“السلفية” فخرٌ وانتماء، أم دَجلٌ وادعاء – د. ونيس المبروك
هل السلفية مرحلةٌ زمنيةٌ مباركة تُمثّل خيَر القرون، أم مذهبٌ عقديٌ وفقهيٌ وسياسيٌ يرفع شعارَه اللاحقون؟
كُلنا نحب السَلفَ الصالح ونفتخر بهم، لأنهم يُمثّلون الحلقةَ الأولى في السلسلة المتصلة بِصَدْرِ النبوّة الأوّل. ولكن لا يُمكِن التسليم لأي طائفة سُنِّيةٍ ـ مهما حسُنت نياتُها، أو علا قدرُها وتكاثر عدُّها ـ بأنهم وحدهم فقط “سلفية “!
هذه مُغالطة علمية أقرب للدجل، وهو تدليسٌ قد ينطلي على عقول الشباب المُتحمس أو عقول العامة، كما أنها دعوى عريضة، أقرب للخداع والوقيعة منها للعلم والحقيقة.
والسبب في ذلك أن “السلفية” من حيث اللغة؛ مصدر صناعي يفيد النسبةَ للسلف الصالح؛ وهم الصحابة والتابعون وأتباع التابعين، وهي أجيال مباركة حمَلت رايةَ الإسلام في عصرها وشَهِد لها القرآنُ والسنة بالخيرية العامة، ولم يجعل لهم الإسلامُ عصمةً من خطأ أو خطيئةٍ، لهم ما كسبوا ولنا ما كسبنا ولا نُسْأل عمّا كانوا يعملون!
ونحن نحب السلف الصالح ونعتبرُ محبتَهم وإجلالَهم من صميم الأصول الإسلامية، ولا نقبلُ من أي كبير أو صغير أن يزايدَ علينا في ذلك، ونقول ما قاله الإمام الطحاوي رحمه الله “ونحب أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نُفرط في حبِ أحدٍ منهم، ولا نتبرأ من أحد منهم، ونبغـض من يبغضُهـم، وبغير الخير يذكرهم، ولا نذكرهم إلا بخير، وحبُهم: دينٌ، وإيمانٌ، وإحسـان، وبغضهم: كفرٌ، ونفاقٌ، وطغيان”.
كما أننا نُجلُ وننتفعُ ونفتخر بالعلماء الأعلام الربانيين الذين ينسِبُهم الناسُ للتيار السلفي العلمي المعاصر، كالعلامة رشيد رضا وأحمد شاكر وبن باز وبن عثيمين والألباني ـ رحمهم الله جميعا ـ فقد كان لهم دور في محاربة بعض الظواهر العقدية الخاطئة، وإحياء كتب التراث، والعناية بالسنن وآثار السلف، وفضلهم فضلهم يُذكرولا يُنكر، لكننا نرفض هذه النبتةَ الجديدةَ التي ظهرت فجأةً في ديار المسلمين، وتسلّقت على أكتاف أولئك العمالقة، واحتكرت “أختام” السنة والسلف، وأُغدِق عليها بالمال، وأُفسح أمامها كلَ مجال!
نبتة غريبة
نرفض وندين بعض أفكار وأفعال هذه الطائفة المسلمة المعاصرة لعدة اعتبارات وأسباب:
أولاً ـ من يدعي أنه “سلفي” فهو يمدح نفسه ويزكيها، كأنه يقول لنا: “إن كانت السلفية هي خير القرون السابقة، فنحن خير الطوائف المعاصرة، لأننا الوكلاء الحصريون لفقه السلف واجتهادهم وسمتهم”.
ثانيا ـ لقد اختلف الصحابة والتابعون في أغلب أبواب الشريعة؛ فاختلفوا في بعض مسائل الاعتقاد، واختلفوا كثيرا جدا في مسائل أصول الاستنباط وفروع الفقه، واختلفوا أكثر بل حملوا السيف وتقاتلوا في مسائل السياسة والحكم.. فلأي فرقة من أولئك السلف تنتمون، وما الذي جعل قول بعضهم سلفيا دون بعض؟ فإن قلتم نحن سلفيون باعتبار اتباع المنهج، قلنا له: هذا أمر نتقاسمه جميعا، وحوله ندندن وإليه نسعى ونحفد، ومن الظلم والدجل أن تحتكروه دون سائر المسلمين، لأن جميعهم يقارب ويسدد، ويسعى ويجتهد كي يكونَ على “منهاج” السلف الصالح، وفق مرجعية الكتاب وصحيح السنة والأصول والمبادىء التي رسّخَها الأئمة الأعلام من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة وغيرهم.
ثالثا ـ هب أننا نريد أن نكون “سلفيين” فماذا علينا أن نفعل؟ هل مطلوب منا أن نُقلدَ السلفَ تقليداً حرفياً ظاهرياً في فتاواهم وأقوالهم وهيئاتهم وأعرافهم، ولباسهم وأدواتهم، رغم اختلافهم في شتى القضايا كما ذكرت سابقا؟! أم أن للسلفية جماعةً منظمةً لها قواعد محددة، ومواثيق مكتوبة، ودستور جامع يُعبِّر عن أفكارها لا يزيغ عنها إلا هالك؟! أم أن للسلفية “مَجْمَعٌ” مُعتمدٌ يحددُ معاييرَ الطائفةِ المنصورة، و”شيخٌ” مُطاع، يُعطي صكوك السلفية والفرقة الناجية من أماكنَ مطمورة؟
رابعاً ـ من أعظم شعارات هذه النبتة الجديدة قولهم “نحن نحيي السنةَ ونميت البدع”! أوليس مصطلح “السلفية” في نفسه بدعة عظيمة؟ زادت من فرقة المسلمين وتمزقهم، وغذت البغضاء في مجتمعاتهم؟ فقد عرف المسلمون السنة مذاهبَ الاشاعرة والماتريدية والحنابلة في العقائد، ومذاهبَ الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة في الفقه، ومذاهب الجنيد والهروي والجيلاني في التصوف، وحتى المذهب الظاهري الذي قام تأصيله ونشره أئمةٌ كبار، كداوود الظاهري وابن حزم، لم تتقبله الأمةُ في مجموعها، ونَفَرتْ منه وأعرضت، ولم تعرف المجتمعات المسلمة في عصر الصحابة والتابعين وتابعيهم مصطلحَ السلفية بالمعنى المذهبي الطائفي البدعي اليوم!
خامساً ـ كلُ إنسانٍ يستطيع أن يحلمَ بما يحب ويتمنّى، أو يدّعي ما يريد ويتحلّى؛ فهذا مجال مفتوح على مصراعيه، وكلأٌ مباح لطالبيه، وقد قالت اليهود والنصارى من قبل “نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ”! وادعى الخوارج تقوى الله، وتحكيمَ شرعِه، وادعى الشيعةُ اتباعَ النبي صلى اللهعليه وسلم ، والتشيعَ لآل بيته (يعني سلفية مُضيّقَة!)، ولكن الإسلام يمنع أن تُعطى الألقاب والأموال والحقوق بمجرد الدعوى، ويكشف زيف كل متشبع بما لم يُعط؛ قال صلى الله عليه وسلم “لو يُعْطَى النَّاسُ (بِدَعْوَاهُمْ) لادَّعَى رِجَالٌ أموالَ قَوْمٍ ودِماءَهُمْ، لَكِنِ البَيِّنَةُ على المُدَّعِي …” فما هي البيّنة، والدلائل، والعلامات على سلفية هؤلاء؟!
هكذا كان السلف
لقد كان السلف أشداء على الظلمة الفُجار، رحماءَ بينهم،… ونحن نراكم خانعين أذلاء أمام الطغاة المستبدين، قُساةً غِلاظاً أجلافاً على مَنْ يخالفُكم الرأيَ من المسلمين!
اليوم نخشى على هذا الصرح العظيم، والإرث المكتسب، من هذه الدعوات الُمريبة، التي تتَدثّر بشعاراتٍ فارغة، وتُدعم بأموال طائلة، وتسهيلات دائمة، ويقع في حبالها وينخدع بمقالها شبابُنا وبناتنا الطيبون المخلصون الغافلون، الذين تأثروا بسنوات التجهيل والتجريف الثقافي.
كان السلفُ أشدُّ الناسِ رفضاً للظلم والظالمين، وأكثرُ البَريّة تورعاً عن دماء المسلمين، ونحن نراكم تمشونَ في رِكاب الظلمة والظالمين، وتُحرضون على دماء العلماء والدعاة العاملين، وأبعدَ الناس عن مناصرة المستضعفين.
كان السلف يتواضعون ويتورعون في نسبة الصواب لرأيهم، أو ادعاء التقوى لمسلكهم، وحتى إن فعلوا الخير فإنهم “يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ”، ونحن نراكم تنضحون غروراً، وتتطاولون تيهاً وزوراً، فتحتكرون الصوابَ والحقَ، وأنصاف المتعلمين فيكم يجزمون بصواب اجتهادهم، يقطعون بصفاء مسلكهم، كأنهم حازوا معاقد الحق وخزائنه ومفاتحه.
كان السلف يَقْبَلونَ النقدَ من أيّ ناصحٍ، ويطلبونَ الحكمةَ ولو من مُخالف، ويُرحبون بالنصحِ من كل مسلم، ولا يفاضلون بين الناس إلا بالخُلقِ والتقوى والسابقةٍ والعِلم، ونحن نراكم تُبدّعِونَ العلماءَ وتُفَسِّقونَ الدعاةَ لأنهّم خالفوا مذهبَكم، وتفاضِلون بين الناس بحسَب رضى شيخُكم عنهم، ولا تقبلون النُصحَ إلا من أهل طائفتكم.
كان السلف يكرهون التنازعَ وشَقِ الصفوف، ويَضِيِقُون ذرعاً بتفرق المسلمين، ويلتمسون العذر للمخالف،… ونحن نراكم تَشقُّون صفوفَ المسلمين بأدنى شبهة، وتبدعون الناس لأدنى مخالفة، وتُوصُونَ أتباعَكَم بالقطيعة، بعد أن جعلتم الهجرَ دِيناً وقُربى.
كان السلف لا يَتَعصّبون لرأيٍ أو يتحزبون لطائفة أو يُقدّسونَ عظيماً، ونحن نراكم تُقدّسون الرجال ـ وإن لم تصرحوا بذلك ـ من الخطأ والخطايا، فلا تقرأون إلا ما كتبوا، ولا تستمعون إلا ما قالوا، ولا ترِدُون إلا حوضَهم ولا تَسْقُون إلا بدلوهم، بحجُة أن غيرَهم مبتدعٌ حقُّه أن يُهْجَر أو يُهَجَّر، أو خارجيٌ حقُّه أن يسجن او يُقتّل.
هذا “والله” ما رأيناه بأعيننا، وما شهدنا إلا بما علمنا، فعن أي سلف وسلفية تتحدثون؟
لقد تمددت هذه الطائفة في الفراغ الذي تركه العلماء الأثبات، بسبب عزوف بعضهم، والتضييق والتشويه لبعضهم الآخر، وخوف البقية بعد أن رأوا عمليات الخطف والسجن والقتل، التي يقوم بها أتباع هؤلاء، والذين لم ينج منهم حتى موتى المسلمين في قبورهم، التي نبشوها وأخرجوا رفاتها ظلماً وإجراماً وعدوانا بغير حق وبرهان.
مجتمعاتنا المسلمة كانت ـ رغم الظلم والتخلف ـ تعيش استقراراً عقديا ومذهبياً واجتماعياً، أرسى قواعدَه كِبارُ العلماء من المفسرين والمحدثين والفقهاء والمتصوفة، وتشكّل عبر قرون طويلة من البذل والعلم والعطاء والكفاح، حتى استقرت بلادنا على “اختيارات” عقدية وفقهية وفكرية وسلوكية وثقافية رشيدة، على أساسها تلاحمت وشائج المجتمعات وقامت أسس الدولة، ولكننا اليوم نخشى على هذا الصرح العظيم، والإرث المكتسب، من هذه الدعوات الُمريبة، التي تتَدثّر بشعاراتٍ فارغة، وتُدعم بأموال طائلة، وتسهيلات دائمة، ويقع في حبالها وينخدع بمقالها شبابُنا وبناتنا الطيبون المخلصون الغافلون، الذين تأثروا بسنوات التجهيل والتجريف الثقافي.
يجب على العلماء والمثقفين قول الكلمة المسؤولة، وأداء مسؤولية الكلمة؛ وفتح حوارات مع هؤلاء، وكشف بعض مسالكهم الخَطِرة، ويجب على كل مؤسسات الدولة والوطنيين، التفطُن لمخاطر الطائفية الدينية على بلداننا، التي ستؤدي مع مر السنين، إلى تقويض ثقافتنا، وتفكيك أصول الهوية الدينية لمجتمعاتنا الإسلامية من داخلها.
(المصدر: عربي21)