بقلم عمار إسماعيل – أمة بوست
خمسةَ أسبابٍ نراها تختصّ بالدرجة الأولى بالعلماء وكذلك الجماعات العاملة في مجال الدّعوة، هي من أهم أسباب هبوط منحنى الدعوة في الأمة، وهي كما ذكرها العلّامة محمد الحسن الخضر –تغمّده الله بسحائب الرحمات-. كالآتي:
-
المُداهنة
فمن أهل العلم مَن يُرى ذا جاهٍ أو رياسة؛ يهتكُ سِتر الأدب، أو يعثو في الأرض فسادًا، فيتغاضى عن سَفَهه أو بغيه، ويطوي –دونه– التذكرة والموعظة؛ ابتغاءَ مرضاته، أو حرصًا على مكانةٍ أو غنيمة ينالُها على يديه!
والمُداهنة: خُلُقٌ قَذِرٌ لا ينحطُّ فيه إلا من خفَّ في العلم وزنُه، أو من نشأ نشأة صَغَارٍ ومهانةٍ. وهذا تاريخُ العلماء الراسخين؛ ناطقٌ بما كان لهم من الإقدام على وعظ الأمراء، والإنكار عليهم إذا أساؤوا التصرّف أو أهملوا.
موقف العزّ بن عبد السلام من الملك نجم الدين أيوب
قال عزُّ الدين بن عبد السلام للملك نجم الدين أيوب في مجلسٍ حافلٍ برجال الدولة: يا أيوب! ما حُجَّتُك عند الله إذا قال لك: ألم أُبوّء لك مُلك مصر ثم تُبيح الخمور؟ فقال: هل جرى هذا؟ فقال: نعم، الحانةُ الفلانية يُباع فيها الخمور وغيرها من المُنكرات، وأنت تتقلّب في نعمة هذه المملكة، فقال: هذا أنا ما عملته، هذا من زمان أبي؛ فقال: أنت من الذين يقولون: “إنا وجدنا آباءنا على أمّة”؟ فرسَم الملك –أي أصدر الملك مرسومًا– بإبطال تلك الحانة.
أصل دعوة العلماء للأمراء
نعلم أن السُّلطة السياسيّة تنتقل أطوارًا، وأنّ موقف العلماء أمام الأمراء يختلف على قدر ما يكون للعالم من مكانةٍ في قلوب الأمّة، وعلى قدر ما يكون للأمير من حماقةٍ وأناة.
واختلاف السياسة أطوارًا أو اختلاف مواقف العلماء أمام الأمراء: إنّما يقتضي أن يكون لكلّ طورٍ سياسي –أو لموقف كلّ عالم– أسلوبٌ في الدعوة يطابق مُقتضى الحال.
أما أصلُ دعوة الأمراء إلى حق أو صالح؛ ففريضةٌ قائمة، وعزّ الدين بن عبد السلام أو أحد علماء العصر –في احتمال أمانتها ووجوب تحرير الذمة بأدائها– على سواء.
-
ضعف الجأش وقِلّة الصبر على المكاره
وهو خُلُقٌ يقطعُ لسان صاحبه عن قول الحقّ؛ مخافةَ أن لا يرتضي بعض الناس قوله، فيُضمِروا له البغضاء ويسوموه أذىً أو تهكمًا. وقد تعرّض القرآن الكريم لخصلة الاستهزاء بالمرشدين، ونبّه على أنها عادةٌ مألوفةٌ، وأذىً يعترض في طريق كل منادٍ للإصلاح، قال تعالى: “ولقد أرسلنا من قبلك في شيع الأولين. وما يأتيهم من رسولٍ إلا كانوا به يستهزئون”.
وقد يَقُصُّ علينا من بذائهم ومكرهم ما يصحّ أن يكون من حكمة تسلية الدّعاة، وتأكيد عزمهم على مواصلة الدعوة، وقلّة الاكتراث بما يُلاقونه من شغبٍ وإساءة، فإذا لقى رُسُل الله -عليهم السلام- من سفهاء القوم أذىً كثيرًا، فأغمضوا عنه وداسوه بأقدامهم؛ فلا يسعُ غيرهم ممن يريد الخير لأمّته، إلا أن ينصح لهم، ويفتح لهم في طرق الهداية أبصارهم، ولا يُبالي بمن يُنغِص –يحرّك- إليه رأسه ساخرًا، أو يُطلِق فيه لسانه لامزًا.
-
العداوة تنشب بين المصلح والفئة الجاهلة
فقد تنشبُ العداوة بين المصلح والفئة الجاهلة، فتُمسك العداوة لسانه عن نصيحتهم وإنذارهم؛ ليتمادوا في ضلال، ويتساقطوا على عملٍ يهوي بهم في خَسَار، وقد خادعت هذا البائس نفسه، فَرَمَت به في غِشٍ، وساقته إلى التهاون بواجب النصيحة.
وهذا أقربُ مثال في واقعنا اليوم هو: تعامل بعض الجماعات التي تعمل في الوسط الجهادي مع الحواضن الشعبيّة، وتعالي شباب بعض الجماعات مع أفراد مجتمعاتهم بدلًا من الشفقة عليهم والعمل على إيقاظهم من غفلتهم.
-
غُلو العَالِم في الورع
ومن عِلل إهمال الدعوة أيضًا؛ أن يغلو العالِمُ في الورع، فيأبى الذهاب إلى حيثُ يأمر بمعروف، أو ينهى عن مُنكر، حذرًا من أن يغشى نادي منكرٍ، أو يختلط بصاحب ضلالة.
حكى القاضي عيّاض في كتاب “المدارك” أن عَضُدَ الدولة (فناخسرو الديلمي)؛ بعث إلى أبي بكر بن مُجاهد والقاضي ابن الطيب؛ ليحضرا مجلسه لمناظرةِ المُعتزلَة، فلمّا وصل كتابه إليهما؛ قال الشيخ ابن مجاهد وبعض أصحابه: هؤلاء قومٌ فَسَقة، لا يحلُّ لنا أن نطأ بساطهم، وليس غرض الملك من هذا إلا أن يُقال: إنّ مجلسه يشتملُ على أصحاب المحابر كلهم، ولو كان مخلصًا لنهضت!
فهذا كان رأي ابن مجاهد وهو عدم حضور هذه المناظرة ورعًا، ولكن كان للقاضي ابن الطيب رأيًا مغايرًا لابن مجاهد ألا وهو الذهاب إلى المناظرة لعلّه يستطيع أن يُقنع الملك بحجّته ويردّ بأس المُعتزلة.
قال القاضي ابن الطيب: فقلتُ لهم –أي لابن مجاهد وأصحابه- : موقفكم هذا كموقف المحاسبي وفلانٍ ومن عاصرهم من قبل، قبيل استفحال محنة خلق القرآن، حيث قالوا وقتئذ: إنّ المأمون فاسقٌ لا يُحْضَر مجلسه، ورفضوا حضورَ مُناظرةٍ كهذه فتمكّن علماء المُعتزلة من إقناع المأمون بوجهة نظرهم في غياب وجهة النظر الأخرى، وبعد ذلك سيق ابن حنبل إلى طرسوس، وجرى عليه ما عُرِف، ولو ناظروه لكفّوه –أي المأمون– عن هذا الأمر، وتبيّن له ما هم عليه بالحُجَّة.
يُكمل القاضي ابن الطيب كلامه لابن مجاهد: وأنت أيضًا أيّها الشيخ، سلكتَ سبيل المحاسبي ورفاقه، حتى يجري على الفقهاء ما جرى للإمام أحمد في محنته، ويقولوا بخلق القرآن ونفي الرؤية، وها أنا خارجٌ إن لم تخرج، فقال ابن مجاهد: إذا شرح اللهُ صدرك لهذا فاخرج.
-
عِلّة نشأت في هذه الأيام
وهي أنّ الذين في قلوبهم زيغٌ قد وجدوا من القوة الماديّة، وسلطان الدول الأجنبية: ما يُزَيِّن لهم نشر دعايتهم الهازلة، فصادفت من بعض الأحداث أفئدةً هواءً، فباضت فيها وفرّخت، وأخذ الإلحاد والعلمانية تَدرُجُ على ألسنتهم.
وقد ينظر بعض أهل العلم أنّ هذه الفتنة، لم يسبق لها مثيلٌ فيما سلف، فيهابُ سطوتها، ويحسبها نارًا لا يمكن إطفاؤها، فيذوب أمامها، ويولّيها ظهره يائسًا!
وما هذه الفتنة إلا جولة باطل؛ يتوكّأ على قوة ماديّة، فمتى لقيَ الباطل في سبيله الحقائق تحوطها البيّنات، ذهب ذاك الباطلُ جفاءً، ولا يبقى لهذا الباطل أثرٌ إلا في نفوسٍ يذهب المنطق بين جهالتها وشهواتها ضائعًا!
هذه خمسُ أسبابٍ توضّح كيف هبط مُنحنى الدعوة الإسلاميّة وصحوتها هذه الأيام. فبعد أن أنهى الشيخ العلامة الخضر هذه الأسباب عرّج على آثار السكوت عن الدعوة.
آثار السكوت عن الدعوة
يقول الشيخ عن آثار سكوت العلماء في تبليغ الناس الحق والدعوة إليه:
ومن البَليّة في سكوت العلماء: أن العامّة يتخذونه حُجّة على إباحة الأشياء أو استحسانها، فإذا نهيتهم عن بدعة سيئة، وسُقت إليهم الدليل على قُبحها، ومُخالفتها لما شَرَع الله؛ كان جوابهم: أنّهم فعلوها بمرأى أو مسمع عن العالِمِ فلان، ولم يعترض فعلهم بإنكار!
ومن أثر التهاون بالإرشاد والدعوة: أن يتمادى المفسدون في لَهوهم، ولا يقفوا في اتّباع شهواتهم عند غاية، فتقع أعين الناس على هذه المناكر كثيرًا، فتألفها قلوبهم؛ حتى لا يكادوا يشعرون بقُبْح منظرها، أو يتفكروا في سوء عاقبتها. ومن أثر هذا: أن يُقبِل عليهم الحق بنوره الساطع، ووجهه الجميل؛ فتجفل منه طباعهم، وتجفوه أذواقه، لأول ما يُشرِفُ عليها.
ومن أثر السكوت عن بيان الحقّ والدعوة إليه: أن نبتت هذه الفتنة؛ التي تحاول القضاء على الآداب الفاضلة، والنظم الحكمية، وتهذي باسم ” الجديد” و “القديم”! و”أنصار الجديد” و “أنصار القديم”!، يفعلون هذا، وهم يعلمون ما فيه من تمزيق رابطة الأُلفة وصدع بناء الوحدة، يفعلون هذا؛ وهم يعلمون أنهم سيشاغبون أفكارًا وأقلامًا تعمل على إصلاح شؤون الأمّة، وتُجاهد في سبيل خلاصها، كأنهم يبتغون منها أن تنصرف عن هذه الغاية السامية.
وإذا كان ضرر هذه الفئة على الحياة السياسية يُساوي ضررها على الحياة الأدبية؛ فإن تقويمها، وحماية الشعوب من وبائها: لا يجب على رجال الدين خاصّة، بل هو حق على كل من يغار على الأدب، والنظام، وإطلاق الشعوب من قيود الاستعباد.
المصادر
كتاب الدعوة إلى الإصلاح للعلّامة الحسن الخضر.