسالة روميَّة: إصحاح 8، آية 26)، بما قاله الساحر التائب حامد آدم بأنَّ التكليف بأداء الفرائض الدينيَّة يُرفع عن المتصوِّف بعد أن غُفرت ذنوبه بعد مرحلة الحضرة الإلهيَّة، وكذلك بما قاله مصطفى عبد الخالق، الذي يدَّعي أنَّه المهدي المبشَّر به في السُّنَّة النبويَّة، حينما أشار إلى أنَّه ظلَّ يصلِّي حتَّى جاءه التكليف بمهمَّته الإصلاحيَّة بعد أن حلَّ الرُّوح القُدُس عليه. ويتنافى ذلك بالكليَّة مع ما روته الأناجيل عن مواظبة المسيح على الصلاة (إنجيل مرقس: إصحاح 1، آية 35-إنجيل لوقا: إصحاح 5، آية 16؛ إصحاح 6: آية 12). وقد جاء عن لسان نبي الله عيسى في الآية 31 من سورة مريم “وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا”. كما روي عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: أن نبي الله-صلى الله عليه وسلم-كان يقوم من الليل حتى تتفطَّر قدماه، فقالت عائشة: لمَ تصنع هذا يا رسول الله وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! قال: “أفلا أحب أن أكون عبدًا شكورًا”؛ متفق عليه.
(المصدر: رسالة بوست)