بولس الرَّسول: رائد دعوة التَّبشير أم مؤسِّس المسيحيَّة؟ 1من 3
إعداد د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن
بسم الله الرحمن الرحيم
“وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ (48) وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلك لَآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (49) وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ” (50) (سورة آل عمران: آيات 48-50)
“لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلك بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ (78)” (سورة المائدة: الآية 78)
“هؤُلاَءِ الاثْنَا عَشَرَ أَرْسَلَهُمْ يَسُوعُ وَأَوْصَاهُمْ قَائِلاً: «إِلَى طَرِيقِ أُمَمٍ لاَ تَمْضُوا، وَإِلَى مَدِينَةٍ لِلسَّامِرِيِّينَ لاَ تَدْخُلُوا. بَلِ اذْهَبُوا بِالْحَرِيِّ إِلَى خِرَافِ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ الضَّالَّةِ. وَفِيمَا أَنْتُمْ ذَاهِبُونَ اكْرِزُوا قَائِلِينَ: إِنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ” (إنجيل متَّى: إصحاح 10، آيات 5-7)
“فَاذْهَبُوا وَتَلْمِذُوا جَمِيعَ الأُمَمِ وَعَمِّدُوهُمْ بِاسْمِ الآب وَالابْنِ وَالرُّوحِ الْقُدُسِ” (إنجيل متَّى: إصحاح 28، آية 19)
يفترض المؤرِّخ الديني، المتخصِّص في تاريخ المسيحيَّة شارل جينيبير في كتابه Le Christianisme Antique (1921)، والذي نشره الإمام عبد الحليم محمود-شيخ الأزهر الأسبق وأستاذ الفلسفة الإسلاميَّة ومقارنة الأديان-باسم المسيحيَّة: نشأتها وتطوُّرها أنَّ فَهم المسيحيَّة على أصولها لا يمكن سوى من خلال دراسة الأبعاد التاريخيَّة والثقافيَّة المؤثِّرة في نشأتها؛ يقول الإمام عبد الحليم محمود في إصداره المترجم من كتابه “الرأي المتفق عليه عامَّةً هو أنَّه للوصول إلى فَهم مبدأ المسيحيَّة و((جوهرها))، وإلى إدراك الأسباب التي نشأت منها، لا يكفي استيعاب المراجع المسيحيَّة والتحقيق المدقِّق في التفكير الديني والأخلاقي والاجتماعي بين أرجاء العالم اليوناني الروماني، حيث انبثق الإيمان ونما وتطوَّر، بل إنَّ سرَّ نشأة هذا الدين وطبيعته الأولى، يجب الرجوع في دراسة جوانب كثيرة منهما إلى حضارات سوريا وآسيا الصغرى ومصر، وكذلك بلاد ما بين النهرين، وكل هذه البيئة التي ظهر فيها بادئ ذي بدء، ثمَّ وجد العناصر الأولى للحياة والانتشار” (ص19).
تستمد المسيحيَّة أصلها من اليهوديَّة؛ فهي عبارة عن تصوُّر لعقيدة المسيانيَّة التي آمن بها بنو إسرائيل بعد الاختلاط بالأمم الوثنيَّة خلال سنوات السبي البابلي. وشكَّل يسوع صورة للمسيَّا الموعود، ولكن غير مكتملة؛ وهذا ما تسبَّب في حرب اليهود عليه. تأثَّر المؤمنون بدعوة يسوع وبصحَّة تجسيده للمسيَّا الموعود به في العهد القديم بأحداث حياته، منذ ميلاده وحتَّى صلْبه للتكفير عن خطايا البشر، وبخاصَّة الخطيئة الأولى-أكْل آدم وزوجه من الشجرة وسقوطهما من الجنَّة. أمَّا باقي بني إسرائيل، فلم يصدِّقوا كونه المسيَّا. ومن المثير للاهتمام أنَّ المسيحيِّين الأوائل لم يعمدوا إلى تدوين تجربة إيمانهم بالمسيح وتصديقهم دعوته التي كذَّبها القوم؛ وربما السبب إيمانهم باقتراب نهاية العالم وبداية ملكوت الربِّ، واعتقادهم أنَّ عودة يسوع المبشَّر بها قربت، سواءً في شخصه، أو في شخص “المعزِّي”، المبشَّر به في إنجيل يوحنَّا (إصحاح 14: آية 16). غير أنَّ خيبة أمل أصابت المنتظرين لمَّا لم يعد يسوع. يقول الكاتب “لم تظهر بذرة الشك في قُرب العودة المأمولة للمسيح إلَّا عندما انتهى أجل هذا الجيل الأوَّل من المؤمنين، وبانتهائه لم يعد هناك شهود ((مباشرين)) لحياة المسيح” (ص.27). وكان ذلك أكبر دافع وراء تدوين “الذكريات التي افترضوا صحَّتها في الأخبار المتوارثة شفاهًا” (ص27).
يرى الكثيرون، بما فيهم جينيبير، أنَّ بولس هو مؤسِّس ما يُعرف اليوم بالديانة المسيحيَّة؛ والسبب أنَّ تأثير العقائد السائدة في الأمم السابقة المؤمنة بآلهة وثنيَّة لم يكن لأيٍّ من الرُّسُل الأحد عشر الآخرين ليُحدثه. عرَّف بولس نفسه بأنَّه يهودي من سبط بنيامين، وُلد في مدينة طرسوس الواقعة جنوب الدولة البيزنطيَّة الشرقيَّة-تقع في دولة تركيا اليوم-وقد اعترف بأنَّه كان فريسيًّا “وَلَمَّا عَلِمَ بُولُسُ أَنَّ قِسْمًا مِنْهُمْ صَدُّوقِيُّونَ وَالآخَرَ فَرِّيسِيُّونَ، صَرَخَ فِي الْمَجْمَعِ: «أَيُّهَا الرِّجَالُ الإِخْوَةُ، أَنَا فَرِّيسِيٌّ ابْنُ فَرِّيسِيٍّ. عَلَى رَجَاءِ قِيَامَةِ الأَمْوَاتِ أَنَا أُحَاكَمُ»” (سفر أعمال الرُّسُل: إصحاح 23، آية 6). لا شكَّ أنَّ نشأة بولس في مدينة أمميَّة يسكنها الأغيار، وليس في كنف دولة يهودا، قد أثَّر على فكره؛ فقد كانت طرسوس-مسقط رأسه-مركزًا لنشر الفلسفة الرواقيَّة، ويشير تناوُل لسيرة بولس الرَّسول منشور على موقع St. Takla التَّبشيري إلى أنَّ الرواقيَّة تركت تأثيرها الجلي على وصف الرسول لمبادئ دعوة المسيح. أمَّا عن قصَّة إيمان بولس بالمسيح وانضمامه إلى الرُّسُل، فهو يرويها في سفر أعمال الرُّسُل: “حَدَثَ أَنَّهُ اقْتَرَبَ إِلَى دِمَشْقَ فَبَغْتَةً أَبْرَقَ حَوْلَهُ نُورٌ مِنَ السَّمَاءِ، فَسَقَطَ عَلَى الأَرْضِ وَسَمِعَ صَوْتًا قَائِلاً لَهُ: «شَاوُلُ، شَاوُلُ! لِمَاذَا تَضْطَهِدُنِي؟». فَقَالَ: «مَنْ أَنْتَ يَا سَيِّدُ؟» فَقَالَ الرَّبُّ: «أَنَا يَسُوعُ الَّذِي أَنْتَ تَضْطَهِدُهُ. صَعْبٌ عَلَيْكَ أَنْ تَرْفُسَ مَنَاخِسَ»” (الإصحاح 9: آيات 3-5). ومن هنا، يجب علينا إيضاح إسهام بولس الرَّسول في تحوُّل مجرى دعوة المسيح، بإدخال عقائد لم يعرفوا الحواريُّون أو التلاميذ من قبل.
والرواقيَّة هي فلسفة تقوم على الإيمان بالجبريَّة، أي أنَّ الإنسان مسيَّر ولا يتدخَّل في تصريفات الأقدار الإلهيَّة، كما تقوم على فلسفة وَحدة الوجود. ووفق ما تذكره موسوعة ويكيبيديا الرقميَّة عن نشأة الرواقيَّة، فقد انتشرت تلك الفلسفة في القرن الرابع قبل الميلاد، في أوج الحضارة الهلنستيَّة، “تحت تأثير الأفكار التي تدعو إلى المواطنة العالميَّة، وتحت تأثير الأفكار ذات النزعة الفرديَّة، وتحت تأثير التطورات التقنيَّة التي فرضها التوسع في المعرفة الرياضيَّة”. ويعبِّر بولس الرَّسول في رسائله عن تلك النزعة القدريَّة، وعن هيمنة الإله الخالق على زمام الأمور في الكون، وخضوع كافَّة المخلوقات إلى سلطانه في رسائله إلى الأمم لدعوتها إلى المسيحيَّة. ويرى الكاتب وليام باركلي في كتابه رسالتا غلاطية وأفسس- The Letters to the Galatians and Ephesians(1976) أنَّ أقوى تأثير للرواقيَّة على فِكر بولس يتجلَّى في دعوته لأهل أفسس باعتبارهم والبشر كافَّة “جَسَدٌ وَاحِدٌ، وَرُوحٌ وَاحِدٌ، كَمَا دُعِيتُمْ أَيْضًا فِي رَجَاءِ دَعْوَتِكُمُ الْوَاحِدِ. رَبٌّ وَاحِدٌ، إِيمَانٌ وَاحِدٌ، مَعْمُودِيَّةٌ وَاحِدَةٌ. إِلهٌ وَآبٌ وَاحِدٌ لِلْكُلِّ، الَّذِي عَلَى الْكُلِّ وَبِالْكُلِّ وَفِي كُلِّكُمْ” (رسالة أفسس: إصحاح 4، آيات 4-6). وتبرز الآية 6 إيمان بولس بعقيدة وحدة الوجود “إِلهٌ وَآبٌ وَاحِدٌ لِلْكُلِّ، الَّذِي عَلَى الْكُلِّ وَبِالْكُلِّ وَفِي كُلِّكُمْ“، باعتقاده في حلول الإله في الكون كلِّه، بما في ذلك أجساد البشر؛ ويتأكَّد ذلك أكثر في الآية 10 من الإصحاح 1 “لِيَجْمَعَ كُلَّ شَيْءٍ فِي الْمَسِيحِ، مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا عَلَى الأَرْضِ“. وقد عبَّر في أكثر من موضع في الرسالة عن إيمانه بالجبريَّة، وتسيير الأمور بحسب مشيئة الربِّ، ونذكر منها ما جاء في الإصحاح 1: “إِذْ سَبَقَ فَعَيَّنَنَا لِلتَّبَنِّي بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ لِنَفْسِهِ، حَسَبَ مَسَرَّةِ مَشِيئَتِهِ” (آية 5)؛ و “إِذْ عَرَّفَنَا بِسِرِّ مَشِيئَتِهِ، حَسَبَ مَسَرَّتِهِ الَّتِي قَصَدَهَا فِي نَفْسِهِ. لِتَدْبِيرِ مِلْءِ الأَزْمِنَةِ، لِيَجْمَعَ كُلَّ شَيْءٍ فِي الْمَسِيحِ، مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا عَلَى الأَرْضِ، فِي ذَاكَ. الَّذِي فِيهِ أَيْضًا نِلْنَا نَصِيبًا، مُعَيَّنِينَ سَابِقًا حَسَبَ قَصْدِ الَّذِي يَعْمَلُ كُلَّ شَيْءٍ حَسَبَ رَأْيِ مَشِيئَتِهِ” (آيات 9-11). يواصل بولس تبشيره بدعوة المسيح، الذي يرى أنَّ بالإيمان به يحل الروح القُدُس في المؤمن، فيضمن الخلاص يوم الدينونة: “لِنَكُونَ لِمَدْحِ مَجْدِهِ، نَحْنُ الَّذِينَ قَدْ سَبَقَ رَجَاؤُنَا فِي الْمَسِيحِ. الَّذِي فِيهِ أَيْضًا أَنْتُمْ، إِذْ سَمِعْتُمْ كَلِمَةَ الْحَقِّ، إِنْجِيلَ خَلاَصِكُمُ، الَّذِي فِيهِ أَيْضًا إِذْ آمَنْتُمْ خُتِمْتُمْ بِرُوحِ الْمَوْعِدِ الْقُدُّوسِ” (رسالة أفسس: إصحاح 1، آيتان 12-13).
يشير وليام باركلي في كتابه آنف الذكر (1976) إلى أنَّ فكرة حلول الإله في الخلق كلِّه من تأثير اعتناقه عقيدة الرواقيَّين، الذين اعتقدوا أنَّ الإله “نار، أنقى من كلِّ النيران الأرضيَّة فهو روح ناريَّة في أوضح وأنقى صورها. وكانوا يعتقدون أنَّ ما يُعطي الإنسان حياة هو أنَّ جذوة من هذه النار،” وترمز هذه الجذوة إلى الإله واهب الحياة “جاءت وحلَّت في جسده” (ص212 في ترجمة الكتاب). والسؤال: هل يختلف وصف روح الإله وهي تحلُّ في جسد المخلوق لتمنحه الروح وفق المعتقد الرواقي عن وصف حلول الروح القُدُس في المسيح بعد تعميده، كما وردت في الأناجيل؟ هكذا وصف إنجيل متَّى حلول الروح القُدُس في المسيح: “فَلَمَّا اعْتَمَدَ يَسُوعُ صَعِدَ لِلْوَقْتِ مِنَ الْمَاءِ، وَإِذَا السَّمَاوَاتُ قَدِ انْفَتَحَتْ لَهُ، فَرَأَى رُوحَ اللهِ نَازِلاً مِثْلَ حَمَامَةٍ وَآتِيًا عَلَيْهِ” (إصحاح 3: آية 16)؛ وهكذا وصفه إنجيل مرقس “وَفِي تِلْكَ الأَيَّامِ جَاءَ يَسُوعُ مِنْ نَاصِرَةِ الْجَلِيلِ وَاعْتَمَدَ مِنْ يُوحَنَّا فِي الأُرْدُنِّ. وَلِلْوَقْتِ وَهُوَ صَاعِدٌ مِنَ الْمَاءِ رَأَى السَّمَاوَاتِ قَدِ انْشَقَّتْ، وَالرُّوحَ مِثْلَ حَمَامَةٍ نَازِلاً عَلَيْهِ” (إصحاح 1: آيتان 9-10)؛ وهذا هو وصْف حلول الرُوح القُدُس في المسيح في إنجيل يوحنَّا: “وَشَهِدَ يُوحَنَّا قَائلاً: «إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ الرُّوحَ نَازِلاً مِثْلَ حَمَامَةٍ مِنَ السَّمَاءِ فَاسْتَقَرَّ عَلَيْهِ. وَأَنَا لَمْ أَكُنْ أَعْرِفُهُ، لكِنَّ الَّذِي أَرْسَلَنِي لأُعَمِّدَ بِالْمَاءِ، ذَاكَ قَالَ لِي: الَّذِي تَرَى الرُّوحَ نَازِلاً وَمُسْتَقِرًّا عَلَيْهِ، فَهذَا هُوَ الَّذِي يُعَمِّدُ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ” (إصحاح 1: آيتان 32-33)؛ أمَّا إنجيل لوقا، فلم يتناول تعميد المسيح.
تجدر الإشارة إلى تأثُّر بولس بعقيدة الغنوصيَّة، كما يتَّضح في “لاَ أَزَالُ شَاكِرًا لأَجْلِكُمْ، ذَاكِرًا إِيَّاكُمْ فِي صَلَوَاتِي. كَيْ يُعْطِيَكُمْ إِلهُ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، أَبُو الْمَجْدِ، رُوحَ الْحِكْمَةِ وَالإِعْلاَنِ فِي مَعْرِفَتِهِ. مُسْتَنِيرَةً عُيُونُ أَذْهَانِكُمْ، لِتَعْلَمُوا مَا هُوَ رَجَاءُ دَعْوَتِهِ، وَمَا هُوَ غِنَى مَجْدِ مِيرَاثِهِ فِي الْقِدِّيسِينَ” (رسالة أفسس: إصحاح 1، آيات 16-18). وتذكيرًا بأهم عناصر العقيدة الغنوصيَّة، فهي أنَّ الحكمة هي ضالَّة الإنسان، ولا يجدها إلَّا بالاتصال الروحاني بالإله من خلال جلسات تأمُّليَّة من التسبيح والذكر، وعادةً ما يكون الروح القُدُس هو الوسيط في هذه توصيل نور الإله الروحاني إلى جسد الإنسان المادِّي. تجدر الإشارة كذلك إلى أنَّ وصف الإله بالأب، في الآية 6 من الإصحاح 1 في الرسالة “إِلهٌ وَآبٌ وَاحِدٌ لِلْكُلِّ” يعبِّر عن صميم عقيدة القبَّالة، التي تعتبر أنَّ الخْلق يتم من خلال عمليَّة تزاوج بين ثنائي إلهي، ذكر وأنثى، ويُرمز للذكر بالأب، وللأنثى للأم. وتفترض القبَّالة أنَّ الذَكَر الإلهي-يهوه-قد انفصلت عنه قرينته-شخيناه-بعد الخطيئة الأولى، بأكل الإنسان الأوَّل من الشجرة المحرَّمة وسقوطه إلى الأرض، وأنَّ هذا الانفصال قد أحدث خللًا كونيًّا لن ينصلح إلَّا بعودة جميع بني إسرائيل إلى الأرض المقدَّسة، وأنَّ العودة لن تكون إلَّا في وجود المسيَّا المخلِّص، وهذه العودة لن تحدث إلَّا بالإيمان بالمخلِّص كي تجتمع الأرواح البشريَّة المشتَّتة بعد تشرذمها، وتوضح ذلك الآية 10 من الإصحاح 1 في رسالة أفسس “لِيَجْمَعَ كُلَّ شَيْءٍ فِي الْمَسِيحِ، مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا عَلَى الأَرْضِ“. على هذا النحو، يأتي خلاص البشر، كما توضح الآيتين التاليتين “لِنَكُونَ لِمَدْحِ مَجْدِهِ، نَحْنُ الَّذِينَ قَدْ سَبَقَ رَجَاؤُنَا فِي الْمَسِيحِ. الَّذِي فِيهِ أَيْضًا أَنْتُمْ، إِذْ سَمِعْتُمْ كَلِمَةَ الْحَقِّ، إِنْجِيلَ خَلاَصِكُمُ، الَّذِي فِيهِ أَيْضًا إِذْ آمَنْتُمْ خُتِمْتُمْ بِرُوحِ الْمَوْعِدِ الْقُدُّوسِ” (رسالة أفسس: إصحاح 1، آيتان 12-13).
ويتعرَّض شارل جينيبير في كتابه Le Christianisme antique (1921) لنشأة بولس الرَّسول، والعوامل الفكرَّية والعقائديَّة المشكِّلة لفكره، والتي استمدَّها من نشأته في طرسوس. ولا شكَّ أنَّ اتِّضاح ملامح اعتناق عقائد القبَّالة والغنوصيَّة والرواقيَّة في رسائل بولس الرَّسول يشير إلى تنوُّع فكري لم يُتح لباقي الرُّسُل، الذين أشارت الأناجيل إلى بساطتهم. يرى الدكتور شلبي أنَّ مفهوم التثليث ما كان ليُدخله أحدٌ من الرُّسُل سوى بولس، الذي اطَّلع على معتقدات ديانات الأمم السابقة، وطبَّقها على الديانة السماويَّة (ص46). وقد أشار سفر أعمال الرُّسُل إلى نشوب خلاف بين بولس القدِّيس برنابا، كما يشير سفر أعمال الرُّسُل في “فَحَصَلَ بَيْنَهُمَا مُشَاجَرَةٌ حَتَّى فَارَقَ أَحَدُهُمَا الآخَرَ. وَبَرْنَابَا أَخَذَ مَرْقُسَ وَسَافَرَ فِي الْبَحْرِ إِلَى قُبْرُص. وَأَمَّا بُولُسُ فَاخْتَارَ سِيلاَ وَخَرَجَ مُسْتَوْدَعًا مِنَ الإِخْوَةِ إِلَى نِعْمَةِ اللهِ” (سفر أعمال الرُّسُل: الإصحاح 15، آيتان 39-40).
ولا شكَّ أنَّ الاختلاف العقائدي بين برنابا وبولس، والذي تكشف عنه المقارنة بين مضموني إنجيل الأول ورسائل الثاني، كان سبب ذلك الخلاف. وقد افتتح بولس رسالته الثانية إلى أهل كورنثوس بتعبير عن شكواه مما كان يلاقيه من معارضة وانتقاد في رحلاته الدعويَّة، وبخاصة في إحدى رحلاته في آسيا، حيث كان يهلك، وبدأ ييأس من حياته: “كَمَا تَكْثُرُ آلاَمُ الْمَسِيحِ فِينَا، كَذلِكَ بِالْمَسِيحِ تَكْثُرُ تَعْزِيَتُنَا أَيْضًا. فَإِنْ كُنَّا نَتَضَايَقُ فَلأَجْلِ تَعْزِيَتِكُمْ وَخَلاَصِكُمُ، الْعَامِلِ فِي احْتِمَالِ نَفْسِ الآلاَمِ الَّتِي نَتَأَلَّمُ بِهَا نَحْنُ أَيْضًا. أَوْ نَتَعَزَّى فَلأَجْلِ تَعْزِيَتِكُمْ وَخَلاَصِكُمْ. فَرَجَاؤُنَا مِنْ أَجْلِكُمْ ثَابِتٌ. عَالِمِينَ أَنَّكُمْ كَمَا أَنْتُمْ شُرَكَاءُ فِي الآلاَمِ، كَذلِكَ فِي التَّعْزِيَةِ أَيْضًا. فَإِنَّنَا لاَ نُرِيدُ أَنْ تَجْهَلُوا أَيُّهَا الإِخْوَةُ مِنْ جِهَةِ ضِيقَتِنَا الَّتِي أَصَابَتْنَا فِي أَسِيَّا، أَنَّنَا تَثَقَّلْنَا جِدًّا فَوْقَ الطَّاقَةِ، حَتَّى أَيِسْنَا مِنَ الْحَيَاةِ أَيْضًا. لكِنْ كَانَ لَنَا فِي أَنْفُسِنَا حُكْمُ الْمَوْتِ، لِكَيْ لاَ نَكُونَ مُتَّكِلِينَ عَلَى أَنْفُسِنَا بَلْ عَلَى اللهِ الَّذِي يُقِيمُ الأَمْوَاتَ. الَّذِي نَجَّانَا مِنْ مَوْتٍ مِثْلِ هذَا، وَهُوَ يُنَجِّي. الَّذِي لَنَا رَجَاءٌ فِيهِ أَنَّهُ سَيُنَجِّي أَيْضًا فِيمَا بَعْدُ” (رسالة كورنثوس 2: إصحاح 1، آيات 5-10). ويرى بعض مفسِّري الكتاب المقدَّس أنَّ بولس ربَّما يقصد واقعة ذُكرت في الإصحاح 19 في سفر أعمال الرُّسُل (آيات 29-31): “امْتَلأَتِ الْمَدِينَةُ كُلُّهَا اضْطِرَابًا، وَانْدَفَعُوا بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِلَى الْمَشْهَدِ خَاطِفِينَ مَعَهُمْ غَايُوسَ وَأَرِسْتَرْخُسَ الْمَكِدُونِيَّيْنِ، رَفِيقَيْ بُولُسَ فِي السَّفَرِ. وَلَمَّا كَانَ بُولُسُ يُرِيدُ أَنْ يَدْخُلَ بَيْنَ الشَّعْبِ، لَمْ يَدَعْهُ التَّلاَمِيذُ. وَأُنَاسٌ مِنْ وُجُوهِ أَسِيَّا، كَانُوا أَصْدِقَاءَهُ، أَرْسَلُوا يَطْلُبُونَ إِلَيْهِ أَنْ لاَ يُسَلِّمَ نَفْسَهُ إِلَى الْمَشْهَدِ“. وتروي هذه الآيات عن حملة عدائيَّة شنَّها اليهود ضد بولس بسبب دعوته المخالفة للناموس، وربَّما لمطالبته المكرَّرة بإبطال العمل به، على اعتبار أنَّ الإنجيل قد نَسَخه. أراد يهودي مرتد عن المسيحيَّة دحْض بولس ومعارضة ما كان يدعو إليه؛ فحدث اضطراب. غير أنَّ ملاحقات اليهود لبولس لم تقف عند ذلك الحد، حيث “حَصَلَتْ مَكِيدَةٌ مِنَ الْيَهُودِ عَلَيْهِ، وَهُوَ مُزْمِعٌ أَنْ يَصْعَدَ إِلَى سُورِيَّةَ، صَارَ رَأْيٌ أَنْ يَرْجعَ عَلَى طَرِيقِ مَكِدُونِيَّةَ” (أعمال الرُّسُل: إصحاح 20، آية 3).
ويحدِّد الدكتور شلبي (1998) باختصار أهم الأسس التي بُنيت عليها المسيحيَّة “أخذت المسيحيَّة كيانها الأساسي من اليهوديَّة فالعهد القديم مقدَّس فيهما معًا، و(استلهمت) منها جوانب الاخلاق والروحانيَّات، و(المسيحيَّون) اعتبروا أنفسهم الشعب المختار كما فعل اليهود، وورثوا عنهم الرهبنة وفكرة الإخاء، وأخذت من الأفلاطونيَّة الحديثة جوانبها الروحيَّة والصوفيَّة، كما أخذت من الرواقيَّة، وعالجت فكرة اتِّحاد المخلوق بالخالق عن طريق الوساطة؛ إذ جعلت المسيح يجمع بين الوصفين معًا، لأنَّ الجسد الفاني لا يتَّحد بالإله الباقي، وهكذا كانت مزيجًا من عدد من الديانات والفلسفات، وظلَّت تعاصرها حتَّى القرن الثالث عشر” (ص49).
يكفي التأمُّل في عنوان كتابه عن تأثير بولس الرَّسول في تشكيل العقيدة المسيحيَّة في مهدها، وهو المسيحيَّة دين الله المنزَّل على المسيح أم هي ديانة بولس؟ (2007)، ليعرف رأي الكاتب الفلسطيني نبيل نيقولا بوخاروف-الباحث في مقارنة الأديان-في اتِّهام بولس بتحريف رسالة المسيح عن المضمون الذي نزلت به من السماء، لتصبح أشبه بعقائد الوثنيِّين عن إنسان يمتلك صفات الألوهيَّة جاء لينقذ البشر من إثم الخطيئة الأولى، ويفتح أمامهم أبواب مملكة الجنَّة بمجرَّد الإيمان به، ولا يفرقها عن العقائد الوثنيَّة سوى الوجود التاريخي الحقيقي للمسيح.
وصف الكاتب بولس الرَّسول بالكثير من الصفات السلبيَّة، منها النفاق والتلوُّن في سبيل استمالة الناس إليه بشتَّى الطرق (ص33)، والغرور والتفوُّق على الملائكة أنفسهم في المنزلة (ص35)، وساق على ذلك أدلَّة من رسائله. ويصل الأمر بالكاتب إلى حدِّ التشكيك في صحَّة رواية بولس عن رؤيته الربِّ يسوع في السماء في طريقه إلى دمشق، الواردة في ثلاثة مواضع في سفر أعمال الرُّسُل في إصحاح 9 (آيات 3-9)، وإصحاح 22 (آيات 6-12)، وإصحاح 26 (آيات 12-18). ويقول الكاتب عن تلك الروايات “كان المعنى الحقيق من هذا الادِّعاء هو تضليل الناس عن كريق الحق والافتراء عليهم” (ص38). ويجد الكاتب فيما جاء في رسالة بولس الرَّسول إلى غلاطية ثمة اعتراف يشير إلى أنَّ إنجيله لم يكن وحيًا إلهيًّا ” ثُمَّ بَعْدَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً صَعِدْتُ أَيْضًا إِلَى أُورُشَلِيمَ مَعَ بَرْنَابَا، آخِذًا مَعِي تِيطُسَ أَيْضًا. وَإِنَّمَا صَعِدْتُ بِمُوجَبِ إِعْلاَنٍ، وَعَرَضْتُ عَلَيْهِمِ الإِنْجِيلَ الَّذِي أَكْرِزُ بِهِ بَيْنَ الأُمَمِ، وَلكِنْ بِالانْفِرَادِ عَلَى الْمُعْتَبَرِينَ، لِئَلاَّ أَكُونَ أَسْعَى أَوْ قَدْ سَعَيْتُ بَاطِلاً” (رسالة غلاطية: إصحاح 2، آيتان 1-2)؛ ويتساءل الكاتب: لو أنَّ هذا الإنجيل كان وحيًا إلهيًّا منزَّهًا عن الخطأ، فما الحاجة إلى الاستشارة بشأنه؟
نعرف من سفر أعمال الرُّسُل أنَّ الحواري برنابا هو الذي قدَّم بولس إلى تلاميذ المسيح وأقنعهم بصدق إيمانه “أَخَذَهُ بَرْنَابَا وَأَحْضَرَهُ إِلَى الرُّسُل، وَحَدَّثَهُمْ كَيْفَ أَبْصَرَ الرَّبَّ فِي الطَّرِيقِ وَأَنَّهُ كَلَّمَهُ، وَكَيْفَ جَاهَرَ فِي دِمَشْقَ بِاسْمِ يَسُوعَ. فَكَانَ مَعَهُمْ يَدْخُلُ وَيَخْرُجُ فِي أُورُشَلِيمَ وَيُجَاهِرُ بِاسْمِ الرَّبِّ يَسُوعَ” (سفر أعمال الرُّسُل: إصحاح 9، آيتان 27-28). غير أنَّ هذا الاتصال والتقارب لم يستمرَّا طويلًا؛ ويُرجع الكاتب السبب في ذلك إلى إدخال بولس عقيدة بنوَّة يسوع للرب، كما جاء في رسالته إلى أهل غلاطية (إصحاح 1: آية 16)، ورسالته إلى أهل كورنثوس (إصحاح 1: آية 19)، ورسالته إلى أهل روميَّة (إصحاح 8: آية 3-إصحاح 1: آية 4). ويعترف بولس في رسائل أخرى بتخلِّي الجميع عنه، مع استثناءات قليلة، ومن نماذج ذلك ما جاء في رسالته الثانية إلى تلميذه تيموثاوس “أَنْتَ تَعْلَمُ هذَا أَنَّ جَمِيعَ الَّذِينَ فِي أَسِيَّا ارْتَدُّوا عَنِّي” (رسالة تيموثاوس: إصحاح 1، آية 15)، مطالبًا إيَّاه بالانضمام إليه بعد أن تركه كثيرٌ من تلاميذه “بَادِرْ أَنْ تَجِيءَ إِلَيَّ سَرِيعًا. لأَنَّ دِيمَاسَ قَدْ تَرَكَنِي إِذْ أَحَبَّ الْعَالَمَ الْحَاضِرَ وَذَهَبَ إِلَى تَسَالُونِيكِي، وَكِرِيسْكِيسَ إِلَى غَلاَطِيَّةَ، وَتِيطُسَ إِلَى دَلْمَاطِيَّةَ. لُوقَا وَحْدَهُ مَعِي. خُذْ مَرْقُسَ وَأَحْضِرْهُ مَعَكَ لأَنَّهُ نَافِعٌ لِي لِلْخِدْمَةِ”، وتشير الآية 11 إلى أنَّ مرقس ولوقا-كاتبي اثنين من الأناجيل الأربعة المعترف بها-كانا في صُحبة بولس الرَّسول وتتلمذا على يديه (إصحاح 4: آيات 9-11). ويعترف بولس في رسالته إلى أهل فيلبي بأنَّهم وحدهم مَن سانده في أزمته وقتما سُجن، ما لم يفعله شعب أي كنيسة أخرى “وَأَنْتُمْ أَيْضًا تَعْلَمُونَ أَيُّهَا الْفِيلِبِّيُّونَ أَنَّهُ فِي بَدَاءَةِ الإِنْجِيلِ، لَمَّا خَرَجْتُ مِنْ مَكِدُونِيَّةَ، لَمْ تُشَارِكْنِي كَنِيسَةٌ وَاحِدَةٌ فِي حِسَابِ الْعَطَاءِ وَالأَخْذِ إِلاَّ أَنْتُمْ وَحْدَكُمْ” (رسالة فيلبي: إصحاح 4، إصحاح 15).
لم يتوقَّف الخلاف بين بولس وطليعة المؤمنين بالمسيح على المسائل الفكريَّة، بل امتدَّ إلى تبايُن مضمون الدعوة التي ينشرها كلُّ فريق، لدرجة أنَّ بولس أمر أتباعه بالتمسُّك بما جاءهم به من تعاليم، وبعدم اتِّباع مخالفيه، واصفًا هؤلاء بـ “أعداء الصليب” الذين مصيرهم “الهلاك”، كما جاء في رسالته إلى أهل فيلبي “كُونُوا مُتَمَثِّلِينَ بِي مَعًا أَيُّهَا الإِخْوَةُ، وَلاَحِظُوا الَّذِينَ يَسِيرُونَ هكَذَا كَمَا نَحْنُ عِنْدَكُمْ قُدْوَةٌ. لأَنَّ كَثِيرِينَ يَسِيرُونَ مِمَّنْ كُنْتُ أَذْكُرُهُمْ لَكُمْ مِرَارًا، وَالآنَ أَذْكُرُهُمْ أَيْضًا بَاكِيًا، وَهُمْ أَعْدَاءُ صَلِيبِ الْمَسِيحِ. الَّذِينَ نِهَايَتُهُمُ الْهَلاَكُ، الَّذِينَ إِلهُهُمْ بَطْنُهُمْ وَمَجْدُهُمْ فِي خِزْيِهِمِ، الَّذِينَ يَفْتَكِرُونَ فِي الأَرْضِيَّاتِ” (رسالة فيلبي: إصحاح 3، آيات 17-19). وكان بولس قد سبَّ مخالفيه في نفس الرسالة، معيبًا عليهم تمسُّكهم بالشريعة المنسوخة “اُنْظُرُوا الْكِلاَبَ. انْظُرُوا فَعَلَةَ الشَّرِّ. انْظُرُوا الْقَطْعَ“، والمقصود بـ “الْقَطْعَ” المختونين، الذين قطعوا أجزاءً من أجسادهم دون اهتمام بتهذيب أرواحهم (رسالة فيلبي: إصحاح 3، آية 2).
وجاء في رسالة بولس الأولى إلى تيموثاوس توصية بنشر العلوم الصحيحة، وإبعاد الناس عمَّا أسماه “خرافات” تناقِض صحيح رسالة يسوع وتزعزع الإيمان به ” إِلَى تِيمُوثَاوُسَ، الابْنِ الصَّرِيحِ فِي الإِيمَانِ: نِعْمَةٌ وَرَحْمَةٌ وَسَلاَمٌ مِنَ اللهِ أَبِينَا وَالْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّنَا. كَمَا طَلَبْتُ إِلَيْكَ أَنْ تَمْكُثَ فِي أَفَسُسَ، إِذْ كُنْتُ أَنَا ذَاهِبًا إِلَى مَكِدُونِيَّةَ، لِكَيْ تُوصِيَ قَوْمًا أَنْ لاَ يُعَلِّمُوا تَعْلِيمًا آخَرَ. وَلاَ يُصْغُوا إِلَى خُرَافَاتٍ وَأَنْسَابٍ لاَ حَدَّ لَهَا، تُسَبِّبُ مُبَاحَثَاتٍ دُونَ بُنْيَانِ اللهِ الَّذِي فِي الإِيمَانِ” (رسالة تيموثاوس 1: إصحاح 1، آيات 2-4). ويشير بولس في رسالته، التي بدأها باعتباره رسول من “اللهِ أَبِينَا وَالْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّنَا“، إلى تعاليم تخالف ما جاء به، وتثير جدلًا يهدِّد الإيمان الذي ترسِّخه تعاليمه، وقد قال الآية 4 أنَّها “تُسَبِّبُ مُبَاحَثَاتٍ دُونَ بُنْيَانِ اللهِ الَّذِي فِي الإِيمَانِ“، مما يعني أنَّها لا تؤمن ببنوَّة الإله ليسوع، ولا بأنَّ الإيمان بيسوع مفتاح الخلاص، ولا بأنَّه-باعتباره رسول يسوع-يتلقَّى منه الوحي من خلال تجليَّاته له، أو بواسطة الروح القُدُس الذي ملأه. وينهى بولس تلميذه تيموثاوس في نهاية الرسالة عن الاستماع إلى المخالفين في الرأي “إِنْ كَانَ أَحَدٌ يُعَلِّمُ تَعْلِيمًا آخَرَ، وَلاَ يُوافِقُ كَلِمَاتِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ الصَّحِيحَةَ، وَالتَّعْلِيمَ الَّذِي هُوَ حَسَبَ التَّقْوَى. فَقَدْ تَصَلَّفَ، وَهُوَ لاَ يَفْهَمُ شَيْئًا، بَلْ هُوَ مُتَعَلِّلٌ بِمُبَاحَثَاتٍ وَمُمَاحَكَاتِ الْكَلاَمِ، الَّتِي مِنْهَا يَحْصُلُ الْحَسَدُ وَالْخِصَامُ وَالافْتِرَاءُ وَالظُّنُونُ الرَّدِيَّةُ. وَمُنَازَعَاتُ أُنَاسٍ فَاسِدِي الذِّهْنِ وَعَادِمِي الْحَقِّ، يَظُنُّونَ أَنَّ التَّقْوَى تِجَارَةٌ. تَجَنَّبْ مِثْلَ هؤُلاَءِ” (رسالة تيموثاوس 1: إصحاح 6، آيات 3-5).
ويُعلن بولس صراحةً خلافه مع تلاميذ المسيح في رسالته إلى أهل غلاطية في الإصحاح الثاني، ويذكر بالأسماء بطرس وبرنابا، ويصف مخالفيه بـ ” الإِخْوَةِ الْكَذَبَةِ الْمُدْخَلِينَ خُفْيَةً، الَّذِينَ دَخَلُوا اخْتِلاَسًا لِيَتَجَسَّسُوا حُرِّيَّتَنَا الَّتِي لَنَا فِي الْمَسِيحِ كَيْ يَسْتَعْبِدُونَا. اَلَّذِينَ لَمْ نُذْعِنْ لَهُمْ بِالْخُضُوعِ وَلاَ سَاعَةً، لِيَبْقَى عِنْدَكُمْ حَقُّ الإِنْجِيلِ” (رسالة غلاطية: إصحاح 2، آيتان 4-5)؛ ويتحدَّث بولس في هذه الآيات عن خلافه مع التلاميذ بشأن تمسُّكهم بالشريعة، على خلاف ما أراد هو “وَلكِنْ لَمَّا أَتَى بُطْرُسُ إِلَى أَنْطَاكِيَةَ قَاوَمْتُهُ مُواجَهَةً، لأَنَّهُ كَانَ مَلُومًا. لأَنَّهُ قَبْلَمَا أَتَى قَوْمٌ مِنْ عِنْدِ يَعْقُوبَ كَانَ يَأْكُلُ مَعَ الأُمَمِ، وَلكِنْ لَمَّا أَتَوْا كَانَ يُؤَخِّرُ وَيُفْرِزُ نَفْسَهُ، خَائِفًا مِنَ الَّذِينَ هُمْ مِنَ الْخِتَانِ. وَرَاءَى مَعَهُ بَاقِي الْيَهُودِ أَيْضًا، حَتَّى إِنَّ بَرْنَابَا أَيْضًا انْقَادَ إِلَى رِيَائِهِمْ!” (رسالة غلاطية: إصحاح 2، آيات 11-13). ويطرح الكاتب سؤالًا هامًّا في هذا السياق، وهو إذا كان بولس الرَّسول هو المؤسِّس الحقيقي للمسيحيَّة، كما نعرفها اليوم، فما الحاجة إلى الاستناد إلى تعاليم التلاميذ، الذين يصفهم بولس بالكذب والرياء؟ (ص50).
وكمثل الكاتب الفرنسي شارل جينيبير، مؤلِّف كتاب المسيحيَّة القديمة (1921) -المترجم بعنوان المسيحيَّة: نشأتها وتطوُّرها-يرى الكاتب أنَّ هناك مصدرين أساسيِّين استقى منهما علومه، الأوَّل هو تعاليم اليهود الفريسيِّين، والثاني الفلسفات اليونانيَّة السائدة في موطن ميلاده. وأهم العقائد التي تتفرَّد بها دعوة بولس هي: التجسُّد، الصلب لفداء البشر والتكفير عن الخطيئة الأولى، التثليث، بنوَّة الإله للمسيح، وإلغاء شريعة موسى.
(المصدر: رسالة بوست)